الصحافة الجديدةفي الواجهة

مصداقية الميديا الأميركية في الحضيض

مصداقية الميديا الأميركية في الحضيض سعيد مضيه

أكاذيب الدبلوماسية الأميركية واختلاقاتها أحداثا وهمية اودت بالميديا الأميركية . فالميديا الرئيسة تلتزم بترديد أكاذيب الدبلوماسية الأميركية وفبركاتها . ومع الزمن تعرف الجمهور الأميركي انه مخدوع ويتلقى الوعي الزائف من مصادر أخباره. يقول نات باري صحفي التقصي ان اباه الراحل كان اول من أسس صحيفة اليكترونية عام 1995 لنشر الحقائق التي تعري تلفيقات الميديا الأميركية. ويقول في هذا الصدد” استطاع المسئولون الحكوميون، من خلال ممارسة الضغوط على المحررين ومقدمي برامج التلفزيون، ونشر الأخبار المضللة، تهميش الصحفيين النزيهين وتقديم صورة كاذبة للجمهور الأميركي ، حول القضايا الرئيسة، خاصة الحروب القذرة في نيكاراغوا والسيلفادور وغواتيمالا”، وذلك في مقال على الكونسورتيوم نيوز التي أسسها والده الراحل روبرت باري، و نشره يوم 19 آب / أغسطس الماضي. علق نات باري على نتائج استطلاع قام بهمعهد غالوب الأميركي، حيث بين الاستطلاع:
ثقة الأميركيين بالميديا المحلية بلغت الحضيض حيث المصدقين لاخبار التلفزيونات لا يتجاوزون نسبة 11 بالمائة، ونسبة 16 بالمائة فقط يثقون بأخبار الصحف . تلك هي النتائج التي طلع بها آخر استطلاعات غالوب بصدد موقف الجمهور الأميركي من الميديا. تفاوت الخط البياني بين صعود وهبوط منذ العام 1972، ، حيث بلغت ذروة المصداقية بالصحافة نسبة 51 بالمائة، ثم راحت تهبط باضطراد ،مع فترات هبوط سريع، حيث بلغت 35 بالمائة عام 1981،مع بداية عهد دونالد ريغان، ثم اتخذت هبوطا حادا وبلغت 31 بالمائة عام 1987، بعد انكشاف فضيحة إيران كونترا(بيع سلاح لإيران يمول بأثمانه سرا عن الكونغرس العمليات الإرهابية للكونترا بالسيلفادور.
منذ ذلك الحين راحت تذوي ثقة الجمهور عاما تلو العام؛ وحاليا أجاب 46 بالمائة من الأميركيين ان ثقتهم ضئيلة جدا او معدومة ، و53بالمائة عبروا عن نفس النسبة في الثقة بأخبار التلفزة. 37 بالمائة عبروا عن “بعض ثقة” بالصحف ، و35 بالمائة لديهم ثقة الى درجة ما بأخبار التلفزيون؛اما من أجابوا بأن لديهم ” ثقة عالية ” او “قدر كبير” من الثقة فكانوا قلة نسبيا.
مضي نات باري الى القول: لكي نفهم المغزى الكامن خلف أرقام غالوب من المفيد تناول التغطية الإعلامية مقرونة بسنوات الأحداث الجارية في ذلك الزمن. فعندما بلغت الثقة ذروتها مع أواخر عقد السبعينات يتوجب ملاحظة ان الميديا نالت السمعة العالية نظرا لاستقلاليتها وانتقاداتها الجريئة؛ لم تنشر نيويورك تايمز وحدها أوراق البنتاغون عام 1971، التي كشفت أكاذيب الرئيس جونسون على الجمهور والكونغرس عن حرب فييتنام ، تبعتها كشف الواشنطون بوست الأنشطة الإجرامية للرئيس نيكسون في فضيحة ووتر غيت. كما أن الصحف نشرت بانتظام أسرار وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) ومكتب التحقيقات الفيدرالية( إف بي آي). كشفت برنامج مكتب التحقيقات للاستخبارات المضادة المتضمن التغلغل في منظمات حقوق الإنسان ومنظمات مناهضة للحرب في أميركا، وكذلك برنامج الاغتيالات السري الذي نفذته السي آي إيه وأطلقت عليه اسم “جواهر الأسرة”. فيما بعد أدرجها (فضائح سلطات الولايات المتحدة) كيرياكاو في مؤلفه :بنات الأفكار الشريرة لإدغار هوفر ( مديرمكتب التحقيقات في فترة جرائمها) وفريد هامبتون وميلك ضد إدغار هوفر.
بالمقارنة مع عقد الثمانينات ، برز توجه مبدئي جديد وتم الأخذ به والتعبير عنه في عنوان كتاب “ركبة مثنية:الصحافة وإدارة ريغان” للصحفي مارك هيرتسغارد الصادر عام 1988، وفيه أورد قائمة بالعلاقة بين الميديا وإدارة ريغان حسب التسلسل التاريخي. تميز عرض الكاتب بانحسار مسئولية ميديا الأخبار في سرد القصة كاملة لجرائم ريغان وأفعاله الشنيعة، بما في ذلك الفضيحة الكبرى لعهد ريغان _إيران كونترا.
ضمن هذه السيرورة برزت قضية فصل رايموند بونّر، المراسل الصحفي لنيويورك تايمز إثر نشره تقريرا عن مذبحة الرجال والنساء والأطفال بالسيلفادور التي تمت بدعم من الولايات المتحدة في القرية النائية إل موزوت أثناء أعياد الميلاد عام 1981.
استطاعت إدارة ريغان إقناع رئاسة تحرير نيويورك تايمز ان بونر قد استغفله الشيوعيون، بينما صدر تقرير ممول من قبل البيت الأبيض حمل اسم “الدقة في الميديا”، دحض حملات التشويه ضد بونر وزميلته ألما غويليرموبريتو، حيث اعتبرا كاذبين ، تحت ضغوط مكثفة وخذلان المحررين تم إنهاء عمل بونر بالصحيفة.
ومع أن تقرير بونّر حظي بتأييد حملة استكشاف نظمتها الأمم المتحدة بموقع المجزرة بعد عقد من الزمن، حيث اظهرت الحفريات مئات الهياكل العظمية –منها هياكل أطفال صغار-فإن فشل صحيفة نيويورك تايمز في دعم مراسلها الذي كان قد أكد الحقيقة في الوقت المناسب، قد أتاح لإدارة ريغان مواصلة دعم فرق الموت التي اقترفت مذابح مبيدة للجنس في جمهوريات أميركا الوسطى.
يعود تخلف الميديا جزئيا للجهد المنهجي الذي بذله كل من البيت الأبيض والسي آي إيه ووزارة الخارجية لاحتواء محاولات كشف الجرائم والتحكم بمرويات الميديا، وذلك من خلال استراتيجية أطلق عليها ” إدارة الإدراك”.
استطاع المسئولون الحكوميون، من خلال ممارسة الضغوط على المحررين ومقدمي برامج التلفزيون، ونشر الأخبار المضللة، تهميش الصحفيين النزيهين وتقديم صورة كاذبة للجمهور الأميركي ، حول القضايا الرئيسة، خاصة الحروب القذرة في نيكاراغوا والسيلفادور وغواتيمالا.
كيف تم الإبلاغ عن الجرائم؟ يجيب نات باري:
القصة الكاملة للكسف عن الجرائم ظهرت في كتاب لوالدي، روبرت باري، تتبع النشاط الصحفي بالصحافة صدر حديثا بعنوان” مراسلات أميركية : قراءات روبرت باري” . الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات كتبها والدي، غطت الحقبة ما بين حرب فييتنام وروسياغيت ، والقت الأضواء على كيف أضاعت صحافة واشنطون الرئيسة الطريق وكيف توصل الى الاستنتاج بأن بناء ميديا مستقلة أمر جوهري لإنقاذ الجمهورية( أسس روبرت باري الموقع الإليكتروني لصحافة التقصي، كونسورتيوم نيوز، عام 1995).
كما أوضح والدي عام 1993، في خطاب ألقاه بمناسبة إصدار اول كتبه عنوانه ” استغفال أميركا”، فإن الصحافة أخذت تتقوض بخطوات هائلة منذ العام 1977. وقال إنها قد مضت من احتكارات صحافة ووترغيت بكل ما اعتراها من أخطاء الى احتكارات صحافة ريغان- بوش(الأب) التي تميزت بالجبن وعدم الأمانة.
اوضح في عقد السبعينات “كانت الصحافة مثل كلب مراقبة”، لكن الصحافة التي ظهرت مع نهاية عقد الثمانينات غدت قوقعة لماضيها.
مع تطهير الميديا الرئيسة من المراسلين النزيهين ألقى والدي المسئولية على المحررين ومسئولي قسم الأخبار الذين نفذوا عمليات التطهير. “لا يتحمل المسئولية البيت الأبيض ولا وزارة الخارجية او السفارة بالسيلفادور في طرد بونر من نيويورك تايمز، بل دوائر التنفيذ بالصحيفة هم المسئولون”، هذا ما تذكره والدي في كتابه.
تنامى سخط والدي بحلول منتصف العام 1990 ، وقد واجه الصعوبات مع المحررين ورؤساء المكاتب في أسوشييتد برس ونيوزويك ممن أبدوا عدم اهتمام في تقديم تقارير نزيهة حول حقائق عهد إدارة ريغان، وازداد سخطه حين رأى قصر نظر ” الميديا البديلة” القائمة حينئذ وترددها. وعندما اكتشف كنزا من الوثائق النفيسة، وضعت تاريخ ثمانينات القرن الماضي تحت ضوء جديد ومربك، وجد والدي أن قلة من منابر الميديا –حتى اليسارية منها- معنية بمنحه منبرا ينشرمنه تقاريره. يرجع العديد من الوثائق لنقاشات” ذهول أكتوبر” من انتخابات 1980، وبالتحديد المزاعم القائلة ان فريق حملة ريغان قد تآمر مع النظام الثوري الجديد في طهران بأن لا يطلق سراح الرهائن ال52 إلا بعد إلحاق الهزيمة بالرئيس جيمي كارتر وإنجاح ريغان.
ورغم أن عددا هائلا من الأسئلة بقي معلقا حول الحكاية فقد تحركت معظم المنابر الإعلامية الأميركية، وهي مكتفية بتحقيقات يقوم الكونغرس بها. أنشأ والدي كونسورتيوم نيوز عام 1995 تحوي رسائل إخبارية وتحليلات، وأسس شقيقة لها نصف شهرية أسماها “آي. إف ماغازين”، وذلك كي يمكّن الصحافة التي بمقدورها اختبارقصص يدور حولها خلاف مثل تلك التي حصل عليها.
روايات مضادة
وفي العقدين التاليين أتيح لكونسورتيوم نيوز مواصلة مسيرتها مقدمة تقارير نزيهة تتجاهلها الميديا الرئيسة بصورة روتينية او تعرضها مشوهة.
قدم والدي تقارير إخبارية مضادة ، مثل ما تعلق بهاجس الميديا بحياة الرئيس بيل كلينتون الجنسية، وتقديم أكاذيب ومبالغات نائبه ، أل غور، بصورة مغلوطة، في الحملة الانتخابية عام 2000، و”نجاح” جورج بوش المشكوك فيه ، حين فاز بوش بالرئاسة رغم تخلفه بمليوني صوت عن منافسه ، أل غور. وربما بكل تأكيد فاز خصمه في انتخابات ولاية فلوريدا التي حسمت الأمر في الكلية الانتخابية.
ومن القصص الهامة التي غطاها والدي خلا سنوات رئاسته للمجلة كيف تلفتت حكومة الولايات المتحدة نحو الجهة المضادة في قضية تهريب المخدرات داخل الولايات المتحدة، ثم تسييس الاستخبارات وسوء استعمال السي آي إيه سلطاتها، وكيف دعمت الولايات المتحدة تغيير النظام في أكرانيا عام 2014، والتذرع بالأكاذيب الرسمية لتمرير عدد لا ينتهي من التدخلات العسكرية على الجمهور الأميركي.
ولكن رغم اعتزازه بالدور الذي لعبه في تطوير إعلام الإنترنت ” كي يتيح مجالا جديدا للمبادئ القديمة التي سارت عليها الصحافة، فقد أٌقر بأن كونسورتيوم نيوز” ليست سوى فقاعة في المحيط”، وأن الاتجاه الذي لا يمكن رفضه يمضي نحو تنامي الميل لوضع اليد على الأخبار. وشرح والدي في آخر مقالاته، كتبه عشية العام الجديد 2017، كيف أن الإخبار “غدا سلاحا ” في أميركا، حيث غدت الصحافة ” جبهة ثانية في حرب سياسية بلا ضابط .” غير أن تحويل الإخبار الى سلاح لم يعد محدودا بهذ الفريق السياسي أو نقيضه. عبّر عن أسفه بأن الديمقراطيين والليبراليين قد تكيفوا مع “ألتقنيات الناجحة التي كان روادها في الأغلب الجمهوريون والمحافظون الأثرياء”.

حتى اولئك الذين بداوا نشاطهم الصحافي أثناء الحرب الباردة وبلغوا الشيخوخة وتعلموا في سن مبكرة خدع الحكومة التي لجات اليها لتمرير حرب فييتنام على الجمهور الأميركي باتوا مضطرين على الإصرار في عهد ترامب على انه يتوجب على الأميركيين، كما كتب والدي، ” قبول كل ما يزودنا به مجمع الاستخبارات، حتى لو قيل لنا أن نقبل التأكيدات عالأمانة”.
كان هدفه من إنشاء بنية تحتية لصحافة مستقلة بناء بيت يؤوي الروايات الصادقة التي من شانها مواجهة العروض المزورة التي تقدمها الميديا الرئيسة للتاريخ ، والتي أقنعت شطرا كبيرا من الجمهور على تقبلها ضمن”حقيقة مصطنعة” كما سماها.
ما تذكرنا به الثقة المتلاشية باستمرار في الميديا الرئيسة هو أنه على الرغم من أن الأميركيين قد يتلقون الوعي الزائف ويرتبكون حول المواضيع الرئيسة فإن هناك انعدام ثقة غريزي يحس بها الناس تجاه المؤسسات التي تخدعهم.
الأرقام الأخيرة التي توصل اليها غالوب يجب أن تسعفنا دعوة للميديا أن تستيقظ بانها ربما تريد ان تعيد النظر في مقاربتها للصحافة. وبمقدور الهيئات التنفيذية للميديا أن ينظروا الى الثقة العالية التي اولاها الجمهور للصحافة في عقد السبعينات باعتبارها دليل إنقاذ لما يتوجب عليها عمله اليوم.
وكل من يريد إستعادة تلك الثقة يجدر به قراءة ” رسائل أميركية” و.استيعاب الدروس بالصحافة التي قدمها روبرت باري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى