لوحة المفاتيح ..هل تقضي على القلم والورقة ؟
جودت هوشيار
وسائل الأتصال الرقمية ، أزاحت الكتابة اليدوية جانباً. وكل من يتعامل مع المعلومات و يستخدم هذه الوسائل في عمله او حياته اليومية ، لم يعد بحاجة الى الكتابة اليدوية الا نادرًا وعند الضرورة فقط ، مثل كتابة بضعة أسطر في دفتر الملاحظات أوالتوقيع على مستند أو صك أو صورة أو كتابة هوامش وملاحظات على كتاب خلال قراءته ، وهي عادة متأصلة عند العديد من المفكرين و الكتّاب.
فقد حل الكومبيوتر محل الأوراق الرسمية في أعمال الحكومة ، وفي كل مجالات الحياة تقريبا في العديد من المجتمعات الغربية المتقدمة ، وثمة اليوم في الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية مؤسسات ودوائر رسمية ومنظات غير حكومية ، ومعاهد ومدارس لا يستخدم فيها القلم والورق للكتابة اليدوية على الأطلاق .
و لكن هل الكتابة اليدوية امر مهم حقاً في حياتنا ؟ ، وهل هي ضرورية للبشر عموماً والمبدعين من الكتاب والشعراء و الباحثين على وجه الخصوص ؟ وهل يشكل أختفاؤها التدريجي ضياع نوع حميم من التواصل الأنساني عبر الرسائل المتبادلة بين الأقارب و الأصدقاء و المعارف ولمتعة لا تعوض للمحبين ، ولمعارف قد يطويها النسيان ؟ ففي نهاية المطاف كل شيء يتغير في الحياة ويتطور بمضي الزمن . هل يتحسر أحد اليوم على أختفاء طرق الكتابة القديمة على ألواح الطين ، واوراق البردي ، والجلود ، و التقش على الصخور أو يتحسر على أنتفاء الحاجة الى الفاكس او الأسطوانات الموسيقية ؟
حقا ان المهم هو المحتوى وليس الوسيلة ، و ما هو مكتوب باليد ليس سهلا ارساله أو خزنه . واضافة الى ذلك فأن الكتابة اليدوية ليست سهلة . و لكن من المبكر اليوم ، القول بأن الكتابة اليدوية في طريقها الى الزوال .
صحيح ان الأجهزة الرقمية الحديثة تساعدنا على مواكبة العصر ، وأنجاز الأعمال على نحو أسرع ، ولكن الجري وراء السرعة يفقدنا أشياء مهمة .!
حتى الماضي القريب ، كانت الكتابة باليد تعد تطويرا للذات و مفتاحاً لفهم الآخرين و الدخول الى عوالهم .
كان البعض يعتقد أن الكتابة اليدوية الجميلة و الصحيحة عامل مساعد للتقدم الوظيفي ، والنجاح في الحياة . مثل هذه الأفكار قد تبدو اليوم عتيقة لمن أعتاد على أستخدام الكومبيوتر والهواتف الذكية في الكتابة و تبادل الرسائل و الملفات و الصور ، ولكن التجارب العلمية أثبتت أن للكتابة اليدوية مميزات لا تتوفر في الكتابة الرقمية .
يقول العلماء أن الكتابة اليدوية ، كما الرسم ، يسهم في تطوير القدرة العقلية لأنها مرتبطة بالدماغ ، أما الدق على لوحة المفاتيح فهي عملية سلبية ، بمعنى أنه لا ينشط التفكير الأبداعي ، لأن الأصابع تتحرك على لوحة المفاتيح بشكل عشوائي بلا أيقاع والدماغ يتلقى فقط الضوضاء الذي يمنع التفكير . .. الكتابة اليدوية أبطأ وتتناسب تماماً مع سرعة التفكير وضرورية للتعلم ، لأنها تتيح للأنسان معرفة أعمق وأكثر رسوخا .
وأثبتت التجربة التي قام بها فريق بحث “فيلاي” في مرسيليا انه يتم تنشيط أجزاء مختلفة من الدماغ عندما نقرأ حروفا تعلمناها من خلال الكتابة بخط اليد ، عن تلك التي يتم تفعيلها عندما نتعرف على حروف تعلمناها من خلال كتابتها بواسطة لوحة المفاتيح. عند الكتابة باليد، تترك الحركات المعنية ذاكرة حركية في الجزء الحسي الحركي من الدماغ ، الذي يساعدنا على التعرف على الحروف. وهذا يعني وجود علاقة بين القراءة والكتابة، ويؤكد فريق البحث، أن النظام الحسي الحركي يلعب دورا في عملية التعرف البصري في أثناء القراءة .
و جاء في بحث علمي أنجز عام 1989 في جامعة ” فرجينيا ” ان بعض المدارس الأميركية قامت بمحاولة تحسين الخط الرديء لعدد من طلابها و نجحت في ذلك ، وهذا التحسن أدى في الوقت نفسه الى تعزيز عملية التعلم ، وقدرة الطلاب على القراءة الصحيحة ، وتشكيل العبارات ، والجمل و تذكر النصوص بشكل أفضل .
الكتابة اليدوية منذ الصغر تسهم في تشكيل الطبع الأنساني ، وتطوّر قدرات الأنسان . والخط اليدوي ينم عن شخصية كاتبه ومن الصعب ، ان لم يكن من المستحيل تغييره لأنه ميزة فردية ، تماثل تماما الميزة الفردية لبصمات الأصابع .
الكتابة هندسة الروح ، ونظافة الكتابة من نظافة الروح .
الخط الجميل سمة للأنسان الواثق من نفسه و بفقدانه نفقد كل روعة و جمال الأحرف التى تشكل الجزء الأهم من تراث الشعوب .