تعاليقرأي

هجرتُ الثّانوية، دون إكراه

رشيد مصباح(فوزي)

….

..

هجرتُ الثّانوية، دون إكراه. لا أعرف ماذا أفعل، أبحث عن رفقة غير عادية، أشخاص لا علاقة لهم بالدّراسة ولا بالثّانويّة. فتجود الأقدار عليّ ببعض المتسكّعين أمثالي؛ و”الطّيور على أشكالها تقع”. تعلّمتُ منهم الإحباط، والتميّع، وكيف أشحن نفسي بالأفكار السلبيّة. فغدوتُ حزينا، كئيبا. وأمسيتُ تائها، ضائعا. وقمتُ إلى بعض الصوّر احتفظ بها منذ زمن، فمزّقتُها إرْبا إرْبا.

تعلّمتُ منهمم أيضا التسكّع في الشّوارع والعربدة؛ أهيم على وجهي طوال النّهار، أجوب الشّوارع طولا وعرضا. يعيدني المساء إلى المربّع الأوّل، أترقّب قدوم “الباص” أو الحافلة الصّغيرة، أفوز بمقعد في الأمام.

وتمضي الأيام بي، وأنا غائب لا وجود لي في القسم، ولا ذكر لي يذكر، سوى من على ورقة الغيابات التي لا تخطئ اسمي. ولكن، عند اقتراب موعد الفروض والامتحانات، أكون جاهزا حينها. فأرتدي قناعا من التّذلُّل والخضوع، وأّذهب إلى المراقب العام، لأمثّل عليه دورا من الأدوار”الكوميدية” التي أجيدها بمهارة. فأحصل منه على إذن بالدّخول، ويسمح لي الأستاذ بالمشاركة في الفرض أو الامتحان. فيتكرّم عليّ هذا بنقطة أو نقطتين، ويجود عليّ ذاك بعدد من النّقاط الثّمينة. وأرغب إلى أستاذ مادّة الريّاضة البدنيّة الذي أبجّله على غيره، فأتحصّل منه على بقيّة النّقاط أنقذ بها الموقف في الأخير.

كما تعلّمتُ من الفاشلين المتسكّعين، تدخين السّجائر بأنواعها، بما في ذلك الزّطلة أو الحشيش. وكيف أميّز بين حبوب الأدوية والمهلوسات، ومدى مفعولها و تأثيرها على العقل. وعرفتُ من خلال تجربتي “الواسعة” في مخالطة الفاسدين الأشرار، كيف أخفي كشوف النّقاط قبل أن تقع عليها يد أبي.

لكن سلوكي المشين هذا، لم يحدّ من هوايتي وعشقي للكتب؛ على اختلاف ألوانها وأفكار أصحابها؛ البوليسية منها والكوميدية والتراجيدية. وكنتُ حين أعود إلى البيت في المساء، وآوي إلى غرفتي “المعزولة” عن العالم الخارجي. أفتح الكتاب لا أغلقه حتى يأخذني النّعاس، أو آتي على آخر صفحة فيه. وأذكر أنّني قرأتُ كتابا عنوانه “اللّينيّة الماركسيّة”، فتأثّرتُ به كثيرا، وضللتُ الطّريق، وزغتُ عنها “ثلاثمئة وستّين درجة”. ورحتُ أقلّد المعاندين لله، الجاحدين فضله ونعمائه. حتى إنّني تجرّأث ذات يوم، وأنا أحمل كتاب الله العزيز بين يدي، أراجع سورة البقرة التي تردّد فيها ذكر اليهود كثيرا، بإسهاب. خامرتني أفكار ووساوس عن سبب كل تلك الأهميّة التي أولاها المولى العزيز لهؤلاء اليهود مادام يبغضهم ويلعنهم؟ (اللّهم عفوك أرجو فاعفو عنّي يا كريم).

وقمتُ إلى رأسي، فخلقتُ آخر شعرة فيه. وإلى ذقني، فتركتُ لحية تتدلّى؛ كالشيطان الذي يأتي كثيرا في صورة الماعز. تيمّناً بحثالة الشّيوعيّين الملحدين، ومنهم “الرّفيق” لينين(عليه من الله ما يستحقّ), كانت (سدراتة) يومها تعدّ من أهمّ معاقل الشّيوعيّة في الجزائر و العالم، ومن موسكو إلى كوبا. وقاعدة خلفيّة للاشتراكيين التروتسكيّين. بينما البلدة هي مسقط رأس [الشيخ بشيشي بلقاسم اللوجاني] رحمة الله الواسعة عليه. أحد أهم العلماء البارزين في جمعية العلماء المسلمين.

ضائعٌ بين أقرانه

الجزء الثّاني

(21)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى