ثقافة

خطفُ الحبيب

للكويتي طالب الرفاعي

..
رواية عن التطرف والإرهاب ومراجعات في الوقت الضائع
موسى إبراهيم أبو رياش
(كاتب وناقد أردني)
صدرت رواية «خطفُ الحبيب»؛ الثامنة والأحدث للروائي الكويتي طالب الرفاعي. وكانت الموضوعة الرئيسة فيها التطرف في فهم الدين الذي يؤدي إلى التشدد في السلوك وعقوق الوالدين ورفض الآخر واعتزال المجتمع، ومن ثم التورط بالإرهاب والتوحش. وتتناول الرواية ذلك من خلال شاب ابن رجل أعمال ومليونير كويتي، اسمه أحمد. وتُعرّج على قضايا أسرية ومجتمعية واقتصادية وفكرية تعاني منها الكويت بوصفها نموذجًا لمحيطها وعالمها العربي.
وجاءت الرواية الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” بعمّان بالتزامن مع صدورها عن 14 دار نشر عربية، في 338 صفحة من القطع المتوسط، وتتطور أحداثها بدءًا من الفجوة التي سببها تراخي الأب دينيًّا، وتشدد الابن، ما أدى إلى التباعد بين الطرفين، ومن ثم الانفصال والارتماء في أحضان الجماعات التي ترفع راية «الجهاد» وبأسها بينها شديد، والعداء بينها أشد من عدائها للنظام الذي جاءت لقتاله والقضاء عليه؛ إنه الفهم المغلوط للدين ومقاصده، فكانت النهاية مؤلمة دامية صادمة.
«احتضنوا ولدكم إن أمكنكم»، نصيحة ذهبية أزجاها الدكتور فاضل ليعقوب عندما استشاره بعد فوات الأوان، فالأبناء، لا سيما في سن المراهقة وما قبلها، بحاجة إلى حضنٍ يشعرهم بالدفء والحنان، وبأنهم جزء من مجموعة مترابطة، فإن لم يجدوها في الأسرة بحثوا عنها في مكان آخر. لذا يجب أن لا يتخلّى الوالدان عن دورهما المقدَّس في احتضان أولادهما مهما كانت الظروف، وأن لا يتركوهم للخدم والمتربصين؛ فالابن إن لم يكن لك، كان عليك. لهذا السبب وقعت المسؤولية على يعقوب (رجل الأعمال الكويتي) وأسرته أولًا في إلقاء ابنهم إلى الجماعات المتطرفة التي تلقفته بالأحضان، خامة جاهزة للتشكيل كما تريد.
تنبَّه يعقوب لتقصيره تجاه ابنه لكن بعد فوات الأوان، وأدرك أن انشغاله المحموم بصفقاته واجتماعاته وسفراته وشركاته أعماه عن مسؤولياته تجاه أسرته وزوجته وأولاده، وأنه كان مجرد مموّل لهم فقط. ولم تتوقف خسارة يعقوب على ابنه الأحبّ إلى قلبه، بل شملت زوجته أيضًا التي أصبحت علاقته بها باردة دون حياة، كما أنه خسر نفسه في هذه المعمعة؛ فلم يرحمها ويعطها حقها في الترويح والابتعاد عن العمل وضغوطاته، وتوثيق علاقاته بأسرته وأحفاده؛ فقد نسي العلاقات الإنسانية الدافئة التي تذكَّرها يوم زار –عَرَضًا- بيت العائلة القديم.
تُحمِّل الرواية –ضمنيًّا- المسؤولية للدولة، بسبب فتحها المجال لعدد من الجماعات لممارسة أعمالها وتجنيد الشباب وإخراجهم من البلد؛ فقد أرخت الحبل، وغضت الطرف. بالطبع ليس القصد أن تقمع الدولة هؤلاء، بل أن تقوم بواجبها في حماية الشباب وتحصينهم ضد أي خطر يتهددهم، سواء كان هذا الخطر ماديًّا أو فكريًّا أو سلوكيًّا، وذلك عن طريق نشر الفكر المعتدل، والانفتاح على الآخر، وتغليب القيم والعلاقات الإنسانية، والتكافل الاجتماعي، وترسيخ ثقافة الحوار واحترام الرأي والرأي الآخر، وتوفير البدائل، والانتصار للحق وليس للأشخاص، وعدم احتكار الحقيقة وفهم الدين.
تشير الرواية كذلك إلى عدد من القضايا والمشكلات في الكويت مثل: الخدم وتأثيرهم وسلوكياتهم، العمالة الوافدة، التجنيس، الواسطة، البذخ والإسراف مقابل الفقر والحاجة، التعسّف الوظيفي، التفكك الأسري، الطلاق العاطفي، العنف الأسري، عقوق الوالدين، وغيرها من المشكلات التي تعمل على إضعاف المجتمعات ومفاقمة تمايزها الطبقي، وغلبة الحياة المادية والاستهلاكية، وجفاف العلاقات الإنسانية. وكل ذلك يلعب دورًا مهمًّا في تغذية موارد التطرف والإرهاب، ويخلق له مبررات وحججًا للتمدّد.
أبرزت الرواية سلوكيات أحمد تجاه والديه وعقوقه لهما، متذرعًا بأدلة دينية مغلوطة، ولو عقل دينه لعلم أن مكانة الوالدين مقدسة لا تخضع للمساومة أو الرأي؛ قال سبحانه: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء:23]، فكلمة {أُفٍّ} معصية وعقوق، فكيف بمن يتطاول عليهما؟! وقال سبحانه عن الوالدَين الكافرَين: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان:15]، فالإحسان للوالدين الكافرَين وبرهما وحسن صحبتهما واجب على الابن المسلم، فكيف إن كانا مسلمَين موحدَين؟ لكن -كما يبدو- لا يوجد في مناهج الجماعات المتطرفة أي نصيب للوالدين وبرهما وطاعتهما، وأنهما الأولى بكل إحسان ومعروف.
منذ بداية الرواية، ارتفع نداء للقارئ أن يتبع الأثر، ولا يهمل رسائل القدر، فقد أخذ يعقوب بنصيحة جده النوخذة، الذي قال إن: «عليه أن يتلقى أي إشارة تمر به؛ فلكل أمر مقدمات، والحظيظ من يتعلم قراءة وحي القادم، ويتوقع ما ينتظر، ويستعد له»، وكان هذا نهج يعقوب؛ لا يهمل أي إشارة أو رسالة. لذا عندما رأى «فرناز» عَرَضًا عند باب المصعد، خُيِّل إليه «أن نداءً خفيًّا لاح في نظرتها وصفحة وجهها»، فالتقط الإشارة، وصمم أن يتعرف إليها، لكنه بقي قلقًا مهمومًا من سر النداء. لم يكن ما يجذبه العشق؛ خاصة أنها من جيل أصغر بناته، بل شيء آخر، يقول: «تعودت تتبع الإشارة، متأمّلًا ما يعبر بي من أحلام وأحداث أو أشخاص، أو حتى خبر في جريدة أو لقطة فيلم. شيءٌ خفيٌّ يهمس بروحي: تمهّل أو أقدم أو ارفض أو انسحب أو اشترِ فورًا، أو…، أو…، أو…، وقلما خابت قراءتي! رسائل الغيب، رسائل الآتي، رسائل الرحمة، رسائل السر. عجزت عن تحديد اسم لها، لكن روحي أدمنت قراءة ما يمرُّ بي؛ لذا، ومنذ لمحت فرناز، السؤال يتكرر: ماذا يكمن وراء لهفتي وانجذابي إليها؟!»، وشكَّل هذا السؤال عقدة الرواية، ومع تطور الأحداث وتعقدها في حبكة محكمة، تكشَّفَ السر، ووضحت الإشارة.
تميزت شخوص الرواية بالحركة والفاعلية والنمو مترابطة بخيوط علائقية على درجات متفاوتة من القوة والضعف، والحب والكره، والقرب والبعد، مما أكسب الرواية حيويتها وتدفقها وتصاعدها الذي يجذب القارئ بخيط آخر وثيق حتى الكلمة الأخيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى