أخبارأمن وإستراتيجيةإسلامثقافةدراسات و تحقيقات

دروس سياسية ..استراتيجية في الهجرة النبوية الشريفة

ضرغام الدباغ

  • السيرة:
    ولد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) يوم الاثنين 12 ربيع الأول حوالي 571-570 في العام الذي أطلق عليه بعام
    الفيل. وللأمر هنا دلالته السياسية، ففي ذلك العام غزا أبرهام(أبرهة) الحاكم الإثيوبي لليمن، مكة عازماً على هدم الكعبة
    لأنها كانت تنافس من الناحية الدينية، النصرانية التي كان عليها حكام إثيوبيا. ولكن جوهر الأمر كان بهدف التوسع
    وإخضاع مناطق شاسعة من شبه الجزيرة العربية إلى حكمه، سيما وأن نوايا أبرهة الانفصالية عن الولاء لإثيوبيا بدأت
    تبرز. ولكن الحملة فشلت بسبب قسوة الظروف الطبيعية وعدم تعاون سكان المنطقة مع الغزاة، وإن لم يكن بحوزتهم
    ما يتصدون به لجيش الحملة سوى أن يهرع أبو طالب بن عبد المطلب(عم النبي وأحد أشراف قريش) إلى باب الكعبة
    ويناشد الرب أن يحمي كعبته، ففي مثل هذه الظروف العصيبة التي تدعو إلى اليأس، ولد الرسول (صلى الله عليه
    وسلم).
  • ففي هذه السيرة الشخصية لمحمد(صلى الله عليه وسلم)، نقف على مفردات في حياته وهي على قدر من الأهمية.
    فوفاة والده وهو جنين، ثم وفاة والدته ثم عمه، أي المعيلين الرئيسيين له، جعلت منه رجلاً عصامياً، فهو وإن كان من
    قبيلة واسعة الثراء وقوية(قريش)، إلا أنه عمل على تنشئة نفسه بنفسه، وأعتمد على قواه في كسب عيشه، فعمل في
    التجارة وهو صغير، ثم عمل راعياً لأثرياء مكة، ثم في التجارة لصالح السيدة خديجة، وبزواجه منها تمكن من تأسيس
    أسرة محققاً الاكتفاء الذاتي في مورد معيشته. كما أن الرحلتان اللتان قام بهما إلى الشام ورحلاته على اليمن، ساهمت
    بتوسيع أفق ومدارك الشاب، كانت كل هذه الظروف والأحداث تعمل على صقل شخصيته وتضيف إلى تجاربه السياسية
    ما تؤهله لمهمات عظيمة سوف يضطلع بها.
  • أحداث سياسية مهمة
    ــ حرب الفجار: وقد شهدها الرسول(صلى الله عليه وسلم) وعمره عشرون عاماً(33 ق.م)، نشبت هذه الحرب بين قبيلتي
    كنانة وقيس بسبب حادثة، قتل فيها رجل من قبيلة كنانة رجلاً آخر من قبيلة قيس، ولما كانت كنانة أحد بطون قريش، فقد
    أسرعت هذه بكافة بطونها للقتال مع كنانة، في حين وقفت قبائل أخرى على جانب قيس أبرزها قبيلة ثقيف.
     حلف المطيبين: وقد جرت أحداثه في أطار النزاع على زعامة مكة وسدانة الكعبة بما فيها من مزايا(الحجابة ـ
    اللواء ـ السقاية ـ الرفادة) بين ورثة عبد مناف بن قصي وورثة عبد الدار بن قص. وانقسمت بطون قريش بين
    المعسكرين واستعد كل طرف للقتال، وقد تجمع معسكر ورثة عبد مناف عند الكعبة وتعاهدوا وتحالفوا وأقسموا
    بغمس أيديهم في إناء فيه طيب، ومسحوا أيديهم بجدار الكعبة، في حين اقسم أطراف المعسكر الآخر بجوار
    الكعبة على الالتزام بعهدهم أيضاً.
     حلف الفضول: وكان السبب المباشر لعقد حلف الفضول، إن أحد تجار مكة الأثرياء والمتنفذين، أمتنع عن دفع
    مال يستحقه أحد المتاجرين الصغار، فمضى ذلك المتاجر إلى شرفاء مكة ووجهائها يشكو إليهم ظلم التاجر
    الثري، فهبوا لمساعدته بقيادة الزبير بن عبد المطلب(عم الرسول صلى الله عليه وسلم) واجتمعوا في دار أحدهم
    وتعاهدوا وتحالفوا على رد الحق إلى الرجل، وأي مظلوم غيره، إذ تداعت قريش للاجتماع في دار عبد الله
    جدعان لشرفه وكبر سنه فتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا
    معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد إليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف”حلف الفضول” وقال الرسول(صلى
    الله عليه وسلم)” لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب لي به جمر النعم، ولو دعي به في الإسلام
    لأجبت”.
     حادثة بناء الكعبة : حدثت عام 605 م على اثر هطول أمطار غزيرة، سيول كبيرة اقتحمت مكة من الأودية
    المحيطة بها، وتصدعت من جرائه جدران الكعبة. وأعادت قريش بناؤه، ولكنهم اختلفوا فيمن ينال شرف وضع
    الحجر السود في مكانه، فاختير الرسول(صلى الله عليه وسلم) لوضع الحجر الأسود في موضعه، وقد أختار حلاً
    دبلوماسياً وذلك بوضعه الحجر في رداء رفعه ممثلوا القبائل والبطون ووضعه بيده في مكانه النهائي، وقد حدثت
    تلك الحادثة وعمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) يناهز الخامسة والثلاثون.
    وإذا شئنا أن نشخص أبرز الأحداث السياسية والفواصل التي مرت بها الدعوة، فقد مرت الدعوة والنضال الإسلامي
    بثلاث مراحل رئيسية:ـ

أولاً ـ مرحلة الدفاع: وتبدأ من مباشرة الدعوة عام 610 م إلى الهجرة ليثرب عام622.
ثانياً ـ مرحلة التوازن: وتبدأ من الوصول إلى يثرب عام622 م إلى فتح مكة عام630 م.
ثالثاً ـ مرحلة التفوق: وتبدأ من فتح مكة عام 630 م.

أولاً : مرحلة الدفاع ابتدأت الدعوة إلى الدين الجديد

كانت زوجة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأبن عمها المسيحي ورقة بن نوفل، أول من آمن به، وكذلك صديقه أبو بكر
الصديق، وربيبه زيد بن حارثه، وأبن عمه علي بن أبي طالب، وعدد قليل من المقربين إليه بما فيهم عدد من العبيد
والأرقاء الذين مثل انتمائهم إلى الدين الجديد مسالة لها مغزاها الاجتماعي والسياسي العميق في مجتمع طبقي كمجتمع
مكة ” وما نراك أتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي” 27 هود).

  • وانتهت فترة العمل السري التي دامت ثلاث أو أربع سنين، لم يزد فيها عدد المسلمين عن الأربعين شخصاً،
  • ولم يكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يبحث عن المال والزعامة الأرستقراطية، وكان قد قرر التخلي عن تلك
    الإطارات التي كانت بلا مضمون جوهري، فهو أساساً ينتمي إلى قبيلة قوية وأسرة نبيلة، ولكنه كان قد أكتشف مبكراً
    زيف تلك العلاقات وأنسلخ عنها.
  • ومن دروس الدعوة أيضاً، أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) واجه معارضة قوية من أسرته وقبيلته أولاً
  • وعندما أدرك الرسول(صلى الله عليه وسلم)، أن قيادة مكة الوثنية سوف لن تدعه يواصل بسلام بناء مشروعه
    السياسي، إذ كانت قيادة مكة الأرستقراطية ترى فيه خطراً يهدد مصالحها الاقتصادية وعلى اعتقادهم بتعدد القوى
    الغيبية Polytheism الذي كان يتيح لهم مواصلة استغلال عبادة ألآله لأغراضهم الاجتماعية والاقتصادية.
    في هذه المرحلة التي ستقتصر فعالياتها على الدفاع السلبي مع أبداء المرونة في العمل، التقدم، ثم التراجع، وإزاء
    الاضطهاد المتصاعد من قيادة مكة الوثنية، أدرك الرسول (صلى الله عليه وسلم)أن الاضطهاد والملاحقة يقلصان فرص
    العمل والنشاط، إضافة إلى تأثير ذلك على معنويات المسلمين، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة وكانت أول هجرة للمسلمين
    وعددهم 83 رجلاً عدا النساء والأولاد.
  • ولم يلحظوا في الإسلام وفي الرسول(صلى الله عليه وسلم)، سوى خطراً يخلخل قواعد وأسس مجتمعهم الذي ضمن
    لهم حتى ذلك الوقت مصالحهم الاجتماعية.
    وبعد هجرة عدد من المسلمين إلى الحبشة، أدركت قيادة مكة، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقوم بمناورات
    تكتيكية، وليس في وارد خططه، التسليم للضغوط أو للأبتزازات، أو الخضوع للإرهاب والاضطهاد. ومع أن مناورة
    الرسول(صلى الله عليه وسلم) كانت تعني في ثناياها تجنب الاصطدام المباشر، فميزان القوى كان ما يزال دون شك،
    وبنسبة كبيرة يميل لصالح الأرستقراطية المكية، التي كانت قد شددت من عزمها على القضاء على تحركات
    الرسول(صلى الله عليه وسلم). وذلك بالتوجه إلى أهله وقبيلته بالتخلي عن حمايتهم له. فلما رفض عم الرسول(صلى
    الله عليه وسلم) أبو طالب التخلي عن أبن أخيه، وإزاء هذا الموقف وعندما شعرت القيادة الوثنية الأرستقراطية بأن
    أتباع الرسول(صلى الله عليه وسلم) قد هاجروا إلى الحبشة، وقد أمتنع الملك الحبشي من تسليمهم، وكان إسلام حمزة
    وعمر بن الخطاب قد ساعد على تعزيز مواقع الإسلام اجتماعياً إذ بدأ بالانتشار بين أفراد القبائل. آنذاك، اجتمعت قيادات
    قريش ومكة وقرروا تأسيس حلف يتعاهدون فيه على مقاطعة المسلمين تجارياً واجتماعياً، وسجلوا ذلك الحلف تحريرياً
    وعلقوه على جدار الكعبة وسمي بحلف (الصحيفة).(13)
  • اتخذ الرسول (صلى الله عليه وسلم)قراراً سياسياً في بالغ الأهمية، إذ توجه إلى الطائف بقصد أن ينال فيها الحماية،
    وليتخذ منها قاعدة لعمله ونضاله. بيد أن تلك المحاولة أخفقت، إذ كانت تأثيرات فئات مكة الوثنية، وضغوطها قد
    وصلت إلى الطائف، وتصدى له زعماء تلك البلدة وطاردوه إلى خارجها.
  • ومع أن الآمال بدت ضعيفة في تلك المرحلة في إمكانية تجاوز طغيان أرستقراطية مكة وأثروتصميمها على تصفية
    الرسول (صلى الله عليه وسلم)والمسلمين. في تلك الظروف الصعبة، أتصل به عام620 م جماعة من أهل يثرب من
    قبائل الخزرج والنجار يبلغ عددهم 12 رجلاً، وكان ذلك في الواقع نتيجة جهد كان قد بذله الرسول (صلى الله عليه
    وسلم)في موسم الحج السابق عند حضورهم إلى مكة. فالتقى الرسول(صلى الله عليه وسلم) الوفد في مكان يقال له
    (العقبة) وفيها اعترفوا بنبوته وبالطاعة له ولزعامته، وتعهدوا بطاعة تعاليم الله. وقد أرسل الرسول (صلى الله عليه
    وسلم)معهم إلى يثرب مندوباً عنه يعلمهم الدين ويقرأ لهم القرآن، وسميت تلك ” بيعة العقبة الأولى “.
    وفي السنة الثانية 621 كان مندوب الرسول (صلى الله عليه وسلم)قد نجح في مهمته ومساعيه بإقناع المزيد من أهالي
    يثرب بالانتماء إلى الإسلام، وكانت القبائل المقيمة في يثرب وأطرافها تعيش في جو من التنافس والمشاحنات التي تهدد
    بنشوب اقتتال دموي. وحضر المندوب إلى موسم الحج وقد أحضر معه عدداً كبيراً من أهالي البلدة، 73 رجلاً وامرأتين،
    قاموا بتأكيد ولائهم للرسول وللعقيدة الإسلامية، وعاهدوه على أن يصيبهم ما يصيبه، وتلك إشارة واضحة إلى إعلان
    الحماية، وقد سميت تلك “بيعة العقبة الثانية ” وهي إشارة سياسية مهمة للغاية، إذ ستشكل المعبر إلى المرحلة الثانية.

وقبل أن نختتم مرحلة الدفاع المكية، لا بد لنا من مراجعة وتحليل هذه الفترة، فقد كان الإسلام قد بلغ من النضج العقائدي
أولاً: العامل الروحي واليقين الفكري والأيديولوجي والقناعة الذاتية.
ثانياً: مصلحة اجتماعية تكمن في الأهداف السياسية للإسلام تنطوي على المساواة والعدالة والفرص المتكافئة.
وبهذا المعنى أنظم وانتسب إلى الإسلام شبان من عائلات كبيرة ووجهاء تخلوا عن امتيازاتهم الاجتماعية.
وقد استخدم الرسول(صلى الله عليه وسلم) تاكتيكات صائبة، فعندما كان جسم الإسلام لما يزل فتياً غضاً، تجنب
الاصطدام بالوحش الوثني الذي لم يكن يتوانى عن تسديد ضربات موجعة، وربما مميتة، بل اتبع أساليب المرونة،
وربما التراجع خطوه (الهجرة نحو الحبشة)، لكن دون التخلي عن الهدف الرئيسي، متقدماً دون هوادة غير عابئ بما
يحيط بشخصه من أخطار وتهديدات وإغراءات، وقد تجنب مقابلة الاضطهاد بالعنف(وهو ما يمنح المرحلة سمة الدفاع)
تجنباً لتعريض المسلمين إلى مخاطر عمليات تصفية كاملة أو إبادة، وهو ما كان سيحقق لأرستقراطية مكة الوثنية هدفها.
ولكن الإرهاب الوثني كان يشتد كلما فشلت أساليبهم في تصفية المسلمين وإيقافهم عند حدودهم، وتحويلها إلى مجرد حركة
غاضبة متمردة سيتم تصفيتها طال الزمن أو قصر. وكانت شخصية الرسول(صلى الله عليه وسلم) دون ريب ذات ثقل
مؤثر في عموم العملية السياسية في كافة أبعادها ومراحلها، وهو ما كان يمثل أهمية كبرى في تلك العصور.
كانت إذن العقبة الثانية 621 ذروة المرحلة الأولى ـ الدفاع ومن بعدها سيجري الإعداد للمرحلة الثانية ـ التوازن التي
ضمن فيها الرسول(صلى الله عليه وسلم) أو كاد. وفي مثل تلك الظروف، أتخذ الرسول (صلى الله عليه وسلم)قراره
الاستراتيجي الكبير بالهجرة على يثرب. “والهجرة لم تكن في واقع الأمر هرباً أو هزيمة، بل كانت انفصالاً عن القبيلة
وعن العائلة واستبدالاً لرابطة الدم برابطة العقيدة المشتركة” (16)

ثانياً : الهجرة إلى المدينة ـ مرحلة التوازن

قرار سياسي حاسم:
كنا قد توصلنا إلى هجرة الرسول(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين من مكة إلى يثرب لم تكن فراراً من جور وإرهاب
وظلم، رغم أن ذلك كان حاصل فعلاً، فقد طرحت مغريات كثيرة على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، سواء ما يتصل
منها بالزعامة والنفوذ، أو المال. ولكن الرسول(صلى الله عليه وسلم) أدرك بثاقب بصره الاستراتيجي، أن المطاولة مع
ضغط المشركين وقيادة مكة الأرستقراطية سوف لن يؤدي إلى تطوير العمل والدعوة والاقتراب من الهدف، بل إلى
الجمود. وأن تأسيس قاعدة أمينة لتكون مقراً ومنطلقاً للجماعة الإسلامية(وقد وفرت يثرب تلك المستلزمات.
تم تنفيذ هذا القرار السياسي الحاسم، في الهجرة من مكة إلى يثرب(وسوف نطلق عليها من اليوم المدينة)، بدقة
وانضباط عال تحت تأثير اضطهاد قريش والمشركين وظروف ذاتية وموضوعية أخرى تمثلت بوفاة عمه أبو طالب(الذي
كان يوفر له الدعم ضمن القبيلة)، ووفاة زوجه السيدة خديجة(المعين الاقتصادي والعائلي)، فإن العمل السياسي كاد أن
يتوقف، فكان لا بد للرسول من قاعدة، قاعدة حصينة يتخلص فيها من الجمود، ومنها ينطلق لاسيما وأن هجرته إلى
المدينة جاءت بعد محاولات فاشلة لإيجاد القاعدة والحماية له في الطائف، بتأثير ونفوذ قيادة مكة.(19)
فالهجرة إذن كانت قراراً عبقرياً وتوقيتاً سليماً في إطار عملية السجال الاستراتيجي بين الجماعة الإسلامية والمشركين،
وتدشيناً للمرحلة الثانية من الصراع. فقد كانت المرحلة الأولى(الدفاع)، ضمنت الحركة من خلف خطوط دفاعية، مع
القيام ببعض الفعاليات التي تدخل في إطار النضال السلبي، وتلك المرحلة استنفذت شروطها ولم تعد المراوحة في موقع
الدفاع أمراً يقيد العمل السياسي، بل أن العمل السياسي بمفرده لم يعد كافياً، فلابد أن يرافقه تحرك محسوس أكثر
فاعلية، تحرك يوازي النضج النظري، يعززه ويدعمه التحرك السياسي، ولا نقصد هنا سوى التحرك العسكري، وكان
ذلك هو جوهر بيعة العقبة الثانية 621 التي سميت ببيعة الحرب، وعندما عاهد الرسول(صلى الله عليه وسلم) مندوبوا
مدينة يثرب على الدفاع عنه وحمايته القتال معه وهذه تحدث للمرة الأولى خارج إطار التحالفات القبلية، وخارج
الولاءات العائلية الأسرية، بل ولاء للعقيدة والجماعة الإسلامية.
الهجرة كانت صفحة مهمة من صفحات السجال الاستراتيجي، وبها أفتتح الرسول(صلى الله عليه وسلم) صفحة
التوازن، وفي هذه الصفحة سوف يتبادل الهجمات مع قيادة مكة، ثم منتزعاً المبادرة منها.
وفي جرد وتحليل لمستودع القوى والفئات الاجتماعية والسياسية ومواقفها. ففي الأساس كان هناك أولئك الذين دعوا
الرسول (صلى الله عليه وسلم) واتصلوا به بمكة وهم أفراد من قبائل شتى، من الخزرج وأوس والنجار بصفة رئيسية،
وفيهم الرجال والنساء، وفيهم قادة وزعماء في قبائلهم، وكانت مبايعة هؤلاء في العقبة الثانية 621، التي بايعوا
الرسول(صلى الله عليه وسلم) كقائد وزعيم، على أن يصيبهم ما يصيبه، أي القتال معه وسميت ببيعة الحرب. وقد نزلت
بعد العقبة الثانية الآية التي تأمر الرسول(صلى الله عليه وسلم) بالقتال، ولكن قبل ذلك يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على

الأذى. وقد أطلق على هؤلاء الذين اسلموا وبايعوا الرسول(صلى الله عليه وسلم) ثم استقبلوه في المدينة بالأنصار،
فيما سميّ المسلمون الذين هاجروا من مكة إلى المدينة بالمهاجرين، وقد مثلت هاتان الفئتان، عماد قوى المعسكر
الثوري(20)
كما كانت المدينة تضم ثلاث جماعات من اليهود وهم: بنو قينقاع وبنو النظير وكانوا حلفاء لقبيلة أوس، وسيشكل
هؤلاء القوى الرئيسي لمعسكر الأعداء المحتملين. وبرز في المدينة تيار انتهازي ممن أطلق عليهم بالمنافقين (*)
الدولــة:
تلك هي الظروف من مخاطر الأمن الخارجي والداخلي، التي كان على الرسول(صلى الله عليه وسلم) مواجهتها،
والشروع في نفس الوقت بتأسيس مقر للجماعة الإسلامية وقواها وأدواتها وأجهزتها،
وكان لابد من توفير كافة المستلزمات والشروط التي تكفل الوصول إلى هذا الهدف، فأول ما قام به الرسول(صلى الله
عليه وسلم)، هو بناء المسجد الذي سيكون مقر الجماعة، ثم إصدار وثيقة التآخي بين المهاجرين والأنصار، وتأسيس
الجيش الذي سيكون ذراع الدولة القوي. وكانت الإجراءات الثلاث تلك: الصحيفة(الدستور)، المسجد، الجيش،

  • المسجد:
    رمزاً للإسلام ومركزاً لأداء الشعائر وأيضاً.
    ـ دائرة سياسية/عسكرية لتوجيه علاقات الدولة في الداخل والخارج.
    ـ مدرسة علمية تشريعية يدور فيها التفسير والتشاور والاجتهاد.
    ـ مؤسسة اجتماعية يتعلم فيها المسلمون النظام والمساواة.
    ودون ريب فإن نقص الأموال والتجربة والخبرة كانت السبب في تحشد كل هذه المؤسسات في المسجد.(24)
  • الصحيفة(الدستور):
    هي الخطوة الثانية التي هدفت إلى تنظيم العلاقات الداخلية بين القوى وفئات المجتمع على اختلاف انتمائهم مع المسلمين
    أنفسهم ومع الفئات الأخرى لا سيما اليهود والنصارى وقد ضمت الاتجاهات الرئيسية التالية:
  • الجيـش:
    لم يسمح الرسول(صلى الله عليه وسلم) بالقتال قبل اكتمال النمو العقائدي والوصول إلى مرحلة النضج العقائدي الإيماني،
    فسوف يقاتل المسلمون أخوة لهم وأعمام وأبناء عمومة، وتلك مسألة ذات شأن خطير عند العرب. فقد قاتل المسلمون في
    بدر أخوة(قاتل الزبير أخاه العباس، وعلي بن أبي طالب أخاه عقيل) وقبل أن يصل عددهم إلى درجة تحول دون أبادتهم
    وتشتيتهم وقبل تأسيس الدولة، كما أن الاستخدام المبكر للسلاح كان سيزعزع من تكاتف القبائل من حوله، ثم نزلت أولى
    الآيات التي تدعو المسلمين إلى القتال في أواخر العهد المكي ومطلع العهد المدني ومنها:” أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا
    وأن الله على نصرهم لقدير، ولو دفع الله بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها أسم الله كثيراً”
    39 ـ سورة الحج

ثالثاً : فتح مكة ـ مرحلة التفوق

مثل فتح مكة إذن النهاية الحاسمة لمرحلة التوازن التي أزاحت من أمام الرسول(صلى الله عليه وسلم) والدولة
الإسلامية أخطر الأعداء وأصعب العقبات المتمثلة بقيادة مكة الأرستقراطية الوثنية وثقلها السياسي والعسكري والديني
والاقتصادي. وغدت مكة التي كانت مركزاً مهماً على هذه الأصعدة في قبضة المسلمين. ومع أن الرسول(صلى الله عليه
وسلم) لم يتخلى عن المدينة كعاصمة ومقر للدولة الإسلامية، إلا أن مكة لم تفقد أهميتها الدينية والتجارية.
وإذا كانت مرحلة التوازن قد أنقضت، فقد دخل الرسول(صلى الله عليه وسلم) والمسلمون مرحلة التفوق والمبادرة
بالهجمات بكل جدارة واستحقاق، فإن أولى الأهداف السياسية /العسكرية المقبلة تمثلت بتصفية ما تبقى من جيوب
الوثنية والأرستقراطية /البطريركية (Patriarchy) العربية في عموم منطقة وسط شبه الجزيرة العربية، وأحكام
السيطرة عليها، ومن ثم على كامل منطقة وسط شبه الجزيرة. فالدولة الإسلامية ماضية لتحقيق سيادتها الخارجية
وعلى نطاق متسع، وبذلك نستكمل فعلاً شروط الإدارة المركزية والدولة .
ـ تطور نظام الحكم والشريعة :
كان النظام السياسي والاجتماعي في مكة وسائر مناطق وسط شبه الجزيرة على النحو الذي ذكرناه في مطلع بحثنا، تحت
هيمنة أرستقراطية مكة الوثنية الاقتصادية والثقافية، والسياسية وأيضاً، وقد تمكنت من تطوير النظام القبلي
الجنتيلي(Gentile) البدوي إلى نظام أرستقراطي /ب طريركي (Patriarchy) مستقر في المدن والواحات الكبيرة، في
حين استمرت النظم والقوانين القبلية العرفية سائدة كنظام قانوني.

ــ فالنظام الإسلامي في جوهره هو نظام لارأسمالي، لأن النظام الربوي(financial capitalism) هو جوهر النظام
الرأسمالي المالي.
ــ إذن فالرؤية الاستراتيجية للرسول، قد أستقرات أهمية العلاقات الخارجية منذ مرحلة التوازن،
ــ مثلت تلك الخطابات والردود عليها أولى الاتصالات والعلاقات السياسية الخارجية للإسلام
ومرة أخرى تبرز موهبة الرسول(صلى الله عليه وسلم) في الاستقراء على الصعيد الاستراتيجي وإدراكه التام أن لتلك
القوى العظمى الأجنبية الدخيلة من يحالفها ويعمل لصالحها من أبناء المنطقة، سواء من رضخ لقوتها أو سايرها
عقائدياً فقد أجل الرسول(صلى الله عليه وسلم) الاصطدام بتلك القوى قبل أن يصفي صلاتها الداخلية، وأحكام سيطرة
الدولة الإسلامية على الموقف الداخلي، وقد بدء هذا الهدف يتحقق عندما أنظمت القبائل النصرانية(على التخوم) إلى
الإسلام وتصفية الزعامات الوثنية تصفية تامة بعد فتح مكة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى