تعاليق

الفوضى الامبريالية والحرب

عبد السلام أديب

نظمت الجبهة المتحدة ضد الفاشية والامبريالية الأحد 30 يوليوز 2023، ندوة رقمية حول موضوع “معًا عبر العالم ضد الحروب الإمبريالية! ودعوة الى الخروج الجماعي في اليوم العالمي ضد الحرب (6 غشت)، وقد طلب مني تقديم مداخلة تقديمية حول الموضوع، وفيما يلي نص المداخلة:

ستركز مقدمتي هذه على أهم سمات الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العالمي، في ظل تراكمات الفوضى الامبريالية والحرب، وذلك انطلاقا من أسبابها وتفاعلاتها الداخلية وانعكاساتها العالمية. مقتصرا فقط على السمات الكبرى لهذه الظواهر، تاركا للنقاش إمكانيات تفصيلها.

أولا: تراكمات الفوضى السياسية الامبريالية

يمكن تركيز اهم تراكمات الفوضى السياسية الامبريالية فيما يلي:

1 –مع انهيار سور برلين والاتحاد السوفييتي سنة 1989 و1991 ركزت الولايات المتحدة والحلف الأطلسي على سبل احتواء الاتحاد الروسي ومجموعة الدول التي كانت تابعة ومحاولة ادماجها في الحلف.

2 – كما اتجه الاتحاد الروسي خاصة عقب وصول فلادمير بوتين الى السلطة سنة 2000 الى محاولة استرجاع جزء من قوة الاتحاد السوفييتي السابقة والتمدد نحو المياه الدافئة في البحر الأسود والمحافظة على تبعية أكرانيا.

3 – ظلت الولايات المتحدة تحاصر الاتحاد الروسي وتدفعه أكثر قأكثر نحو الشرق لمنعه، على الخصوص، من الوصول الى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط. فعملت بوسائلها الاستخباراتية على مساندة الثورة البرتقالية في اكرانيا للانقلاب على النظام الذي كان تابعا لروسيا. وهي في عملها هذا تستهدف احداث قطيعة نهائية بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي، وهو ما نجحت فيه مع دفع روسيا الى غزو اكرانيا في 24 فبراير 2022.

4 – منذ دخول الصين الى منظمة التجارة العالمية سنة 2001 أصبحت تشكل المصدر الأساسي لتصنيع وتسويق سلاسل السلع العالمية، فأرست “طرق الحرير” مع مختلف القارات، وهو ما عزز مكانتها كقوة اقتصادية وامبريالية جديدة. لكن النمو الاقتصادي الهائل للصين اصبح يقلق الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الغربيين ويدفعها الى محاصرتها ومضايقة تطلعاتها الى ابتلاع تايوان وتم فرض العديد من العقوبات عليها لأسباب واهية في بعض الأحيان، كاتهامها بتقليد صناعاتها وسرقة وسائطها التكنولوجية.

5 –من بين الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة لتقويض العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي هو توفر هذا الأخير على مصادر هائلة من الموارد الأولية ومصادر الطاقة والتي كانت توفرها بأسعار رخيصة لأوروبا وخاصة للصناعة الألمانية. لذلك رأت في فك الارتباط بين روسيا والاتحاد الأوروبي سيجعل هذا الأخير يعتمد كليا على شراء الطاقة وحاجياتها من الصناعات من الولايات المتحدة الامريكية. وهذا ما نجحت فيه حاليا.

6 – ظل التنافس الامبريالي على الموارد الأولية ومصادر الطاقة في افريقيا مصدرا لفقر شعوبها وسببا في عدم استقرارها السياسي والاجتماعي. وتعيش افريقيا اليوم تنافسا وحشيا بين القوى الغربية من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، جعل شعوب هذه القارة تعيش من جديد تحت خطر الانقلابات والاضطرابات السياسية والحروب الاهلية. ان انتفاضة دول الساحل الأخيرة على الامبريالية فرنسية ولجوءها الى الاستعانة بقوات فاغنر الروسية لحماية استقلالها في كل من مالي وبوركينا فاسو وافريقيا الوسطى وأخيرا النيجر، من شأنه ان يدفع فرنسا الى اشعال حرب امبريالية في المنطقة لاستعادة نفوذها. فالحرب في اكرانيا أصبحت تشكل امتدادا للصراع على ثروات افريقيا بين الغرب وروسيا.

7 –شكل الصعود الاقتصادي لدول مجموعة البريكس التي تتكون من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا تحديا امبرياليا جديدا للقوى الغربية. وقد حققت مجموعة البريكس اقتصاديا مستويات نمو تفوق ما تحققه مجموعة السبعة الكبار. كما أعلنت دول البريكس مؤخرا عن اعتزامها فك الارتباط مع الدولار وربط عملتها الجديدة التي ستنشئها بالذهب.

8 –كما دفع التقارب الصيني الروسي ودول الخليج الى وساطة ناجحة للصين في المصالحة بين دول الخليج من جهة وايران من جهة أخرى، وهو ما اربك حسابات إسرائيل والولايات المتحدة الامريكية فيما يخص محاصرة التجارب النووية الايرانية. ويسعى هذا التكتل الجديد للخروج من تحت الهيمنة الأميركة والاقتراب اكثر من مجموعة البريكس، وهو ما يهدد أكثر الهيمنة الامبريالية الامريكية في العالم.

ثانيا: فوضى الازمات الاقتصادية العالمية

1 –يعيش العالم الرأسمالي منذ عقد السبعينات في ظل ازمة اقتصادية هيكلية مزمنة، تتمثل في ازمة الركود التضخمي، بسبب فائض الإنتاج والتركيب العضوي لرأس المال الذي يؤدي الى تدهور معدل الربح. وقد أصبح الهدف الرئيسي لجميع السياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة من طرف الامبرياليات هو محاولة الالتفاف على هذه الازمة التي تهدد النظام الرأسمالي ككل. وفي هذا الاطار تم اعتماد سياسات عولمة الإنتاج والتسويق ومختلف الاليات النيوليبرالية لضمان سلاسل الإنتاج العالمية عن طريق استغلال اليد العاملة الرخيصة لدول الجنوب. ويحتكر كل من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي أدوات فرض هذه السياسات عالميا خاصة عبر فرض سياسات التقويم الهيكلي.

2 – وقد اثبتت الازمات الدورية المتوالية منذ عقد التسعينات الفشل الذريع للسياسات النيوليبرالية والعولمة الاقتصادية في معالجة ازمة الركود التضخمي المزمنة. ففائض الإنتاج ما فتئ يتراكم وتدهور معدل الربح يتعمق، حيث سجل معدل الفائدة ؤقما سلبيا سنة 2018ـ كما أصبحت مختلف الاقتصاديات تعيش على دوامة المديونية المفرطة وطبع الأوراق النقدية بدون نمو حقيقي، مما جعلها توصف بالاقتصاد الزومبي. كما أصبح شبح انفجار ازمة رأسمالية عامة تلوح بقوة في الأفق قد تتجاوز في عنفها أزمة 1929.

3 – كما أدت أزمة كوفيد 19 وتدابير الاغلاق الاستثنائية سنة 2020 والحرب الاكرانية سنة 2022 الى صدمة إضافية للاقتصاد الرأسمالي، بينما لم تحققا تدميرا كافيا لفائض الإنتاج، بل انتجتا افراطا متزايدا في الاستدانة وطبع الأوراق المالية وسباق عالمي نحو التسلح وتصاعد التوترات الامبريالية وتطلعها الى معالجة ازماتها الرأسمالية الوجودية على حساب بعضها البعض مما يذكرنا بالأوضاع التي سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية.

4 – لم تعمل مختلف سياسات تدبير الازمة منذ التسعينات والى اليوم سوى على تمهيد الطريق نحو أزمات أكبر واقوى، فالابناك المركزية تحاول اليوم معالجة التضخم عن طريق الزيادة في معدلات الفائدة، وهذه الزيادة المستمرة في الفائدة تسبب الركود، بينما يشكل الركود بحد ذاته مصدرا للازمة المالية، والذي يتطلب ضخ جديد للسيولة، وبالتالي إلى مزيد من الديون، الذي أصبح فلكيا، وهو عامل إضافي للتضخم. فأزمة الرأسمالية أصبحت تدور في حلقة مفرغة.

5 – في ظل الحرب الاكرانية تحولت جل الاقتصاديات الرأسمالية نحو اقتصاد الحرب. فالإمبريالية الامريكية ترغم الدول الغربية على ارسال اسلحتها الى اكرانيا حيث يتم تدميرها فتنشأ الحاجة الى توجيه طلبيات لشراء أسلحة جديدة متطورة للدمار ، وهذا بدوره ينعش صناعات الأسلحة الامبريالية التي تعتبر اقتصاديا غير منتجة وعقيمة.

6 –إن تدمير الحرب للمباني وللبنيات التحتية وللتكنولوجيا والموارد الأخرى يعتبر إهدارا كبيرا للطاقة ولوسائل الإنتاج. لذلك فإن إعادة بناءهذه الحاجيات سيؤدي الى المزيد من انبعاثات غاز الكربون. كما يؤدي الاستخدام المتهور للأسلحة شديدة التدمير إلى تلوث التربة والماء والهواء، مع وجود تهديد دائم بأن المنطقة بأكملها يمكن أن تصبح مرة أخرى مصدرًا للإشعاع الذري، سواء نتيجة قصف محطات الطاقة النووية أو الاستخدام المتعمد للأسلحة النووية. كما أن للحرب أيضًا تأثير بيئي على المستوى العالمي، حيث زادت من صعوبة تحقيق أهداف الحد من الانبعاثات الغازية.

ثالثا: فوضى الصراع السياسي بين البنيات الفوقية والتحتية

1 – ان تزايد حجم الفوضى الامبريالية وصعوبة إيجاد حلول لفرملة الانزلاق نحو الازمة العامة للرأسمالية تغذيه التوجهات اليمينية للحكومات في العديد من الدول، مما يكرس الانقسامات السياسية بين مختلف الفصائل البرجوازية، فاقتحام انصار ترامب لمبنى الكابيتول في 6 يناير 2020 فضح حجم الانقسام السياسي داخل المجتمع الأمريكي. وهو ما حدث أيضا خلال الانتخابات البرازيلية من انقسام سياسي بين انصار لولا وبولسونارو. كما برزت الخلافات بين الفصائل السياسية المتصارعة داخل المجتمع الروسي، وظهرت معارضة متزايدة لسياسة بوتين، خاصة من طرف الجماعات القومية المتطرفة، وحيث يحاول بوتين التأقلم مع ضغوط اليمين من خلال التهديد المستمر بتصعيد الحرب مع الغرب. أما في الصين، فقد أصبحت الانقسامات داخل البرجوازية الصينية أيضًا أكثر وضوحًا، ولا سيما بين الفصيل المساند لشي جين بينغ، لصالح تعزيز سيطرة الدولة المركزية على الاقتصاد بأكمله، وعلى المنافسين الأكثر ارتباطًا بإمكانيات تطوير رأس المال الخاص و الاستثمار الأجنبي.

2 – إن هذه التناقضات لا تمنع الطبقة البرجوازية الحاكمة من تحويل آثار الأزمة على كاهل الطبقة العاملة، أو تمنعها من مواجهة الصراع الطبقي المتزايد. وحتى عندما تكون البرجوازية غير قادرة على السيطرة على انقساماتها الداخلية، فإن الطبقة العاملة تبقى مهددة بالانجرار وراء الفصائل المتنافسة لعدوها الطبقي.

3 – في مواجهة تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، بدأت الطبقة العاملة في تطوير وعيها الطبقي واشكال مواجهتها للتدهور الحتمي في ظروف معيشتها وتتطلع أكثر للعمل في حركة دولية موحدة. وهنا تأتي دينامية منظمة ايكور والجبهة الموحدة ضد الامبريالية والفاشية، كاحدى مداخل بناء أدوات الدفاع الذاتي للبروليتاريا محليا وعالميا. ففي ظل هاتين المنظمتين يمكن للنضالات السياسية والاقتصادية التي تقودها الأحزاب والمنظمات الثورية ان يشكلا صقلا وانصهارا للوعي الطبقي المحلي والعالمي، كما دعى الى ذلك الرفيق لينين سنة 1902 بشجاعة داخل الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي.

4 – إن نضالات البروليتاريا التي برزت في بريطانيا منذ صيف عام 2022، تؤكد استعداد البروليتاريا في كل مكان للتصدي للسياسات البرجوازية الكارثية. كما عبرت حركة الطبقة العاملة في فرنسا في مواجهة هجوم الحكومة الفرنسية على المعاشات التقاعدية، عن استمرارً الاستعداد النضالي المتواصل، خاصة عقب حركة السترات الصفراء، انها مجرد امثلة عن الصراع الطبقي الذي بدأ ينتعش وسط البروليتاريا في العديد من البلدان.

5 – في مواجهة محنة الحرب، لم يكن من الممكن توقع استجابة مباشرة من الطبقة العاملة ضدها. فالشهادات التاريخية تؤكد أن الطبقة العاملة لا تتحرك بشكل فعال ضد الحرب، ولكنها تتحرك مع ذلك ضد آثارها الوخيمة على حياتها ومعيشتها اليومية. لذا فإن احد المهام العاجلة للتنظيمات الثورية هي تطوير الوعي والمقاومة المفتوحة في مواجهة هجمات رأس المال المتصاعدة في ظل الحرب الحالية. فخلال الحروب تعمل البرجوازية بكافة الأساليب الأيديولوجية من نقل أعباء الازمة على كاهل الطبقة العاملة. إن اصرار المنظمات الثورية على الجمع بين عودة النضال العمالي وتفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، من شأنه أن يغير بشكل موضوعي أسس النضال الطبقي على المستويين المحلي والعالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى