ماذا يحدث في البيت الشيعي ؟
ماذا يدور في البيت الشيعي
د. ضرغام الدباغ
من المعلوم أن للكلاب حاسة شامة خارقة، وفي نقاط الحدود الأوربية، المطارات، وحين يشير الكلب البوليسي المدرب
على المخدرات إلى حقيبة أو رزمة، فأنها سوف تفتش حتماً، وتشخيص الكلب لا يخيب مطلقاً، فيعثر على المخدرات
مهما برع المهربون بأخفاءها.
أريد القول ابتداء، أن الصحفي الأوربي يتلقى تعليماً وتدريباً ممتازاً، لذلك فهو بارع في استخدامه لقدراته، وفي دقة
ملامسته، وله رادارات ممتازة تلتقط الخبر وما وراءه, وتؤهله للغوص بثقل في عمق الحدث، لا يطوف بخفة على
سطحه، الصحفي الألماني مراسل قناة جنوب غرب ألمانيا (SWR) في العاصمة طهران، التقط انطباعاً لا يبدو ظاهراً
للعيان(الأنباء متناقلة لدى الصحفيين الغربيين)، ولكنه واضح لمن يتفحص ما وراء الخبر، فكتب في : 11 / شباط /
2024، حين التقطت مداركه قبل عينيه أن الوضع الإيراني ليس بخير، وهو يرى تراجعاً في أداء نظام الملالي، فكتب
مقالاً بعنوان ” بعد 45 عاماً للثورة، ملالي طهران يواجهون أياماً صعبة “، وبطريقة الصحفيين الألمان، كتب في
السطر والنصف الأول خلاصة الخبر ” ظاهرياً، طهران قوية، وتبدي استعدادها للقتال، ولكن بإلقاء لمحة إلى داخل
الجمهورية الإسلامية يبدو لنا بوضوح، أن الخصوم الأشد للنظام، هم الشعب الإيراني نفسه “.
نقاط الضعف والقوة في إيران معروفة ، يعرفها كل من له خبرة في الشؤون الإيرانية، فهناك غياب شديد للوحدة
الوطنية وعناصرها الاساسية، ومفردات التقسيم جاهزة على الطاولة، فإيران كيان سياسي ملفق، تلفيق فني مدروس،
من تأليف وإخراج القوى الغربية الكبرى. تحرسه دولة مركزية بأجهزة أمنية عريقة، ” الدولة الإيرانية ” تتعامل مع
أي تطلع للتحرر الوطني والقومي والاجتماعي، بأساليب بالغة الشدة والقسوة فهذه المبادئ في خروجها عن التقسيم
الطائفي في خطوطه العامة وفي ثناياه، إضعاف لصلات الوحدة الشعبية، وفي ترويجها وتشجيعها، تقويض للوحدة
الإيرانية، لذلك يحاول النظام تصدير أزمته إلى بلدان الجوار، في تحريض صريح وعلني للقضايا الطائفية، لأن أي بحث
وطني قومي، ليبرالي / اجتماعي، يضع مستقبل ملالي إيران خارج إطار التفاهمات. وحيث لا يمكن لعاقل أن يعول على
القوة لوحدها في الحفاظ على الأشياء الكبيرة الأساسية، فإن إيران ستواجه يوماً قدرها الذي لا بد منه، وكل الباحثين
في الشؤون الإيرانية، يجدون أن هذا يدور في أذهان القادة وأفراد الشعب على حد السواء،
ويمنح نظام الملالي نفسه مظاهر خداعة للقوة. لشعب صار القمع الحكومي البوليسي منذ قرون من أولى مؤشرات
البلاد، وحين عمل الغرب، والأمريكان بصفة خاصة، على الاتيان والترحيب بنظام الملالي لم يكن إلا باعتباره الوصفة
السحرية، للحيلولة دون سقوط ” الدولة الإيرانية “. على أساس أن التمذهب الطائفي يمثل الخيط الأحمر الي يلملم
الحبات المتناثرة هنا وهناك ويصيغ منها نظام دولة، بالغ الخميني بتطرفه فأسس نظام الجمهورية (بالتفاهم مع قوى
الغرب)على الأساس الطائفي البحت.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية أو بعضها أجنحتها غير سعيدة بوجود الملالي على سدة الحكم، ولكن هذا هو الخيار هو
أفضل من سقوط إيران وتشظيها كدولة، وقيام حزمة من الاحتمالات احلالها مر كالعلقم. ولذلك تحديداً قال الرئيس
أوباما بصريح العبارة ” لن أسمح بسقوط النظام الإيراني “. وهذا القرار ليس من أجل النظام الإيراني، بل من
أجل استمرار لوجود الدولة الإيرانية برمتها، والتداعيات اللاحقة المقلقة للإدارة الأمريكية وللغرب عموماً. هو ما حدث
وما قد يحدث في شمال وجنوب ووسط إيران، وفي سقوط دولة إيران (تأسست عام 1935) وكنتائج، ستنهض عدة
كيانات (آذربة، عربية، كردية، تركمانية، بلوشية) وعلى الأرجح كيان لأقلية اللور. ويتغير نفوذ وحجم تركيا
وأذربيجان، وباكستان، وأفغانستان، وتركمانستان، وتضعف أرمينيا، وسيتغير الموقف في كتلة أواسط آسيا، وفي
الخليج العربي، ومعطيات اقتصاد الطاقة. وربما عناوين أخرى …!
يقول الصحفي الألماني مختتماً مقالته :
” ومن المفارقات الطريفة أن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يستعيد بها النظام المواطنين إلى جانبه ستكون إذا
تعرضت إيران لهجوم خارجي. عندها من المرجح أن تتحد البلاد بأكملها ضد عدو خارجي مشترك – كما حدث في
الحرب ضد العراق من عام 1980 إلى عام 1988. لكن من غير المرجح أن تقدم الولايات المتحدة ولا إسرائيل تقديم
هذه الخدمة” للملالي”
يمثل تقرير الصحفي الألماني، إشارة تحذير مهمة، ولكن بعدها بأيام، نقل الانترنيت شريطاً وثائقياً بالغ الأهمية
والخطورة، ومن المدهش أن لا يتصدى كتاب وباحثون مختصون لهذا الأمر، ومن المؤسف أن يفوتنا حفظ هذا الشريط
الذي كان يبحث في موضوعة مهمة، إذ يرصد ويؤشر على نحو دقيق، إلى محاولات التطوير، التغير، الجادة والمهمة
داخل المؤسسة الدينية، فلدى الجميع معرفة بأجواء التغيير والتطوير، سواء في المركز الديني التقليدي (حوزة النجف)
أو في المركز القيادي السياسي / الديني الجديد (حوزة قم). فطوال عقود كانت المدرسة الدينية الشيعية في النجف أو
فروعها، تبتعد بقدر كاف عن الشأن السياسي الدقيق، ولكن تغير هذا الأمر بعد الثورة الخمينية، وطرح مبدأ الولي
الفقيه، وهذا يستحيل أن يكون بعيداً عن التوجهات الغربية (البريطانية والأمريكية خاصة) لأنه يتفق تمام الاتفاق مع
ارائهم ورؤيتهم وخططهم للمنطقة. ولكن من المرجح أن الخميني أرادها أن تكون لعبة خمينية صرف، ولعب خارج
الخطة …!
إذن رسمياً وفعلياً، وعلى صعيد إضعاف المدرسة النجفية، الذي مارسته طهران بعد الثورة الخمينية عام 1979، ببطء
وتؤدة، ولكن دون توقف، لصالح مدرسة قم، ولصالح إحلال نظام ” ولاية الفقيه “،، رغم أن حكومات طهران تاريخياً
تحرص على وضع مدرسة النجف هي بذاتها تحت الهيمنة الإيرانية/ الفارسية والتأثير عليها، ويقاومون بثبات أي تقدم
للعنصر العربي في المراكز المهمة الفكرية والسياسية، وهذه سياسة مارستها حكومات فارس وإيران على مر عهود،
ونجم عن هذا الصراع العلني / الخفي، مؤشرات مهمة، أبرزها:
المدرسة الخالصية التي أسسها مهدي الخالصي عام 1911في (الكاظمية / بغداد)، وقاومتها طهران حتى في
عهد الشاه، وتواصلت في عهد ولده محمد الشيخ محمد الخالصي، حتى الوقت الراهن بإدارة الشيخ جواد
الخالصي،
المدرسة الصدرية التي تأسست في النجف، بشعارات وطروحات قوية، فأغتيل الأمام محمد صادق
الصدر(1995)، وهو كان يتوقع اغتياله، وعبر عنه ذلك للمقربين منه، وتمثل اليوم تياراً عقائدياً سياسياً
مهماً في العراق.
وبعد الحرب واحتلال العراق، طرأ تغير جديد على الموقف، وذلك باشتداد ضغوط نظام طهران وتوجهات مدرسة قم،
وتراجع واضح لمكانة مدرسة النجف. والملاحظ، هو تعاون سلطات الاحتلال الامريكي لمساندة تيار مدرسة قم (الولي
الفقيه) وتحويل الولاء المذهبي للولي الفقيه وكيل الإمام الحجة (المهدي المنتظر). وهذه سياسة غربية : بريطانية
أمريكية ثابتة منذ عقود.
ولكن لم تكن حركة اهتزاز قوية تهز أركان المؤسسة الدينية الشيعية بدرجة ليست بسيطة، لتمر دون ارتدادات
وتداعيات، ولا تزال هناك المدرستان المشار إليهما : الخالصية والصدرية ماكثتان الأولى في الكاظمية، والثانية في
النجف، تناوران، وتحاوران، ولكن إلى جانب وجود شخصيات لها وزنها في الوسط الشيعي، نأت بنفسها عن الصدام
الصامت والصاخب أحياناً، (عبر أساليب سلمية) الذي يدور في ساحات متعددة ليس في النجف وقم فحسب، بل وفي
لبنان، وفي المهاجر ولاسيما في لندن وباريس. صدام أسفر حتى بلغ درجة الاغتيالات( على شريعتي/ لندن، وتوجهات
أحمد الكاتب، الذي له توصلات مهمة حول قضايا محورية في المذهب الشيعي، ولاية الفقيه، والامام الحجة،
وموضوعات جوهرية أخرى. والعاملين في هذا المجال يعلم أنه يعمل في قاعة زجاجية مزخرفة، يحاذر أن يصطدم
بشيئ فتنهار أشياء أكبر … فالانتظار والاحتكام للزمن سيد الاحكام …!
ونجد في أبرز الحركات والتيارات التي برزت في الساحة بعد الحرب والاحتلال الأمريكي للعراق، وناهض الاحتلال :
المرسة الخالصية : الشيخ جواد الخالصي، الذي مارس الجهاد ضد الاحتلال.
المدرسة الصدرية، : الشيخ السيد مقتدى الصدر.
وحركة مجاهدي خلق / مسعود رجوي
مجموعة من مثقفي الشيعة الليبراليين الذين حلموا بتأسيس مدرسة شيعية ليبرالية آن لها أن ترتدي ثياب العصر
وتتحدث بلغة مفهومة ومنطقية : ابو الحسن بني صدر، صادق قطب زادة، إبراهيم يزدي، كريم سنجابي، (إيران)
آية الله محمد كاظم شريعتمدري. (إيران)
آية الله محمود طالقاني. (إيران)
رجال دين إيرانيون كثر آثروا الانزواء بصمت.
رجال دين مجتهدون، اعترضوا، وكانت لهم مواقف فكرية :
آية الله حسين المؤيد. (العراق)
آية الله محمود الصرخي. =
آية الله كمال الحيدري. =
آية الله أحمد البغدادي. =
وهناك دون ريب، علماء آخرون بدرجات متفاوتة، ولكن يجمع بين كل هذه الشخصيات الدينية / العلمية المرموقة، التي
لمواقفها وأفكارها صدى يستحق الانتباه في الوسط الشيعي، 4 توجهات في غاية الأهمية، وهي جوهر الخلافات
والصراعات الخفية والعلنية:
أولاً . رفض الانسياق في تيار طهران، المتحالف مع الولايات المتحدة (يجتهدون في طهران وأتباعها كثيرا في التمويه
على هذه العلاقة).
ثانياً . رفض سياسة التصعيد والتحريض ضد البلاد العربية والإسلامية، وخوض الحروب العبثية معها، بل الدعوة إلى
تقليص الفجوة بين الإسلام السني والشيعي.
ثالثاً. ملاحظات فكرية / فقهية
رابعاً. هناك إدراك عميق أن الشيعة بوضعهم الحالي، ولا سيما بعد الجمهورية الإسلامية 1979، إنما يجازفون
بسلوكهم منهجاً طائفياً إعتدائياً، اعتماداً على دعم الغرب. ويصح فيهم مقولة الكاتب علي شريعتي : ” ليعلم تجار
الدين هؤلاء، سيأتي يوم وتثور الناس عليهم وأنا أخشى أن يذهب الدين ضحية لتلك الثورة “.
خامساً. رغم كل ما بذلته طهران والاستخبارات البريطانية والأمريكية من تفجير العلاقات بين السنة والشيعة، إذا أن
هذا التوجه رفض غريزياً وعقلانياً من أوسع الجماهير. فالأساس هو الجذر المشترك، تاريخيا وعقائدياً، وهو يدعو
للالتحام في البرامج المصيرية لا إلى الحروب.
ولكن شريعتي قتل غيلة، ولو كان يعيش هذه الأيام، لقال ” رجال الدين في طهران حولوا الدين لمليشيات، وكانتونات
طائفية، وبازارات ووسيلة لجني ثروات مسروقة . الشيعة يعيشون في هذا العصر ومعطياته، وفي الوطن والأمة
المشتركة، وفي ظروف سياسية واجتماعية وثقافية، مع أبناء وطنهم وأمتهم، وفيهم المفكرون، والديمقراطيون،
والليبراليون والقوميون، وتقدميون …. يستحيل أن تضعهم جميعهم في علبة معلبة، يقرأون كتبا راقية، ويشاهدون
الأنترنيت، ويدرسون الرياضيات، ولكن عليهم الاسترشاد بخرافات، وهناك من يريد أن يعيدهم للعلبة المعلبة …!
بطلقة كاتم صوت تستطيع اغتيال كاتب، ولكنك لا تستطيع أن تعتقل الضوء ولا بقنبلة ذرية …!
ولا شك أن هذه المدارس والحركات والتيارات تعلن عن نفسها وتشكيلها على أنها حركات وتيارات واسعة ، ثم بصور
واضحة أنها تيارات عقلانية عميقة في أوساط المجتمعات الشيعية، تناهض التيار الشيعي الحاكم في طهران (نظام
ولاية الفقيه) التي تلتقي مع الاستراتيجية الأمريكية في الحرب السرية على الإسلام والعرب. وتستخدم الشيعة كأدوات
ووسائل ووقود في هذه الحرب.
برلين