تعاليقرأي

مجرد منزل طيني

آزاد أحمد علي

في هذا البيت نبتت رموشي وتفتحت عيناي. صاغ هذا البيت كياني وأسس لذاكرتي. لم يكن بيتاً جميلا، مجرد منزل طيني واسع، ميزته تلخصت في أنه كان بيتاً للجميع، ديوانخانة صغيرة، وأباريق شاي كبيرة. لم يكن في محيطنا قبل خمسين سنة صالات للأعراس، فكان هذا البيت مكاناً لأعراس أهل القرية، فيه جلس العشرات من شباب القرية وتوجوا ملوكاً يوم زفافهم، بل أمراءاً وحكاماً على الجوار ليوم واحد فقط، ذلك حسب تقاليد منطقة بوتان العريقة… في اليوم الذي يتويج العرسان ملوكاً كانت يحدث في هذا البيت الكثير من الهرج والمرج والمحاكمات وفرض الأتوات على أهل العريس وأصدقائه… جلوس العريس (زافا) في هذا البيت أصبحت عادة، أولا لضيق مساحات بيوتات القرية عهدئذ.
شهد هذا البيت أيضاً العديد من حفلات الطهور… هذا البيت ودع واستقبل الكثيرين: رعاة وأغوات، حزبيون ومتعلمون من أوائل معلمي المدارس القادمين من أصقاع سوريا البعيدة، مغنيين يحملون قيثاراتهم القديمة، رجال حالمين بكردستان الكبرى، عمال وفلاحون يبحثون عن لقمة العيش، سائقي شاحنات تائهين… كان أجملهم جميعاً وأكثرهم استقراراً في قاع ذاكرتي (صوفي محو) بلحيته البيضاء، بأساطيره وحكاياته التي لا تنتهي…
ظل هذا البيت مكاناً للفرح وللحياة، أغلب الذين بدأوا يومهم الأول عرساناً فيه، قد رحلوا… وأكثرية الباكين في حفلات الطهور باتوا كهولاً يجرجرون شيخوختهم وخيباتهم…
هذا البيت يتنفس روح أبي، ويسترجع ظل خيمة جدي… يعيدني الى طفولتي، الى مجتمع البساطة الأول، مجتمع الكوجر، مجتمع التكاتف وتقاسم الخبز مع الحليب… هذا البيت يسكنني ويرحل معي إلى المدن الزاهية العالية البعيدة الباردة الجامدة، المدن التي لا تعني لي في المحصلة سوى فندق وتذكرة سفر…
هذا البيت يهمس: لا تغلقوا أبوابنا ولا ترحلوا… لا تتركوا أراوح الآباء والأجداد وظل الأمهات تنتظر عودتكم طويلاً. هذه البيوت ليست أطلالاً ولا جدراناً فقط! هذه البيوت قوالب الروح وحطب النور… هذه البيوت تصرخ لا تبتعدوا… لا تبتعدوا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى