أخبار العالمإقتصادفي الواجهة

لم تعد اليد الخفية خفية في تحريك الاقتصاد الحر

نعيم مرواني

يعتمد الاقتصاد الحر الذي يتسيد حاليا النظام الاقتصادي العالمي على مبدأ (laissez-faire) والتي تعني عدم التدخل الحكومي بالنشاط الاقتصادي ويختزل أنصار الاقتصاد الحر واجب الحكومات بوضع القوانين واللوائح التي تنظم العملية الاقتصادية داخل وخارج البلدان فحسب. ويبررآدم سمث بكتابه “ثروة الأمم” رفض تدخل الحكومات لتوجيه النشاط الاقتصادي بان ماأطلق عليه اليد الخفية (invisible hand) كفيلة باصلاح الخلل الذي يحصل للاقتصاد الحر اي ان السوق يصلح نفسه بنفسه من خلال مبدأ العرض والطلب الذي يوجه بوصلة النشاطات الاقتصادية أو من خلال ما أسماه اقتصاديون لاحقون الانتخاب الطبيعي للاقتصاد (Economic selection theory) أي البقاء للنشاط الاقتصادي الاصلح.
لكن علم الاقتصاد في تطور دائم ( اقصد بالتطور الترجمة الحرفية للمفردة الانكليزية evolution وتعني التغير من حال الى آخر لكن ليس بالضرورة نحو الافضل) واستجدت نظريات اقتصادية جديدة ورغم ان مؤيديها يجادلون انها لم تنحرف عن الخطوط العامة للاقتصد الحر لكنها في الحقيقة نحت منحى مختلفا محاولة تسيير “اليد الخفية”.
لكن هذا لايعني ان الانتهازيين والمرابحين كانوا سيلتزمون بقواعد اللعبة الاقتصادية التي وضعها الآباء الاوائل لنظام الاقتصاد الحر بل استمر تحايلهم على القوانين وواصلوا توظيف مقارباتهم غير الشريفة للي اليد الخفية وتوجيه الانتخاب الطبيعي لصالح هذه الشركة او تلك للتأثير على نظرية الخيار العقلاني (Rational choice theory) والتي تدعو لاتاحة الفرصة للمستهلك كي يتخذ قراره اعتمادا على العقلنة او المقارنة بين البضائع لاختيار الانسب.
خصصت الشركات الكبرى نسب تصل الى ربع عوائدها المالية للدعاية التي غايتها التأثير على عملية اتخاذ المستهلكين لقراراتهم وصارت تنفق الاموال على الاعلانات التجارية والبوسترات وتسخير مواقع التواصل الاجتماعي والوسائل الاعلامية الاخرى لنشر معلومات عن منتجاتها غالبا ماتكون كاذبة او مبالغ فيها في احسن الاحوال. لحد الآن الأمر قانوني لان الاختيار بالنهاية عائد للمستهلك.
أسواق الاسهم هي احدى أهم ركائز نظام الاقتصاد الحر، وبدأت فكرتها عندما أراد عدد من التجار الرواد بدء أعمال تجارية ضخمة تحتاج رؤوس أموال كبيرة ليس بمقدور رجل اعمال واحد أن يجمعها بمفرده، فقرر عدد من المستثمرين جمع مالديهم من أموال وأصبحوا شركاء تجاريين ومالكين مشاركين مع حصص فردية في أعمالهم فتشكلت الشركات المساهمة. أصدرت شركة الهند الشرقية الهولندية في عام 1602 أول أسهم ورقية للتداول. سمحت هذه الوسيلة القابلة للتبديل للمساهمين بشراء وبيع وتداول أسهمهم بسهولة مع المساهمين والمستثمرين الآخرين.
اختلف الامر الآن وصار عليك اولا تأسيس شركة وفقط تستطيع تلك الشركة الانضمام الى أسواق الاسهم عندما تكسب ثقة المستثمرين من خلال ارباحها وسمعتها. يعني لم تعد غاية اسواق البورصة مشاركة عدة مستثمرين لجمع راس المال الكافي لتاسيس شركة بل صارت اسواق البورصة احد اهم مصادر الربح.
حسب صديقي ابراهيم الزيادي الذي خبر طبيعة المضاربات في اسواق البورصة، لااحد يعرف كيف تصعد او تهبط قيم اسهم البورصة. يقول بعد مراقبة وبحث وتأن لمعرفة العميلة تأكد له ان الشركات الكبرى تتلاعب بالاسعار كي تستحوذ على اموال المشترين من خلال التلاعب بقيم الاسهم وفق حجج واهية. تغلق اسهم شركة س ب 350 دولار في المساء وتفتح في الصباح ب 150 دولا للسهم يعني بخسارة 200 دولار. الاقتصاديون يقولون لايمكنك توقع اتجاه حركة سوق البورصة مثلما لايمكن خبراء الانواء الجوية توقع تقلبات الطقس الا لايام قلائل لان الاثنين يخضعان للنظرية الفوضوية (chaos theory) والتي لاتترك انماطا يمكن دراستها لتوقع اتجاه تطوراتهما، إذ يمكن لاتفه الاحداث أن تسبب كوارث. شبه أدوارد لورنز ذلك بأن خفقان أجنحة فراشة في البرازيل يمكن ان يتسبب بعاصفة مدارية في تكساس بما اطلق عليه لاحقاً في علم الاقتصاد تأثير الفراشة (Butterfly Effect).
ابراهيم يعتقد ان الشركات تخترع حججا واهية لخفط اسعار اسهمها لانها هي من يشتريها بخسارة في اليوم التالي والا ،يجادل هو، كيف ينخفض سعر السهم مثلا 200 دولار ونصف الكرة الارضية نيام؟ يعني ماالذي يمكن ان يحدث خلال 12 ساعة يتوقع من خلاله المستثمرون تأثر انتاج تلك الشركة وتاليا انخفاض اسعار اسهمهما؟ وكيف يستطيع المستثمر التفكير بالامر ثم يقرر هبوط القيمة وهو نائم؟ نصيحته للمضاربين بسوق الاسهم ان يختاروا شركة عالمية كبيرة لايمكن ان تنهار ويستثمروا بشراء اسهمها ولكن لايبيعوا مهما انخفضت قيمة السهم لانه بالنهاية حتما سيصعد فيربحون لان خفض القيم مصطنع غايته سرقة اموال المستثمرين من قبل الشركات الكبرى.
لاتنس ايضا ان قيمة سهم شركة ص يعتمد على البيانات الاقتصادية والارباح المتوقعة التي ستجنيها الشركة، وهكذا معلومات تنشرها الشركة ص نفسها وليس طرف ثالث محايد.
عام 2001 كانت شركة انرون (Enron) – كانت احدى اكبر شركات أمريكا والعالم- تزود فرعها المستقل والمتخصص بمضاربات الاسهم والاصول الذي يفترض ان يكون ضامنا لمنع الافلاس والذي يسمى بالاقتصاد “كيان لاغراض خاصة” ((Special Purpose Entity تزوده بمعلومات كاذبة واخفت عنه ديونها المتراكمة. المدراء المنفذون والمسؤولون الكبار كانوا يعرفون بما يجري لذا باركوا ضخ المعلومات الكاذبة لكي يصعد سعر اسهم الشركة رغم علمهم ان الشركة منحدرة للافلاس. عندما رفعوا اسعر الاسهم، باعوا اسهمهم بسعر عال ثم أعلنوا افلاس الشركة. صحيح ان المدراء التنفيذيين والمسؤولين الماليين للشركة حوكموا ثم سجنوا لكن سجنهم لم يمنع مسؤولي الشركات الاخرى عن الاستمرار بخداع حاملي اسهم شركاتهم، ولايمر اسبوع حتى نسمع بمحاكمة او معاقبة احدهم لان الجميع يريد ان يأخذ دور اليد الخفية.
طلقة الرحمة على فكرة سحر اليد الخفية في اصلاح العطب الاقتصادي ونظرية الخيار الحر والتطور الطبيعي للاقتصاد والبقاء للنشاط الاقتصادي الاصلح دون تدخل الحكومات أطلقها الفيلسوف والاقتصادي الملياردير جورج سورو عندما وسع النظرية الاجتماعية الانعكاسية (Reflexivity Theory) لتشمل النشاطات الاقتصادية. يتحدث سورو عن تبادل الادوار بين العلة والمعول بالاقتصاد والتأثير بعضهما البعض. كي تغلق مصرفا مثلا، كل ما عليك فعله هو بث إشاعة ان ذلك المصرف سيعلن افلاسه قريبا، سيهرع جميع المودعين لسحب ودائعهم بعدها مباشرة سيعلن المصرف افلاسه لان وجود أي مصرف يعتمد على ودائع الزبائن.
الكمارك العالية التي تفرضها الدول لحماية انتاجها الوطني هو نوع من انواع لي اليد الخفية وتدخل الحكومات للتأثير على حركة البضائع في اقتصاد السوق الحر وعرقلة المنافسة الحرة بين التجار الدوليين. الأمر الآخر هو التخفيض “الاصطناعي” لقيمة العملة التي تقوم به الحكومات والتي تهدف من وراءه الى كسب المنافسة التجارية. يفترض في نظام السوق الحر ان تحدد التبادلات التجارية قيم العملات وليست الحكومات. من أكثر الدول المعروفة بتخفيض العملة المفتعل او الصناعي (Currency Manipulation) هي الصين. عندما تخفض دولة قيمة عملتها تنخفض قيم بضائعها وبالتالي يصعب على الدول الاخرى المصنعة لنفس البضاعة منافستها لزهادة اسعارها.
صار الاقتصاد يعتمد الآن على توجيه أو إدارة الادراك (Perception Management) فاذا استطاع احد اقناعك ان قيمة لوحة فنية مليون دولار اذن صارت قيمتها السوقية مليون دولار واذا اقنعك ان هذا المصرف سيفلس فانه حتما سيفلس ولم تعد اليد الخفية خفية في توجيه دفة النشاطات الاقتصادية واصلاح الخلل المحتمل، وتحولت التبادلات التجارية الى تبادلات فكرية اكثر منها مادية في عملية اشبة ماتكون بحرب سايكولوجية اقتصادية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى