ما سر موجات التطبيع بين دول الشرق الأوسط

د. محمود عباس

ليست هناك إهانة للشعوب السورية في هذه المرحلة، بعد المجاعة والهجرة وشح المساعدات الإنسانية، أكثر من مسيرة التطبيع مع النظام في دمشق، من قبل الأنظمة العربية والدول الراعية لقضية الشعب السوري، هؤلاء الذين يتنابذون اليوم بين إعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية مع دولة النظام، وإعادة بشار الأسد إلى الحضن العربي، وفي الحالتين المجتمع السوري أمام جريمة مزدوجة مضافة على ما اقترفوه من الجرائم بحقهم.

 الشعوب السورية، بل وشعوب المنطقة عامة، يواجهون اليوم منطق سياسي حديث للأنظمة العربية بعد مرور عقد من الزمن على الصراعات بينهم، خاصة تلك التي تعرت وحاولت القضاء على النهضة الديمقراطية لشعوب المنطقة، وساهمت في تسلط المنظمات التكفيرية الإسلامية على الثورة الوطنية، ونقل المسيرات السلمية والتي كانت ترفع شعار إسقاط النظام إلى حرب أهلية طائفية، وحولوا مجموعات من الشباب السوري الطامح نحو الحرية إلى جيش من المرتزقة.

 تعجز الكلمات وشعر الرثاء العربي عن وصف ما أفظع فيه سلطة دمشق، لا يختلف عما فعله هولاكو وتيمورلنك بدمشق، ولا عن الحجاج وجرائم جيشه في المدينة ومكة، حتى ولو كانت المقارنات مبنية على ما قيل عن جرائم النظام ووقع ما وردت من الأحداث في كتب التاريخ.

 يعلم رؤساء وزعماء الدول المتجهة نحو التطبيع، أن ما فعله بشار الأسد وحاشيته بالمجتمع السوري أفظع وأبشع بكثير من كل الوثائق والفيديوهات وجميع أنواع التحقيقات التي نشرتها الإعلام، مع ذلك يتناسونها، ويودون هز الأيادي التي لا زالت تقطر منها الدماء حتى اللحظة. فهل هناك عار أقذر من هذا العار؟

 حل الخلافات والصراعات بالطرق السلمية بدل الحروب، جدلية حضارية، ترسخ القيم الإنسانية الفاضلة، وتقضي على الأحقاد بين الشعوب قبل الأنظمة والدول، وتفتح الدروب نحو ديمقرطة الأوطان، وإخماد الأحقاد والحروب الطائفية، لكن عندما تكون على حساب المجتمعات والشعوب، وبصفقات سياسية يتم فيها الاتجار بدماء وآلام ومصالح، ومستقبل الشعوب، تتحول إلى خيانة مشتركة بحق الإنسانية والشعوب المعانية.

  فمسيرة التقارب بين تركيا ونظام بشار الأسد، والوساطة الروسية، وبعد مرور إثني عشر عام على ثورتهم التي قضوا عليها، وعلى جبال الويلات والكوارث التي حلت بالشعوب السورية منذ أن نهضت لإسقاط النظام، والتبجح الخبيث بحماية السوريين، إتجار بدماء السوريين، تهدف تركيا بسياستها التي فصح عنها أردوغان بكلمته في تشرين الثاني الماضي: ” لا يمكن أن تكون هناك ضغينة في السياسة” إلى كسب المزيد من المصالح على حساب المهاجرين السوريين.

  من سمات السياسة، عدم التقيد بالوعود، وتفضيل المصالح على الديانة والأخلاق والقيم، البنية التي يتعامل عليها الأقوياء، وهو ما يعمل عليه أردوغان، وهي من حقه كسياسي، لكن كمسلم يتبجح بقيادته للعالم السني، لا تنمحي الضغينة ولا يحق تناسي آلام الشعب السوري ولا تسمح لأي مسلم نزيه مصالحة المجرم، وهي تخالف وعده الذي قطعه للاجئين السوريين في مخيم أقجه قلعة قرب مدينة سانلي أورفا في 30/12/2012م ” سنكون معكم حتى النهاية” أية نهاية كان يقصدها؟ فما يقدم عليه ليس لجلب السلام إلى المنطقة، بل لوضع الخطوات الأخيرة لمسيرة القضاء على مطامح الشعوب السورية، وتدمير أخر أحلام الشعب السوري في بناء سوريا تعددية اتحادية ديمقراطية، ومن ثم الإتيان على القضية الكوردية فيها. لربما هناك من يبرر له ما يقدم عليه، كرجل دولة، الذي يرى من مصلحته ومصلحة تركيا تعويم الميكيافيلية على الوعود والقيم الإنسانية.

  لا يختلف عنه، التطبيع السعودي-الإيراني برعاية الصين إن كانت بموافقة أمريكية أو خارج رغبتها، إن كانت لمصلحة الدولتين وشعوب المنطقة عامة، باستثناء الشعب اليهودي، أو على خلفية تقاطع رغباتهم على الأسس الدينية حتى ولو ظل الشرخ المذهبي قائما، أو على أطراف تلاقي المصالح الاقتصادية والسياسية، فهي ستساهم في تصعيد الخطاب الإيراني وأدواتها ضد إسرائيل، وهي شبه ولاية أمريكية، وهو ما لم تقبل به، لذا فهي، على الأرجح، مسيرة تمر تحت مظلة الإستراتيجية الأمريكية، حتى ولو أصبحت تحلل على أنها نهضة دولية للتحرر من الهيمنة الأمريكية، أو توجه لتكون صاحبة قراراتها، ورفض الإملاءات الأمريكية، فكما هو معروف أن التطبيع مع إيران تطبيع وبشكل غير مباشر مع النظام في دمشق، فهي التي صرحت قبل بدأ الحوار المباشر مع إيران بأنه ” يجب إنهاء الوضع الراهن بشأن سوريا”  فهل السعودية تتقرب من النظامين بدون الموافقة الأمريكية؟

الولايات المتحدة الأمريكية ليست غائبة عن مجريات الأحداث، فهي التي منعت الدول الكبرى من شراء النفط الإيراني، وحددت نسبة البيع، وجمدت التعامل وأرصدة خلق بنك التركي لتعاملها مع إيران، وبتصريح منها حصل انهيار في العملة التركية، لذلك ليس صعبا عليها تحجيم الاقتصاد السعودي، عند أي تجاوز على مصالحها، وبالتالي فدراسة المعادلة يجب أن تكون على الأبعاد الإستراتيجية العالمية، والتي هي أعمق وأوسع من مجرد تجاوز سعودي على الحصار الأمريكي على إيران، وإعادة العلاقات الدبلوماسية، وتناسي التهديدات الإيرانية لإسرائيل.

ولا يستبعد أن تكون من إحدى مساراتها فتح أبواب الحوارات بين أمريكا والصين ومثلها مع إيران لمحاربة روسيا، والتي تحاول أمريكا توسيع ساحات الصراع معها، بعد إعادة الجغرافية السورية من خلال الزيارة المفاجئة لرئيس الهيئة المشتركة للجيش الأمريكي إلى المنطقة الكوردية في سوريا.

 تبعات التطبيع على الكورد في سوريا:

الولايات المتحدة الأمريكية التي أرسلت القضية السورية، طوال السنة الماضية، إلى العتمة، على خلفية الحرب الأوكرانية، وجدت إستراتيجيا أنه لا بد من توسيع ساحة الصراع مع موسكو، وهو ما دفع بها إلى إعادة الاهتمام بالقضية السورية من خلال دفع السعودية ومصر وعمان والإمارات للتقرب من النظام السوري، والتركيز على القوات الكوردية في شمال شرق سوريا، والتي عكستها زيارة رئيس الهيئة المشتركة للجيش الأمريكي إلى غرب كوردستان، سبقها تصريح ممثل وزارة الخارجية عن غرب كوردستان من هولير، والتي كانت رسائل للدول الأربع المتوقعة أن تجتمع في موسكو.

ردود كان متبايناً كان مختلفا:

 صرح حسين أمير عبد اللهيان وزير خارجية إيران بعد زيارته لسوريا وتركيا، على أن أمن تركيا من أمن إيران، قائلاً: «ناقشنا سبل التعاون في هذا الموضوع، وتبادلت مع نظيري التركي وجهات النظر بشأن القضايا التي تقلقنا؛ على رأسها مكافحة الإرهاب»؛ لا شك أنه قصد بها الكورد وقضيتهم وقادمهم، ولتأويلها ومحاولة عزلها من بعدها العنصري يحددها بمحاربتهما للـ «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب» الكردية؛ التي تشكل القوة الرئيسة ضمن «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» في سوريا. وفي الواقع كانت الرسالة موجهة للوجود الأمريكي في سوريا. وعلينا ألا ننسى أن مثل هذا التصريح لا بد وأن تكون هناك بضاعة مقابلها من قبل تركيا، وهي، كما ذكرناها، مستقبل المنظمات العسكرية السورية في منطقة إدلب، من على طاولة التطبيع مع النظام بمعية روسيا وإيران.

ومن الجانب التركي والتي لم تكتفي باستدعاء السفير الأمريكي في أنقره وطلب التوضيح منه، بل حركت لوبيها، للتأثير على بعض النواب الأمريكيين الذين ينتمون إلى منهجية الرئيس (دونالد ترامب) بإعادة عرض المطلب التركي من أمريكا، وهو خروجها من غرب كوردستان، ستعرضها تركيا كورقة بحث على طاولة المفاوضات التي ستتم في موسكو.

  تبنى النائب الجمهوري المحافظ (مات غايتس) المطلب التركي، فطلب من الرئيس (جو بايدن) سحب القوات الأميركية المنتشرة في سوريا خلال 6 أشهر، وعرض المقترح على الكونغرس فصوت 321 نائباً ضده، مقابل 103 نائبا. وهذا ما يثبت على أن أحد جوانب زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي للمنطقة في (البعد الداخلي) كان رد عسكري- سياسي على منهجية بعض النواب الجمهوريين الذين يطالبون بوقف الدعم لأوكرانيا، وسحب القوات الأمريكية من سوريا، والذي في عمقه منهجية في بعض أعضاء الحزب الجمهوري الذين يجد اللوبي التركي مساحة لتحركاته ضمنهم، المرفوض من قبل أغلبية الديمقراطيين ونسبة من الجمهوريين.

 هذه النسبة من التصويت، ترجح على أن إدارة (جو بايدن) سترسخ وجودها في المنطقة في القادم من الزمن، مع ظهور بوادر زيادة المساعدات للقوات الكوردية، وهو ما يؤدي إلى التردد التركي في مسيرة التخلي بشكل سريع عن قوات المعارضة، قبل الحصول على ضمانات روسية إيرانية حول وجودها في منطقة غرب كوردستان، والعمل معا على ألا تعيد أمريكا مع دول التحالف إستراتيجية التوسع مع قوات قسد نحو البحر.

تدرك الأنظمة التي تحاول إعادة النظام إلى الحاضنة العربية، مدى تصاعد عنجهية بشار الأسد وحاشيته، وتراجع القوى ومنظمات الشعوب السورية المطالبة بإسقاط النظام، ومثلها القوى السياسية والعسكرية التي كانت تعول على تركيا وبعض الدول العربية في مواجهتها للنظام، كما وتعلم أنها بتقربها ذاك قلبت المعادلة وسترسل البقية الباقية من المعارضة السورية بكل أطرافها إلى الزوال، وكل ما ستقوم به هي إنقاذ الذات من جرائم الأسد.

هبة التطبيع، والتي قال عنها بشار الأٍسد قبل سنوات بعد طرده من الجامعة العربية، أن رؤساء الدول العربية سيهرعون يوما ما إلى دمشق، وكأنه كان يقول أن شعوب المنطقة وبفضل جرائمه، ستنتقل من واقع احتمال انتصارها وظهور نوع من الأنظمة الديمقراطية، إلى نضال من أجل إنقاذ الذات من الطغيان الجديد والذي سيسود بأوجه أكثر خباثة وشراسة من الماضي. وقريبا سيمن عليهم بشار الأسد ليظهر ذاته كمنقذ لأنظمتهم.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى