في الواجهة

ماكرون والمسألة الأوربية بين التفكك وإعادة الإنتاج

حاتم الجوهرى

أطلق الرئيس الفرنسي تصريحا في شهر مايو ايار 2022 جعل المتابعين للأمر يدققون فيه مجددا، لأننا في ظرفية تتعدد فيها المقاربات المطروحة لتفسير وفهم اللحظة التاريخية الحالية التي يمر بها العالم. ولقد طرحت سابقا مفهوم “ما بعد المسألة الأوربية” منذ عدة سنوات وتفجر تناقضاتها الكامنة في هذا السياق، خصوصا مع صعود الخطاب الديني المباشر في عهد ترامب و”صفقة القرن” والاتفاقيات الإبراهيمية” و”جائحة كورونا”، معتبرا أن المسألة الأوربية وصلت لنهاية قدرتها في الحفاظ على تناقضاتها وأنها دخلت طور التفكك.

التمرد الروسي
بين التفكك وإعادة الإنتاج
ومع غزو روسيا لأوكرانيا تظل المقاربة فعالة؛ إذا اعتبرنا أن روسيا تتمرد على الوهم الأمريكي بالسيطرة النهائية والمطلقة على العالم، وتحاول الحضور السياسي بأشكال مغايرة، لكن في الوقت نفسه ومن داخل المقاربة نفسها يمكن اعتبار روسيا فرسًا غير مناسب للرهان عليه، لأن روسيا تعيد إنتاج المسألة الأوربية مجددا في أشكال جديدة لأن نظرية “الأوراسية الجديدة” التي تتبناها روسيا تعتبر أن الصعود الروسي وفق “ثنائية حدية” واستقطاب ثقافي جديد، بين “قوى البر” التي تمثلها روسيا في أوربا وامتدادها الأسيوي، وبين “قوى البحر” التي تمثلها الأطلسية بقيادة أمريكا ودول غرب أوربا.(1)

هيجل وجذور “المسألة الأوربية”
وهنا يجب التصريح بأن “المسألة الأوربية” وفق التصور الذي أطرحه، تقوم على فكرة “النظرية المطلقة” والنهائية للوجود البشري والصراع على امتلاكها لكتابة “نهاية التاريخ”، وهى الفكرة التي ظهرت بداية عند هيجل الذي طور فكرة “المثالية المطلقة” والتوفيق بين العقل أو المثال والواقع والتي سماها الجدل، وتمثل عنده في الدولة الجرمانية البروسية القديمة في بدايات القرن التاسع عشر، معتبرا أن الدولة الملكية الجرمانية والطبقات التي تخدمها هي نهاية التاريخ وذروة التطور الإنساني، وأن هذه الدولة مع الملك تمثل تصورا فلسفيا للدين المسيحي وفيوضاته الإلهية أو حضوره الديني في الأرض.

ماركس و”النظرية المطلقة” المضادة
ولم تتحول “النظرية المطلقة” عند الذات الأوربية إلى شكلها الأبرز إلا مع ظهور ماركس تلميذ هيجل، الذي قدم “نظرية مطلقة” مضادة لهيجل، فطور فكرة “المادية المطلقة” معتبرا أن نهاية التاريخ ستكون هي ثورة العمال في الدولة الجرمانية على الطبقية الملكية/ الرأسمالية/ الدينية التي أقرها هيجل وتحولها لشكل عالمي، وأن ذروة التاريخ البشري ونهايته سوف تكون بانتشار التمرد العمالي في العالم، وصولا إلى دولة الوفرة وشيوع الموارد وإتاحتها (الشيوعية)، وأن المادية المطلقة تقوم على الصراع وليس التوفيق والجدل والتوسط كما قال هيجل.

فوكوياما و”نهاية التاريخ” و”النظرية المطلقة”
حيث ظهرت “المسألة الأوربية” والصراع المقدس على امتلاك حق “النظرية المطلقة” ونهاية التاريخ وذروته بين هيجل ودولته الطبقية/ الرأسمالية/ الدينية، وبين ماركس واللا دولة/ اللا طبقة/ اللا دين، وانتهى الأمر بفكرة هيجل عن الدولة الطبقية الملكية حتى وصلت إلى الدولة الرأسمالية الديمقراطية التي تمثلها أمريكا بنظامها السياسي القائم على سلطات قوية ومركزية في يد الرئيس (التي تشبه سلطات الملك عند هيجل قديما)، وهو ما ظهر في نهايات القرن العشرين بعد تفكك الاتحاد السوفيتي الذي مثل فكرة ماركس عن النظرية المطلقة، وظهور كتاب فوكوياما عن نهاية التاريخ والنظرية المطلقة التي مثلتها دولة أمريكا.

ثلاثة طرق
المسألة الأوربية بين الشرق والغرب والعرب
من هذا المدخل السابق يمكن القول إن العالم الآن يقف في مفترق طرق رئيسي؛ بين ثلاثة توجهات وهي أولا: المسألة الأوربية القديمة واستقطاباتها الكلاسيكية بين هيجل الطبقى وورثته في الرأسمالية الحالية وبين ماركس المادي، وثانيا: إعادة إنتاج المسألة الأوربية في أشكال جديدة تقدمها روسيا بين قوى البر الشرقية الأرثوذكسية وبين قوى البحر الغربية البروتستانتية، وثالثا: تجاوز المسألة الأوربية وهذا الطريق لا يمثله حاليا في العالم سوى الثورات العربية في القرن الحادي والعشرين والتي تعتبر بديلا كامنا لم يخرج للوجود بعد، لأنها تعرضت للاستقطابات ولم تقدم التمثل الواضح بعد.

ماكرون محاولة ما للهروب
وبالأمس قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اقتراحا خطيرا للغاية يدل على أن المسألة الأوربية ووهم “النظرية المطلقة” أصبحت عبئا على الجميع وعلى أوربا نفسها، وان الاستقطاب القديم وفكرة سيادة النموذج الرأسمالي الأمريكي بوصفه نهاية التاريخ ومطلقه، قد يدفع بأوربا لحرب بادرة أو ساخنة جديدة، وتكشف عن سوئتها مجددا أمام العالم.
حيث اقترح ماكرون بشكل غير مباشر تجاوز البنية التنظيمية لحلف الأطلسي العسكري (الناتو) والاتحاد الأوربي، وإنشاء شكل أو كيان سياسي جديد لأوربا يقبل أوكرانيا عضوة فيه، بما لا يغضب روسيا ويشعرها بالمهانة وكان ذلك أمام البرلمان الأوربي، حيث “دعا ماكرون إلى إنشاء: مجموعة سياسية أوروبية، لضمّ أوكرانيا خصوصًا، بالتوازي مع آلية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي التي قد تستغرق عقودًا. وقال: هذه المنظمة الأوروبية الجديدة، ستسمح للأمم الأوروبية الديموقراطية التي تؤمن بقيمنا الأساسية، بإيجاد مساحة جديدة للتعاون السياسي وللأمن”(2).

دلالة حضارية بارزة
وفي اقتراح ماكرون إشارة مهمة ليس لأن فرنسا على خلاف مع أمريكا وبريطانيا بعد خروج الأخيرة من الاتحاد الأوربي، وليس لأن بايدن وقع اتفاقية “أكوس” العسكرية بين دول الأنجلوساكسون القديمة التي ضمت استراليا على حساب فرنسا والصفقات العسكرية التي كانت أبرمتها مع استراليا، إنما لأن ماكرون هنا وضع بذرة داخل البرلمان الأوربي لتجاوز المسألة الأوربية القديمة وفكرة “النظرية المطلقة” ونهاية التاريخ، وقد لا يكون ماكرون واعيا بالشكل التاريخي الكامل للمسألة الأوربية وآثارها الجانبية، وذلك باديا في عدة مواقف له تجاه الصهيونية وتجاه آثار الاحتلال الفرنسي للشمال العربي، لكن التصحيح الحضاري عادة ما يبدأ صغيرا خافتا ثم يكبر رويدا رويدا.

الواقع أم الثقافة ستقود أوربا
وهنا لابد من مواجهة حقيقة قاسية في الحالة الأوربية الراهنة عن دور الثقافة وممثليها الأوربيين في استكشاف مستقبل أوربا، وهل سيكون للثقافة دور أم لا..!
فالحقيقة المؤلمة أن الثقافة الأوربية على عكس ما يشاع أقل جرأة وشجاعة من الثقافة العربية تماما، ذلك لأن كليات الفكر الأوربي في اللحظة التاريخية الحالية ترتبط في هوامشها المتمردة بكتابات وأفكار ما بعد الحداثة، وملخص كتابات ما بعد الحداثة أنها كانت انتصار للهوامش الأوربية وثقافاتها الفرعية أيا كانت، بسبب عجز الثقافة الأوربية عن مواجهة المتون الحاكمة للمسألة الأوربية والنظرية المطلقة سواء عند هيجل وورثته الرأسماليين أو عند ماركس وورثته الماديين، حيث لم تطور الثقافة الأوربية فكرة كلية تواجه بوضوح النظرية المطلقة ودعاتها يمينا ويسارا، وكانت ما بعد الحداثة وثقافتها مجرد إعلان للتمرد بسبب العجز عن مواجهة المتون.

النخب العربية يتامى المسألة الأوربية ودراويشها
والمدهش أن رد الفعل العربي تجاه صعود “الأوراسية الجديدة” وغزو روسيا لأوكرانيا، صورته النخب العربية السائدة أو الرئجة تاريخيا على أنه انتصار للمسألة الأوربية القديمة! وتخيلت أنه عودة للبديل المادي ونظريته المطلقة القديمة، وهذه أزمة العديد من النخب العربية التقليدية أنها لا تزال قابعة عند الأشكال والاستقطابات الثقافية القديمة للمسألة الأوربية ونظريتها المطلقة، وكأن هذه النخبة لا تتابع ما يحدث في العالم من تطورات، أو كأنها تضع على عينيها نظارة مخصوصة تنتقي فقط ما يؤيد ويدعم المسألة الأوربية القديمة واستقطاباتها يمينا ويسارا، لتصبح الذات العربية ونخبتها السائدة من أكبر الدراويش لأوهام النظرية المطلقة القديمة.

الأمل في ما بعد المسألة الأوربية رغم كل شيء
لكن رغم كل شيء تبقى الذات الإنسانية عصية على التدجين وخرافة “النظرية المطلقة” النهائية للوجود البشري، ورغم أن كل الشواهد حاليا تتحرك في اتجاه إعادة إنتاج المسألة الأوربية في أشكال جديدة، إلا أن الدهشة الإنسانية والتصحيح الحضاري للمسار البشري الحالي، تظل كامنة تحت الردم عند الذات العربية ومشروع ثورات القرن الحادي والعشرين التي تجاوزت شعارات النظرية المطلقة الأوربية يمينا ويسارا على السواء.

هوامش

1- راجع نظرية “الأوراسية الجديدة” او الطريق الرابع عند مؤلفها ألكسندر دوجين.
2- موقع مونت كارلو الإخباري الدولي بتاريخ 9/5/2022
https://www.mc-doualiya.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى