هل أصبح المستقبل للجواسيس ؟
شريف حتاتة
في أوائل سنة ١٩٩٢ سافرنا – نوال السعداوي وأناـ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لنقوم بالتدريس في جامعة ” ديوك “بولاية ” نورث كارولينا ” .
المجموعة التي كنا ندرس لها كانت مكونة من سبعة وعشرين طالبا وطالبة جاءوا من مختلف الكليات والأقسام التابعة للجامعة، من الهندسة، والعلوم، والطب، والاقتصاد، والحقوق، والآداب، والفلسفة .
والنظام الجامعي في أمريكا فيه مرونة تسمح للطلبة ، بحرية اختيار مناهج حرة أي مناهج قد لا تمت بصلة مباشرة للفرع الذي قرروا التركيز عليه ، بهدف توسيع آفاقهم ، والتغلب على تجزئة المعرفة في نظام للتعليم يعتمد على التخصص.
كانت هذه أول تجربة لنا في التدريس ، وربما أول تجربة تعليـمـيـة يدرس فيها زوجان سوياً. لكن سرعان ما اندمجنا فيها ، يساعدنا على ذلك إقبال الطلبة الذين جاءوا إلينا .. كانوا شغوفين للاستماع إلى زوجين طبيبين ، روائيين حضرا إلى جامعتهم من بلاد بعيدة لا يكادون يعرفون عنها شيئاً ، ليحدثاهم عن موضوع جديد سمياه ” التمرد والإبداع “.
مع الأيام توثقت العلاقة بينهم وبيننا ، وسعت مجموعة منهم إلى الالتقاء بنا والتحدث معنا في مكتبنا ، أو في بيتنا المحاط بحديقة ورود نادرة ، أوونحن سائرين على الأقدام في الغابة الجميلة التي كانت تمتد إلى جـوار الجامعة على مساحة ٢٥ ألف فدان.
من بين هذه المجموعة كانت توجد فتاة نحيلة الجسم ، صغيرة الحجم، شعرها الحريري الداكن مقصوص مثل الصبي ، وعيناها السوداوان تلمعان ، في وجه يبدو وكأنه منحوت من الرخام الأبيض الناعم.
كانت من أبوين صينيين رحلا من بلادهما منذ سنوات واستقرا في نيويورك. لفتت أنظارنا فقد كانت تتمتع بذكاء نادر ، وبثقافة واسعة ، وكانت تعبر في الأوراق التي تتقدم بها بخيال ، وبلغة أدبية ثرية للغاية . ملامحها تظل جامدة دائماً ، وحول شفتيها تتحرك ابتسامة مراوغة . تبدو لى أحياناً كالطفل الذي نضج ، أو حتى شاخ قبل أوانه .
سألتها مرة : ” ما الذي ستفعلينه بعد الانتهاء من الدراسة ؟ “. صمتت ،وصوبت نظرتها إلى أسفل كأنها تفكر ، ثم قالت : ” لا أعرف “.
انتهى العام الدراسي ، ولم نرها بعد ذلك. مرت سنة أو أكثر ، والتقينا بها ونحن نجناز المساحات الخضراء عائدين إلى بيتنا ، توقفنا ، وتبادلنا الحديث قبل ان نستأنف سيرنا . قالت لنا إنها حصلت على الماجستير في موضوع عن ” جذور العدوان عند المغول ” ، وإنها تبحث عن عمل تقوم به لمدة سنتين أو ثلاث، قبل أن تعود إلى الجامعة لنيل الدكتوراه . كانت تحمل معها المجلة التي يصدرها اتحاد الطلبة في الجامعة ، وكان يوجد في العدد مقال لها ، فأعطته لنا ، وكتبت عليه رقم تليفونها .
عندما عدنا إلى البيت قرأت مقالها ، ثم أخذت أقلب في باقي صفحات المجلة . لفت نظري إعلان بالبنط الأسود وضعت في الهامش إلى جـواره علامات بالقلم. كان الإعلان خاصاً بحضور أحد المسئولين في ” السي أي إيه ” أي في وكالة الاستخبارات الأمريكية الخارجية ، لعقد اجتماع مع الطلبة والطالبات ، ليعرض عليهم فرص العمل المتاحة في الوكالة ، والأفاق التي يمكن أن تفتحها أمام منْ يلتحق بها.
اندهشت لنشر مثل هذا الإعلان في مجلة الطلبة . أمعنت النظر قليلاً في العلامات التي خطتها بالقلم إلى جواره وكأنها اهتمت به ، ثم بعد قليل ، انصرفت عن كل هذا ونسيته .
رسالة من ” أوزبكستان “
في بداية سنة 1997 بعد أن تركنا جامعة ” ديوك ” وعدنا إلى مصر ، فوجئت برسالة طويلة بعثت بها إلينا من جمهورية ” أوزبكستان ” الأسيوية. في هذه الرسالة المكتوبة بخطها المنمنم الصغير ، أخبرتنا أنها أصبحت تعمل مدرسة في إحدى المدن التي لم أعد أذكر اسمها ، وصارت تحكى لنا عن المجتمع هناك ، عن الناس ، وعاداتهم ، وعن بعض التجارب التي مرت بها في علاقتها معهم . تساءلت ما الذي قاد هذه المرأة الشابة التي لم يتجاوز عمرها الأربع وعشرين سنة ، إلى العيش في تلك البلاد البعيدة لتجد نفسها وحيدة وسط ناس غرباء . أعجبت بشجاعتها ، بروحها المجازفة ، الباحثة عن الجديد في بلاد تمر بالتقلبات . قلت لنفسي ربما قادتها إليها جذورها. الآسيوية ، فهي لا شك أحـد العوامل في اخـتـيـارها. ألم تكن رسالتها عن المغول الذين جاءوا من هذه المنطقة وغزو تركيا ، والهند، وبلاد أخـرى زاحفين على ظهر خيولهم في موجات كاسحة ؟.
مرت الأيام ، ومرة أخرى نسيتها. من حين لآخر كنت أتذكرالفترة التي قضيناها في جامعة ” ديوك ” ، فأرى وجهها أمامي . لكن في الأسابيع الأخيرة صرت أتتبع مثل غيري من الناس ، التطورات المتعلقة بالحرب ضد أفغانستان ، وحـديث الصحف ، ووسائل الإعلام الأخـرى عن جمهورية أوزبكستان ، عن القواعد العسكرية والتسهيلات التي وضعتها تحت تصرف الأمريكان ، عن شركات البترول مثل يونيكول و شفرون وكـانت تسعى منذ سنوات لإتمام مـشـروع للأنابيب ينقل النفط السـائل مـن الجـمـهـوريات المحيطة ” بـبـحـر القزوين ” إلى ميناء في ” تركيا ” أو فى باكستان، ماراً بأراضي “أوزبكستان” و ” أفغانستان “.
فإلى وقت قريب لم تكن الولايات المتحدة ، قد قطعت علاقتها بحكومة الطالبان . بل منحتها 154 مليون دولار كدفعة من المساعدات قبل أحداث 11سبتمبر بستة شهور.
هل أصبح المستقبل للجواسيس ؟
مع الحديث عن ” أوزبكستان ” عاد وجه الفتاة الصينية إلى خيالي من جديد ، وعاد معه الإعلان عن زيارة مسئول ” السي أي إيه ” الذي رأيته في مجلة الطلبة والعلامات التي خطتها في الهوامش ، ولأول مرة ربطت بين الاثنين. فمنذ أحداث 11 سـبـتـمـبـر وإعلان الحرب ضد الإرهاب ، زحف الحديث عن الجاسوسية ، والتجسس على حياتنا. أصبح يتردد في وسائل الإعلام ، في الصحف والتليفزيون ،في الإذاعات والأفلام ، وفي مجلات الأطفال . والجاسوسية بمعناها العصري الواسع ، لم تعد تتعلق فقط بما أسماها وزير العدل الأمريكي ” جون اشكروفت ” أعمالاً قذرة أي بالاغتيالات ، وتدبير الانقلابات ، أو شراء الأسرار ، أو تجـارة المخدرات ، والرقيق الأبيض .
أصبحت تشمل مجالات أخرى كثيرة تتعلق بدراسة المجتمعات ، وتعتمد على الأبحاث الاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية .
وتلعب الثقافة والمعرفة دوراً هاماً في التعامل مع الشعوب ، وفي خلق العلاقات مع المثقفين ، والشخصيات العامة . فالقوة التي تريد ان تسيطر على العالم لابد أن تتوافر لها معرفة عميقة بالعقليات، والأنظمة ، بطبائع الشعوب وعاداتها ، وبوسائل التأثير عليها . والأجهزة الاستخباراتية أصبحت تخطط لكل هذا من سنوات .
محاربة الإرهاب تـعـتـمـد أولاً وأخـيـراً على الوسائل الأمنية ، على الاستخبارات والأجهزة البوليسية . والأمن يتعارض مع الحرية ، لأن أشخاصها يسعون دائماً إلى تقليص حريات الأفراد والجماعات . وعندما نتتبع التطورات في أمريكا وإنجلترا ، وألمانيا ، وفرنسا ، والتي أخذت تزحف على كل بلاد العالم ، نجد أن البقية الباقية من الحريات الشخصية ، والعامة للناس مواجهة بخطر التصفية . فلم تشهد أي مرحلة سابقة من مراحل التاريخ دولة واحدة قادرة بمفردها على ان تمد سيطرتها المالية ، والعسكرية، والإعلامية إلى كل أنحاء العالم كما تفعل أمريكا ، ولا هذا التقدم التكنولوجي في وسائل الرقابة ، والاتصال ، ولا هذا التنوع والابتكار في وسائل التجسس ، ولا هذا الحجم من الأموال المخصصة لأجهزة الاسـتـخـبارات والتي تصل في الولايات المتحدة وحدها إلى ثلاثين مليار دولار. لم يحدث هذا الاستخدام الواسع لمختلف الأجهزة والأساليب للوصول إلى معرفة أدق التفاصيل في حياة الناس ، وتتبع حركاتهم ، وتصرفاتهم ، وأفكارهم ، وحتى انفعالاتهم ، ولاكتشاف العلاقات القائمة بينهم. ولم يسبق ان رأينا مثل هذا الزخم من القوانين ، والإجراءات التي تسمح بالتنصت على جميع أنواع الاتصال بين الناس أفراداً ، وجماعات ، وباعتقالهم ، وعزلهم ، وتجريدهم من وسائل المقاومة ، والدفاع عن أنفسهم .
بسبب التكنولوجيا الحديثة تم اختراع أجهزة ووسائل للتجسس المستمر على حياة المواطنين ، في مقدورها أن تغزونا في كل الأوقات ، أن تضع الإنسان تحت رقابة دائمة بالصوت وبالصورة ، وبالذبذبات ، والأشعات والأمواج التي تلتقط عن بعد ، وأن تقتفى خطواته ، وتقرأ مراسلاته ، وتسمع كلامه وتصوره وهو ينتقل من مكان إلى مكان ، ولو كان خلف الجدران في بيته .
الآن تسن قوانين وتشريعات ، ولوائح ، وقرارات في بلاد تقول عن نفسها أنها ديمقراطية ، ومتقدمة ، وخط دفاع الحضارة ضد الإرهاب ، ويمكن بمقتضاها اعتقال الأفراد لمجرد الشبهة ، وعزلهم في الانفراد بعيداً عن العالم والناس بهدف الوصول إلى معلومات عن طريق الضغط ، والوعـيـد ،والتعذيب والعقاقير ، ثم محاكمتهم سرياً أمام مجموعة منتقاه من الضباط وفی أي بقعة من بقاع العالم.
وكل هذا مـوجـه الآن ضد بضعة آلاف من العرب ، والمسلمين الذين يقال ان لهم، أو كان لهم ، أو يمكن أن تكون لهم صلة بالإرهاب. لكن هذا ليس سوى بداية المطاف. فلا أحد يعلم إلى متى ، وإلى أين ، وإلى منْ ستمتد هذه الإجراءات. فخلف هذه الحملة القمعية، تقف القوة التي تشن الحرب على أفغانستان وترتكب مجازر دموية هناك .. قوى تسعى الى قيام عالم قبيح تحل فيه الكوابيس مكان الأحلام ، إلى تحويل المجتمع إلى سجن كبير ، إلى تجنيد جميع الأنظمة ، والدول ، والمؤسسات الوطنية والدولية لتسير في هذا الاتجاه. إنها تريد أن تفرض السيطرة الكاملة لأقلية رأسمالية عنصرية حاكمة في أمريكا على آلاف الملايين من الناس. فهذه الأقلية ، رغم أنها تحتكر المال ، والسلاح ، ووسائل المعرفة ، والإعلام لم تعد قادرة على التحكم في الشعوب بالوسائل الديمقراطية الشكلية ، في ظل الأزمات التي يعاني منها نظامها ، وتزايد السخط ضد ما يعانيه الناس.
إنها صورة مخيفة لعالم الغد ، لكن في هذه الأيام يتم تنفيذها أمامنا ، ولا بد من مقاومة ما يتم. لابد من صد الهجمة التتارية على الحريات التي تشن باسم محاربة الإرهاب ، أن تعمل الأجهزة الاستخباراتية في حدود القـانون ، وحـقـوق الإنسان . يجب ألا ننساق وراء الحجج التي تقول إن الديمقراطية هي حرية للإرهاب ، إن التعذيب مشروع في هذه الحالات ، ألايقودنا الخوف من الإرهاب إلى عالم من الرعب والفساد ؟؟.
يجب أن يظل العـالم مكاناً للإبداع ، والبناء ، والأغـاني ، وبراءة الأطفال ، والكلمات الشجاعة الباحثة عن الحقيقة ، عن العدالة والحرية والسلام.