رأي

لماذا المستقبل للديمقراطية وليس للديكتاتورية والإستبداد في العالم

يوسف دركاوي

لماذا المستفبل للديمقراطية
وليس للدكتاتورية في العالم
نشأت في تاريخ البشرية، أنظمة فكرية وإقتصادية وإجتماعية عديدة، مباشرة بعد تكوين تجمعات بشرية، بشكل قرى أو عشائر أو مجمعات سكنية. وبرزت الحاجة في تلك القرى أو التجمعات السكنية إلى فرد أو لجان، تدير شؤون تلك المجتمعات أو التجمعات البشرية، سواء بشكل فرد أو شيخ للعشيرة، أو على هيئة مجموعة من الشيوخ، يستشيرون بعضهم بعضاً، ويصدرون قراراتهم بشأن مجتمعاتهم أو عشائرهم.
وتطورت المناهج الفكرية لتلك التيارات مع تطور المجتمعات، وبمرور الزمن، إذ صار هناك، تيار تسلطي ديكتاتوري فردي، يحكم بالحديد والنار. والنوع الثاني على شكل تيار جمعي ديمقراطي مُنتخب، أو مفروض من قبل الشعب، أو من قبل نخبة من الشعب.
فمن أنواع الحكم، التي نشأت عبر التاريخ مع نشوء التجمعات البشرية، هو حكم الفرد الواحد، التسلطي الديكتاتوري. ولهؤلاء أمثال لا حصر لها عبر التاريخ. ولعلنا نجد هذا المثل يتخلخل في جميع العشائر في صورة رؤساء العشائر ذي السطوة والتسلط. ونجده أيضا بارزا في حياة أباطرة الإمبراطوريات والباشوات، وكذلك في أثناء حكم الملوك والأمراء في القديم، والى حد ما في الزمن الحاضر، وإن تغيرت عقلية الملوك، وضعفت سلطاتهم وسطوتهم، بسبب الدساتير الجديدة، التي تعطي دورا أكبر لرؤساء الحكومات.
نمت وتطورت تلك المناهج الفكرية والإقتصادية، إلى ما يُسمى بالماركسية الشيوعية، والتي طبقت ما يسمى بالحكم البروليتاري الديكتاتوري المُستبد، سواء في الدول الشيوعية، مثل الإتحاد السوفيتي السابق، إذ كان الحزب الشيوعي الحاكم، وهو الحزب الواحد والوحيد، يختار رئيسا مستبدا للبلاد، مدى الحياة، وكذلك في الصين، الذي يحكمها رئيس، مدى الحياة. والشىء ذاته في جميع الدول التي حكمها ويحكمها الشيوعيون، مثل يوغسلافيا ورومانيا والبانيا وكوبا وكوريا الشمالية ودول أخرى كثيرة.
ومن الأنواع الأخرى للحكم، ما يُسمى بحكم الشعب، الذي يُعد شكلا من أشكال الديمقراطية البدائية، التي نمت وتطورت في العهد الأغريقي الهلنستي اليوناني. ويرجع مصطلح (الديمقراطية) في التاريخ القديم الى تلك العهود. ويجب التنويه على أن الديمقراطية تعني سلطة الشعب، وهي باليونانية، مشتقة من كلمة (ديموس)، وتعني الشعب و(كراتوس) وتعني السلطة.
وإذ رجعنا في تاريخ البشرية، نجد جمهورية نشأت بإسم(أثينا) كأول جمهورية ديمقراطية في العالم، تأسست حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، وذلك في دولة المدينة في (أثينا)، واستمرت قرنين من الزمان. وانتشر هذا النمط الديمقراطي، بعد ذلك في المدن اليونانية الأخرى، وبأنواع تختلف نوعا ما عن بعضها البعض، إلا أن الديمقراطية الأثينية، كانت أكثر كل تلك الديمقراطيات، توثيقا ونضوجا، بالنسبة الى عصرها الهليني الأغريقي، إذ كانت تقوم على المباديء الرئيسية الثلاثة، المساواة السياسية، المساواة الإجتماعية، وحكم الشعب.
وقد وضع أسس التجربة الديمقراطية القائد الأثيني كليسثنس الأثيني سنة 507 ق. م ، وتعد تلك التجربة من أهم المساهمات الأغريقية في العالم الحديث، إذ مهدت الطريق للديمقراطية النيابية عبر العالم.
ولا بد من التذكير على أن الديمقراطية الأثينية تتكون من (الإكليسيا)، وهي مؤسسة سياسية ذات سيادة، تشرع القوانين، وتسيطر على السياسة الخارجية. وكذلك من مجلس البويل، ويتكون المجلس من ممثلين عن القبائل الأثينية العشر. إذ كانت تختار 50 شخصا من كل قبيلة اثينية، ويتكون عدد المجلس من 500 رجل، وكان المجلس يشرف على الموظفين الحكوميين في الجيش والإداريين من الدولة، وكانوا يختارون بالقرعة، وذلك لمنع تكوين طبقة دائمة من موظفي الدولة، الذين يستغلون سلطاتهم لتحقيق مصالحهم الشخصية. وكذلك تتكون من الديكاستريا، وهي محكمة شعبية يدخلها المواطنون الذكور، الذين يتجاوز أعمارهم 30 عاما، يدخلون المجلس بالقرعة، إذ يطرح فيها المواطنون قضاياهم أمام مجموعة من القضاة المختارين بالقرعة.
وتجدر بالإشارة على أنه لم يكن هناك قبل 150 سنة، دولة ديمقراطية واحدة، كاملة الأركان في العالم كله. وفي الحقيقة لم نرى النور، لدولة ديمقراطية بتلك الأوصاف، إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
وكانت الولادة الديمقراطية في بعض الدول عويصة وصعبة، أشبه بالولادة القيصرية، إذ حتى السبعينيات من القرن العشرين، كان هناك دول أوروبية مثل، اليونان والبرتغال واسبانيا، دول غير ديمقراطية، تعاني من الإنقلابات، ومن الديكتاتوريات، ومن عدم الإستقرار.
وأما اليوم، فالديمقراطيات تطورت وانتشرت، ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد إنفكاك الإتحاد السوفيتي، إلا ان الديمقراطية وللأسف الشديد، بدأت تنحصر اليوم على حساب الإستبداد والديكتاتورية.
وقد يكون الإنموذج الصيني والروسي، الأتموذجين والمثالين، اللذان يقتدون بهم بعض الدول الشرق أوسطية، بسبب تقارب مفهوم السلطة والتسلط من قبل حكومات الشرق أوسطية والحكومات الإسلامية من هذين الأنموذجين.
وقد مرت الشعوب عبر التاريخ، بهزات وارتجاجات وزلازل ثورية عديدة، تركت آثارها ظاهرة للعيان. فإذا رجعنا في التاريخ الحديث للشعوب، نجد شعوبا تثور وتصارع من أجل الحرية والديمقراطية، ففي الفترة ما بين عام 1828 – 1926 م قامت ثورات وإحتجاجات عديدة، ومن تلك الثورات، ثورة الإوروبيين، نحو الحرية والديمقرطية، والتي سميّت في حينها ب(ربيع الشعوب)، وسبقتها في طبيعة الحال، ثورات وانتفاضات شعبية كثيرة، أطاحت بأنظمة وعروش، مثلما هو حال الثورة الفرنسية.
ولا بد من الإشارة على أن تلك الثورات والإنتفاضات، كانت تدار من قبل النخب الفكرية والفلسفبة، والتي صمدت، ونفخت بكل قوة وشجاعة فيها، سواء بأقلامها وخطاباتها ومسارحها حينا، أو بالبندقية، إذا إقتضت الضرورة في أحيان أخرى.
وبدأت الموجة الثانية من الثورات التحررية الداعية للحرية والديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية ما بين عام 1945 – 1964، إذ تسللت الأفكار الليبرالية لفلاسفة كبار مثل (جون لوك، جان فرنسوا فولتير، وجان جاك روسو، وآدم سمث)، إلى معظم الدول في آسيا وأفريقيا في تلك الفترة، وإنتشرت تلك الأفكار حتى في الدول الإسلامية. وكانت في البدء تدعو تلك الحركات إلى الحرية والتحرر والإستقلال من المستعمر الغربي، وتطورت الفكرة بعد ذلك الى تأسيس برلمانات وحكومات ديمقراطية، وإن لم تعمّر في كثير من الحالات.
والموجة الثالثة بدأت في عام 1974 وذلك بسقوط النظام الفاشي في البرتغال، إذ سقطت بسقوطه، اركان الأنظمة القومية العنصرية، التي كانت تشدّد على التعصب الوطني والعسكري، وتدعو الى تمجيد الدولة لحد التقديس.
والموجة الرابعة بدأت سنة 1989 بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، والتي لعب فيها المنشقون المثقفون، أدوارا خطيرة، في كل من المجر وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا والإتحاد السوفيتي نفسه.
ولا بد من الإشارة على انه هناك أيضا موجة خامسة، قامت عام 2011 في جميع انحاء الشرق الأوسط إنطلاقا من الشوارع، وذلك للمطالبة بحكومات أكثر تمثيلا، وبالعدالة الإجتماعية والإصلاحات االإقتصادية في كل من تونس ومصر وليبيا، وغيرها من الدول العربية والإسلامية. واطاحات تلك الحركات الإحتجاجية بالديكتاتوريين اللذين حكموا طيلة عقود، وتطورت الأحوال، إذ اصيبت الأنظمة الإستبدادية في بعض الدول الأخرى، بالخوف والهلع، وبطريقة لم تحدث من قبل.
ولكن النخب العربية والإسلامية مُنيت بالفشل الذريع، وتلاشى الأمل في الغالب، بحيث عاد النظام القديم، بلباس آخر، وبوجوه جديدة، وبإستبداد جديد.
ولكن ومع ذلك كله، أنا لا اتوقع بان الرغبة بالتغيير الديمقراطي في العالمين العربي والإسلامي قد تبددت، لأن الأمل بالتغيير لا يزال عامرا في قلوب كثيرين. ولا يزال الشارع العربي يغلي في أماكن كثيرة. وليشكر المستبدون وباء الكورونا، الذي أرغم المحتجين والمتضاهرين على الهدوء والتراجع، ولكن رغم ذلك، شهد عام 2020 بعض المحطات اللافتة في بعض البلدان العربية.
وعلى العكس من ذلك حدث في النخب الغربية، التي إنتصرت في جُل معاركها من أجل الإصلاح والتقدم والرقيّ، والأهم من كل ذلك مسألة فصل الدين عن الدولة، والتي تعد معضلة ضخمة في المحيطين العربي والإسلامي، والتي تصدي لها كل النخب الدينية، بحجة انها محاولة غربية لتدمير الدين الحنيف.
ولعلنا نمر اليوم في فترة الركود الديمقراطي، إن جاز التعبير. ولا ننسى أن نذكر ان هناك أيضا، موجات من الديمقراطيات المزورة، في الكثير من دول العالم، سواء في الشرق أو في الغرب. إلا أننا لا يمكننا التعويل كثيرا على تلك الديمقراطيات المزيفة، إذ أنها تزول بزوال حكامها، كما حدث في مصر وغيرها من البلدان.
ولنكن صريحين بأن الإعتراف بغياب الديمقراطية، هو الخطوة الأولى نحو الطريق الصحيح، لأن الديمقراطية ليست فقط ديمقراطية الصناديق، التي نجدها في الكثير من الدول أو كما يسميها البعض غزوة الصناديق.
وأخيرا وليس آخرا، يمكننا القول وبكل جرأة، أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة في العالم، التي ثبتت أركان الديمقراطية فيها، منذ بدايات القرن العشرين، إلى يومنا هذا، وإن شهدت الديمقراطية تراجعا نسبيا فيها، في الآونة الأخيرة. إلا إن الديمقراطية راسخة، رسوخ الجبال، وقوية لا تنكسر قوتها أمام العواصف الشديدة، لأن البيت المبني على الرمل يقع في أول عاصفة، وأما البيت المبني على الصخر، فلا يقع مهما كانت العواصف شديدة، وإنما يزداد قوة وصلابة. فلا غرابة من القول بأن الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تدعى بالقرن الأمريكي، كما كانت الفترة ما بين 1815 – 1914 ، توصف بكونها القرن اُلإمبراطوري البريطاني. فمن هذا المنطلق، يمكننا إعتبار القرن العشرين، قرن الديمقراطية الأمريكية بإمتياز، كونه قرنا خاصا بأمريكا، وبنظامها الديمقراطي، الذي فرضته تارة، كما في اليابان وأوروبا الغربية، وبشرت به تارة أخرى، في جميع أصقاع العالم، كنظام انتخابي ديمقراطي وليبرالي حرّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى