أخبار العالمأمن وإستراتيجيةفي الواجهة

ماذا يعني هذا الاستفزاز الأمريكي للصين وكوريا الشمالية؟

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق

/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

في مقالٍ سابقٍ، وبعد اختتام زيارة الرئيس جو بايدن للمنطقة، ولقاءاته في السعودية، وانعقاد “قمّةِ جدّة للأمن والتنمية” في 17 تموز/ يوليو 2022، كتبتُ مقالا بهذا الخصوص، وجاء في آخرهِ، أنّ أحد أهداف زيارة بايدن ــ من بين عدّة أهداف ــ هي إرسال رسالة للمنطقة والعالم مفادها أن الولايات المتحدة بعد الحرب في أوكرانيا هي ليست كما قبلها.. وكلُّ شيءٍ تغيّر بعد حرب أوكرانيا..
وقال بايدن حينها أن ابتعاد الولايات المتحدة عن المنطقة كان خطئا.. وهذا يعني أن سياسة الولايات المتحدة إزاء المنطقة سوف تتغيّر، وهذا ما اسعدَ حلفاء واشنطن..
واليوم يتّضحُ أكثرْ ثمار ما حصدهُ من تلك الزيارة، وهو زيادة انتاج النفط مائة ألف برميل في اليوم اعتبارا من أول أيلول 2022 ، بعد اجتماع (أوبك بلس) في فيينا في 3 /8/ 2022 .. وهذا مَا كانَ ليحصل لولا الموافقة السعودية والإماراتية والكويتية.. وهذا ما رحبّت به واشنطن، بينما لم يكن في مصلحة موسكو التي كانت تراهِن أن تبقى هذه الدول على تعهداتها، ولا تقبل زيادة الإنتاج حفاظا على أسعار النفط، وإبقاء الغرب في أزمة طاقة بعد قراراهم بالاستغناء عن الغاز والنفط الروسيين.. ولأجل هذا زار الوزير لافروف الرياض في أواخر أيار/ مايو، والتقى وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي..
فضلا عن ذلك، فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في 2 /8 / 2022 عن صفقات صواريخ باتريوت للسعودية بقيمة ثلاث مليارات دولار.. ومنظومة صواريخ (ثاد) عالية الدقّة للإمارات بقيمة 2.24 مليار دولار..
وكل ذلك يأتي في إطار العودة الأمريكية للمنطقة واستعادة ثقة الحلفاء الخليجيين.. حيثُ في ظل الابتعاد الأمريكي اقتربت هذه الدول من الصين ومن روسيا، وربما هاتانِ ظنّتا أنهُ بالإمكان استقطاب وإبعاد دول الخليج عن الولايات المتحدة، ولكن لم يسمعوا بالعشق العربي في قول أبو تمام:
نقِّل فؤادك حيث شئتَ من الهوى .. ما الحبُّ إلا للحبيب الأول..
كم منزلٍ في الأرضِ يألفهُ الفتى.. وحنينهُ أبدا لأولِ منزلِ..
وهذا هو الحال مع دول الخليج، فستبقى الولايات المتحدة الحبيب الأول والأخير مهما تنوعت علاقاتهم وشراكاتهم في هذا العالم.. وهذا طبيعي، فقد فتحت عيونها على الدّعم والرعاية والحماية الأمريكية، بعد البريطانية..
وكما جاء في مسرحية (باي باي لندن) الكوميدية الكويتية، التي عُرِضت عام 1981: لولا أمريكا كُنا ما زلنا نتبوّل فوق رمال النفط ولا نعرفُ ماذا يوجد تحتها..
**
اليوم جاء دور بكِّين لتقول: إن الصين بعد زيارة نانسي بيلوسي لتايوان هي ليست كما قبلها..
فالصين المعروفة باتزّان وعقلانية وهدوء سياستها، جعلتها نانسي بيلوسي ترفع قبضتها وتقول: كفى.. فلا مساومة على انتهاك سيادة الصين..
زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى بعض دول شرق آسيا (سنغافوره، وماليزيا، وتايوان، وكوريا الجنوبية، واليابان) في بدايات آب/ أغسطس 2022، جاءت في ظل وضعٍ عالميٍ متوتر جدا بين روسيا والغرب بسبب الحرب في أوكرانيا، وما نجم عنها من تداعيات واصطفافات..
ولذلك جاءت هذه الزيارة في غير وقتها، إلا إن كانت مقصودة من طرف الكونغرس الأمريكي، لأسبابٍ لا نعرفها.. وحتى لو كانت مقصودة، فيبقى هذا ليس وقتها، إلّا إن كانه هدف بيلوسي هو حشد الرأي العام الأمريكي، والدّعم لمرشحي حزبها الديمقراطي في الانتخابات النصفية للكونغرس في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني القادم، في ظل تراجُع شعبية الرئيس الديمقراطي جو بايدن وشعبية الديمقراطيين.. وهذه ستكون معركة حامية الوطيس مع الحزب الجمهوري الذي سيسعى جاهدا لاستعادة الأغلبية في مجلس النواب التي خسرها في الانتخابات النصفية عام 2018.. وإن انتصر في ذلك فهذا يعني أوّلا، أن نانسي بيلوسي لن تكون الرئيسة القادمة لمجلس النواب..
**
في الولايات المتحدة كل شيءٍ قد يكون مُبرّرا للفوز في الانتخابات، الرئاسية أم البرلمانية.. بما فيها اتهامات التخوين والعمالَة والتآمر، كلٍّ للآخر.. فهذه من طبيعة التكوين الديمقراطي في الولايات المتحدة.. ثمّ يعترف الخاسر بخسارتهِ، ويُهنِّئ الفائز، ويعملان يدا بيد لمصلحة الولايات المتحدة وشعبها، والتي لا تعلو عليها مصلحة..
ولذلك البعضُ ينخدع من اتهامات المُرشّحين، لبعضهم البعض، ونتفِ ريشِ بعضهم البعض، ويعتقد أن ما يقوله كلٍّ بحقِّ الآخر إنما يعنيهِ حقّا، وأن البلاد على شفير حرب، وأن الولايات المتحدة في طريقها للتقسيم.. ولكن يُدرِك لاحقا أن كل ما يقولونه بحقِّ بعضهم هو نوعٌ من الهُراء والتكتيك للحصول على الأصوات.. هذه هي طبيعة الأشياء في أمريكا.. وإن كانت هناك أدنى تهمة فعلية بحق أكبر مسؤول أمريكي فلا يمكن لمنصبهِ أن يحميه أمام القانون حتى لو كان الرئيس.. ولو كان في حياة أي أمريكي أي نقطة سوداء تدينهُ، فلا يمكن له أن يُنتخَب أو يستلم منصبا..
*
نانسي بيلوسي تُدركُ تماما مدى حساسية الرأي العام الأمريكي، من مسألة الخلاف بين الصين وبين جزيرة تايوان، وبين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، وهو يدعمُ بالكامل تايوان ويدعم كوريا الجنوبية، ولذلك حينما تتحدّى بيلوسي (بكّين) رغم كل التحذيرات، وتأتي في زيارة إلى “تايبيه” عاصمة تايوان، وتزور كوريا الجنوبية، وتأتي إلى المنطقة الحدودية معزولة السلاح، والتي تتواجهُ فيها قوات البلدين، وتُدلي بتصريحاتٍ شديدة اللهجة، سواء من تايبيه أو سيؤول، فإنها بذلك تُوجِّهُ كلامها إلى الرأي العام الأمريكي، بأن الديمقراطيين هُم الاشدُّ غيرة ووفاء وحرصا على الحُلفاء، وعلى المصالح الأمريكية، ودعما للديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي سبيل ذلك فلا شيئا يُخيفهم.. وهذا يعني السعي لزيادة الشعبية وكسب الأصوات في انتخابات الكونغرس القادمة..
ولكن هل ستفلح بذلك؟.
كانت هناك انتقادات شديدة داخل أمريكا لزيارة بيلوسي إلى تايوان، بل وصفَها مجلس الأمن القومي الأمريكي بأنها زيارة (غير حكيمة).. بينما دعمها أبرز أعضاء الكونغرس من الجمهوريين..
والرئيس الأمريكي نفسهُ لا يستطيع أن يمنع رئيسة مجلس النواب عن أي زيارة خارجيةٍ، والبيت الأبيض لم يستَطِع أن يُثني نانسي بيلوسي عن زيارة تايوان، ولكنهُ ذكر بنفس الوقت أن الزيارة لا تُشكِّلُ تهديدا لسيادة الصين، وأن التهديدات الصينية لن تُخيفهم..
*
الغضب في بكين كان قويا جدا، والتهديدات لتايوان كانت شديدة، وقد بدأت بمناورات عسكرية بحرية وجوية، عالية المستوى، وبدت كأنها حصارٌ لتايوان، واتّخذت الصين عدّة إجراءات تتعلق بتجارتها مع الجزيرة، وتنسيقها العسكري مع الولايات المتحدة، وقد انتهت زيارة بيلوسي، ولكن هل ستنتهي معها ذيول ونتائج وتفاعلات هذه الزيارة؟. الزمن سيجيب..
الصين سبقَ وهدّدت حتى باستعمال القوة العسكرية لأجل إعادة توحيد جزيرة تايوان، في إطار الصين الموحّدة.. ولكن بالمقابل هددت الولايات المتحدة بأنها ستدعم تايوان في وجه أي هجوم عسكري صيني.. وتدعو دوما إلى عدم فرض أمر واقع بالقوة في تايوان، وإنما عن طريق الحوار..
**
معروفٌ عن قيادة الصين أنها متأنية جدا، لا تأخذها الانفعالات، ولا تتسرع في اتخاذ القرارات، وتُدركُ أنه ليس من مصلحتها أي زيادة توتير مع الولايات المتحدة نظرا للشراكات الاقتصادية والتجارية الهائلة بين البلدين، وتداخُل المصالح الكبير في المحيط الهادي وشرق آسيا.. ويُعتقَد أنها ستتمكن من تطويق تداعيات هذه الزيارة أخيرا بشكلٍ حكيمٍ وعاقلٍ، واستيعاب هذا الاستفزاز (البيلوسي).. ولن تذهب بعيدا إلى إشعال نار حرب في المنطقة، فقيادة الصين أوعى من ذلك، حسب تقديري الشخصي..
ولكنها بذات الوقت لن تنسى لتايوان هذا التصرُّف باستقبال رئيسة مجلس النواب الأمريكي.. وقد تتخذ العديد من الخطوات التي تزعج حكومة تايبيه، ولكن لا تؤدي إلى تفجير الوضع..
**
تايوان كانت تُعرف تاريخيا بجزيرة (فورموزا) وبعد نهاية الحرب الأهلية الصينية عام 1949 والتي استمرت عقودا من الزمن، بين القوميين المدعومين من أمريكا بقيادة “شيانغ كاي تشيك” والشيوعيين بقيادة “ماو تسي تونغ” المدعومين من الاتحاد السوفييتي، تراجعَ القوميون بقيادة ” شيانغ كاي تشيك” إلى جزيرة تايوان، ولكن استمرّت حكومتهم من العاصمة “تايبيه” تعتبر نفسها الممثل الشرعي لجمهورية الصين.. واستمرت بالحفاظ على مقعد الصين في الأمم المتحدة، حتى عام 1971 حينما اتّخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بإعادة الصين الشعبية إلى كل مقاعدها في الأمم المتحدة.. وزار الرئيس نيكسون الصين بعدها وفُتِحت صفحة جديدة بالعلاقات الأمريكية الصينية…
وحتى اليوم لم تحصل بين الحكومتين في “تايبيه وبكين” أي معاهدة سلام أو هدنة، ولكن بقيت الحكومتان ملتزمتان بِما يُعرفُ (سياسة الصين الواحدة).. وقد تبنّتْ الولايات المتحدة هذه السياسة، وتعترف بحكومة صينية واحدة للصين، وهي في بكين، ولا تعترف بتايوان ككيان ذي سادة، ولكن تصرفاتها تنطوي على التناقض، وهذا ما يُسمّى بـ (الغموض الاستراتيجي)..
فحينما تتوحّد تايوان مع الصين لن يبقى مضيق تايوان المُزدحم، الذي يفصل تايوان عن البر الصيني، ممرا دوليا، وسيصبح ممرا صينيا وتتحكم الصين به وبكافة حركة المرور والعبور منه..
وستكون الصواريخ الصينية التي ستُنشرُ في تايوان، أقرب بـ 140 كم إلى الشرق نحو المحيط الهادي، ويزيد من قوتها العسكرية..
ولذلك كان هذا الموقف الأمريكي المتناقض، من قضية تايوان..
وحكومة تايبيه تُجادل أن تايوان لم تكُن أبدا جزءا من جمهورية الصين الشعبية وأنها دولة ذات سيادة ولا حاجة لإعلان الاستقلال وترغب في الحفاظ على الوضع الراهن ولا تريد صراعا ولكنها سوف تدافع عن نفسها..
إعلان تايوان عن نفسها جمهورية مستقلة يعني قرار صيني بغزوها عسكريا، وهذا أمرٌ محسومٌ لدى قيادة بكين.. ولكن الولايات المتحدة ذاتها لن تسمح لها بذلك لأنهُ سوف يجرُّ إلى حرب لا تُحمدُ عُقباها..
ولكن إلى متى ستبقى قضية تايوان مُعلّقة؟. وهل في النهاية سوف تُحلُّ على طريقة “هونغ كونغ” : “دولة واحدة ولكن نظامان مختلفان” ؟. أي نظام ديمقراطي في هونغ كونغ ونظام مركزي شيوعي في بكين..
**
كانوا في الماضي يقولون بشكلٍ عامٍّ لدى حصول مُشكلة ما: (فتِّش عن المرأة) مع الاحترام الشديد لكل نساء العالم، ولكن هذا المثل قِيلَ بالماضي..
ثم جاء وقتٌ كان يُقالُ فيه لدى حصول مُشكلة ما: فتِّش عن النفط..
اليوم يمكن القول: فتِّش عن نانسي بيلوسي.. هذه المرأة العنيدة، التي لم يتمكن حتى رئيسها، ابن حزبها الديمقراطي، أن يُثنيها عن زيارة تايوان..
**
الفوضى في هذا العالم غير مسبوقة.. وشريعة الغاب تنتشر وتتّسع كل يوم أكثر.. ولا أدنى احترام لسيادات الدول والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة من طرف الأقوياء على الأضعف، فإلى اين يسير العالم؟.
هل من يفعلون ذلك يحسبون خطواتهم، وهل أصغوا لأمين عام الأمم المتحدة غوتيرش حينما قال قبل أيام:
البشرية على بُعد خطوة واحدة “غير محسوبة” قد تؤدي إلى الإبادة النووية”..
فهل أولئك يحسبون فعلا كل خطوة وماذا يمكن أن تكون نتائجها؟.
أم أن جنون العظَمة وغرور القوة يُعمي البصيرة والأبصار!.
بكلِّ الأحوال إن أُبيدَ هذا العالم فإن فقرائهِ لن يخسروا شيئا..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى