أحوال عربيةأخبار العالمدراسات و تحقيقات

أسباب أزمة المشروع التحرري الفلسطيني، وإمكانية تجاوزها

د/إبراهيم أبراش*

مقدمة

تمر (حركة التحرر الوطني الفلسطيني المعاصرة) بأزمة بنيوية ووظيفية عميقة: أزمة قيادة، وأزمة برنامج وطني، أزمة فكر وأيديولوجيا، ثم أزمة انقسام ووصول الخيارات المعلنة أو البرامج الحزبية لطريق مسدود سواء كان خيار المفاوضات والتسوية السلمية لدى منظمة التحرير وفصائلها أو خيار المقاومة لدى حركة حماس ومن يشايعها من الفصائل، ومما زاد من تفاقم الأزمة تغير الظروف الموضوعية والذاتية التي كانت حاضرة عند تأسيس المشروع الوطني في بداياته، فالمتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية التي استجدت على مجريات الصراع كانهيار المعسكر الاشتراكي والنظام الإقليمي العربي وصعود الإسلام السياسي وفوضى ما يسمى الربيع العربي وموجة التطبيع الأخيرة بين أنظمة عربية وإسرائيل، بالإضافة الى الانقسام الداخلي وصعود اليمين الصهيوني الأكثر تطرفا وعنصرية، كلها أمور زادت من إرباك المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني.

هذه الأزمة المركبة ومع أنها أزمة قوى وبرامج سياسية إلا أن استمرارها يؤثر مستقبلا على الحقوق الوطنية السياسية، فالاستيطان في الضفة والتهويد في القدس والانقسام السياسي والجغرافي بين غزة والضفة وتراجع الدافعية النضالية لدى غالبية فصائل العمل الوطني والانشغال بهموم ومتطلبات الحياة اليومية وتزايد المراهنة على المتغيرات الخارجية… الخ، كلها أمور ستُخرِج – إن لم تكن أخرجت – الحالة الفلسطينية من سياق حركة التحرر الوطني ووضعته على تخوم متاهة سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات.

لا شك أن مصير الشعوب وتاريخها لا يرتهنا بتقلب الأزمان ولا بتغير موازين قوى إقليمية أو دولية، والأهم من ذلك لا يرتهنا بمصير ومآل الأحزاب والنخب السياسية التي تفرزها كل مرحلة. فإذا كان صعود وسقوط دول وإمبراطوريات لم يلغ وجود الشعب الفلسطيني فإن هزائم وفشل أحزاب ونخب لن يلغي وجود الشعب والقضية، ولكنها تحتم إعادة النظر في البرامج واستراتيجيات العمل بل إعادة النظر في شرعية تحكم نفس القوى السياسية المأرومة بمصير الشعب الفلسطيني، ذلك أن الأحزاب والنخب لا تصنع الشعب والحقوق الوطنية ولكن الشعب هو الذي يصنع الأحزاب والنخب.

الحالة الفلسطينية المأزومة تستدعي مراجعة إستراتيجية شمولية لمجمل الحالة السياسية الفلسطينية وخصوصا للبرنامج الوطني الذي وضع في منتصف الستينيات وطرأت عليه تغيرات لاحقة لم تحض بموافقة كل القوى السياسية. نظرا للغموض الذي يشوب تشخيص الحالة الفلسطينية الراهنة وتعريف النظام السياسي والمشروع والبرنامج الوطني، فسنتطرق لهذه الأمور قبل تناول إستراتيجية المرحلة المقبلة.

المحور الأول

المشروع الوطني كنظام سياسي لحركات التحرر الوطني

هناك إشكال على مستوى استعمال المفردات والمصطلحات لتوصيف الحالة السياسية الفلسطينية فهل هي حركة تحرر وطني؟ أم سلطة وطنية؟ أم سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال؟ أم سلطة دولة؟ وفي ظل الانقسام أليس الأقرب للواقع الحديث عن سلطتين وحكومتين ومشروعين سياسيين واحد وطني وآخر إسلاموي؟ وينتج عن هذا الإشكال إشكال في النعت المناسب للمؤسسة السياسية الناظمة للحياة السياسية، هل هو النظام السياسي؟ أم منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها ومؤسساتها؟ أم المشروع الوطني؟ أم البرنامج الحكومي؟

إجرائيا سنستعمل مصطلح النظام السياسي لوصف كل أشكال الفعل السياسي والمؤسسات السياسية الفلسطينية التي تشتغل على القضية الفلسطينية سواء كانت رسمية أو غير رسمية، في السلطة او في المعارضة وبغض النظر عن أشكال الفعل السياسي الذي تمارسه: عسكريا جهاديا او سياسيا.

1- تعريف النظام السياسي

التعريف التقليدي للنظام السياسي هو نظام الحكم بمعنى المؤسسات الحكومية الثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية ، والتي تقوم بمهمة الدفاع عن الوطن ضد التهديدات الخارجية وضمان الترابط الداخلي ،هذا التعريف للنظام يربط النظام السياسي بالدولة، وهو تعريف مستمد أساسا من التعريف التقليدي لعلم السياسة بأنه علم الدولة، إلا أن التطور الذي عرفه علم السياسة مع تطور وتعقد الحياة السياسية وتجاوزها لحدود الدولة ، دفع بعلماء السياسية إلى تعريف علم السياسة كعلم السلطة، وعليه ،أصبح النظام السياسي يعرف كمفهوم تحليلي أكثر مما هو نظام مؤسساتي مضبوط كما توحي كلمة نظام ،وضمن هذه الرؤية عرفت موسوعة العلوم السياسية ،النظام السياسي هو ” مجموع التفاعلات والأدوار المتداخلة والمتشابكة التي تتعلق بالتخصيص السلطوي للقيم، أي بتوزيع الأشياء ذات القيمة بموجب قرارات سياسية ملزمة للجميع (دايفد استون )،أو التي تتضمن الاستخدام الفعلي أو التهديد باستخدام الإرغام المادي المشروع في سبيل تحقيق تكامل وتكيف المجتمع على الصعيدين الداخلي والخارجي (جابرييل الموند ) ،أو التي تدور حول القوة والسلطة والحكم (روبرت دولُ)، أو التي تتعلق بتحديد المشكلات وصنع وتنفيذ القرارات السياسية ” .

هذا يعني أن النظام السياسي قد يشمل الدولة ولكنه قد يتجاوزها ليستوعب علاقات وتفاعلات سلطوية إما مشمولة بالدولة كالأحزاب والجماعات العرقية والطائفية ذات الثقافات المغايرة والمضادة للدولة، وإما تتعدى حدود الدولة كظاهرة الإرهاب الدولة أو العنف متعدي القوميات أو حركات التحرر الوطني أو التداعيات السياسية للعولمة.

وفي جميع الحالات، فان مؤشرات وجود الظاهرة أو التركيبة السياسية التي يمكن تسميتها بالنظام السياسي هي التالي:

أ – قيادة سياسية ذات سلطة أكراهية – بدرجة ما-.

ب- مؤسسات سياسية وإدارية مدنية وعسكرية واقتصادية

ج – هدف محل توافق وطني

د-إستراتيجية عمل وطنية

لا بد من الإشارة إلى أن النظام السياسي هو نسق فرعي بالنسبة للمجتمع، فهذا الأخير كنظام أو منظومة كلية يتشكل من عدة أنساق فبالإضافة إلى النسق- النظام- السياسي، هناك النسق الديني والنسق الاقتصادي والنسق الثقافي، واتساق هذه الأنساق وانسجامها مع بعضها البعض هو الذي يحفظ للمجتمع توازنه واستقراره، واختلال نسق من هذه الأنساق يؤثر سلبا على بقية الأنساق وبالتالي على استقرار المجتمع وتوازنه. وفي هذا يرى ديفد استون ” إن الحياة السياسية هي جسد من التفاعلات ذات الحدود الخاصة التي تحيطها نظم اجتماعية تؤثر فيها بشكل مستمر ” ، وهو يعتبر ان النظام السياسي مثل (العلبة السوداء ) ولا يهم ما يجري داخل العلبة بل علاقات النظام مع بيئته ،وهذه البيئة على نوعين :الأول هو النظم الأخرى المكونة للنظام الاجتماعي العام كالنظام الاقتصادي والنظام الثقافي والنظام الديني الخ ،والثاني مكون من البيئة الخارجية أو غير الاجتماعية ،كالنظام البيئي ،النظام البيولوجي ،النظام النفسي والنظام الدولي.

هذه المقاربة النسقية لمفهوم النظام السياسي مهمة عند معالجة النظام السياسي الفلسطيني، فالحديث عن أزمة النظام السياسي الفلسطيني لا يعنى فقط أزمة تشكيل الحكومة ولا الصراع على المناصب بل أيضا وأهم من ذلك تأثير الاحتلال و الأجندة الخارجية والبعد الديني في الصراع سواء بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو بين الفلسطينيين وبعضهم بعضا بالإضافة إلى المحددات الاقتصادية الناتجة عن الارتهان للتمويل الخارجي.

2- المشروع (البرنامج) الوطني ضرورة حياتية للشعوب الخاضعة للاحتلال.

لا تستقيم السياسات العامة للأمم والدول بدون رؤية، والرؤية هي الهدف وإستراتيجية تحقيقه، والرؤية عند الشعب الخاضع للاحتلال هي المشروع الوطني التحرري وبرنامج للعمل الوطني قابل للتكيف مع المتغيرات دون أن يفقد بوصلة الاتجاه نحو الهدف الاستراتيجي. لا يمكن أن ينجح شعب خاضع للاحتلال بدون مشروع وطني وثوابت متَفَق عليها تُلهم الشعب وتوحده وتستنفر قواه للدفاع عنها.

ما وراء الفشل المتعاظم والتخبط الواضح والتيه المعمم على مستوى كافة نخب ومؤسسات الحالة السياسية الفلسطينية ،يكمن غياب الرؤية أو غياب المشروع الوطني وعدم ثبات برامج العمل الوطني وتعددها بتعدد الأحزاب .فشل المفاوضات والخلاف الداخلي حولها، الاختلاف حول مفهوم المقاومة، فشل المصالحة، الفوضى والفلتان الأمني والاجتماعي، الصراع على سلطة وهمية، فساد نخب ومجتمع مدني وحكومات، هجرة الشباب والانتقال من المطالبة بحق العودة إلى المطالبة بحق الهجرة، العجز عن القيام بانتفاضة جديدة وحتى عدم القدرة على ممارسة المقاومة الشعبية السلمية الخ ،ليس ما سبق المشاكل الحقيقية أو جوهر القضية بل هي تداعيات ونتائج لغياب الرؤية أو المشروع الوطني بما يتضمن من ثوابت وطنية. استمرار التركيز على أزمة المفاوضات وأزمة المقاومة وغيرها، إنما هو هروب من جوهر المشكل وهو غياب مشروع وطني وثوابت وطنية، وهو غياب إما لعدم الإيمان بالمشروع الوطني أو لعدم القدرة على تحمّل استحقاقاته.

مع أن سؤال الأزمة صاحب المشروع الوطني الفلسطيني منذ ولادته إلا أنه تحول من سؤال حول أزمة المشروع الوطني إلى سؤال حول ماهية المشروع الوطني ثم سؤال حول الوجود بحيث يجوز التساؤل اليوم هل يوجد مشروع وطني فلسطيني؟

الواقع يقول إنه بالرغم من أن كلمة المشروع الوطني والثوابت الوطنية من أكثر المفردات تكرارا عند القوى السياسية الفلسطينية، إلا انه لا يوجد مشروع وطني ولا ثوابت محل توافق، بل ينتظر الفلسطينيون من يضع لهم مشروعهم الوطني، فكما صنع العرب منظمة التحرير بداية يبدو أن الفلسطينيين اليوم وبعد أن نفض العرب يدهم من القضية ينتظرون من الرباعية أو من إيران أن يصيغا لهم مشروعا وكيانا ولا بأس أن ينعته الفلسطينيون بالوطني أو مشروع مقاومة إن شاءوا.

قد يتساءل البعض كيف لا يوجد مشروع أو برنامج وطني وعندنا أكثر من خمسة عشر حزبا وفصيلا لكل منها برنامجها وإستراتيجيتها ونصفها يملك ميليشيات وقوات مسلحة؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وكل الأحزاب تتحدث عن المشروع الوطني وتبرر عملياتها العسكرية بأنها من اجل المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت الوطنية! وتبرر قتالها مع بعضها البعض بأنه من اجل المشروع الوطني؟ كيف لا يوجد مشروع وطني ولدينا حكومتان وسلطتان لكل منها أجهزتها الأمنية والشرطية ووزرائها وقوانينها وعلاقاتها الخارجية الخ ؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وقد اندلعت حرب أهلية باسمه ودخل آلاف الفلسطينيين سجونا فلسطينية وقُتل بعضهم في هذه السجون وعُذب و آخرون باسم المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وهناك منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها وقرارات مجالسها الوطنية ولجنتها التنفيذية والمجلس المركزي؟!.

وقد يقول قائل إن وجود شعب تحت الاحتلال يعني تلقائيا وجود مشروع وبرنامج تحرر وطني، وهذا قول يحتاج لمراجعة. صحيح أنه يوجد احتلال صهيوني ويوجد أكثر من 14 مليون فلسطيني يحملون الوطن معهم أينما حلوا وارتحلوا ويربون أبنائهم على حب الوطن و التوق للعودة إليه، و صحيح أن قرارات دولية تعترف للفلسطينيين بحق تقرير المصير وبعضها يعترف لهم بالحق في دولة الخ، ولكن، هذه أمور قد تضعف مع مرور الزمن أو تشتغل عليها إطراف محلية أو إقليمية ودوليه وتخرجها عن سياقها الوطني من خلال حلول جزئية وتسويات إقليمية.

إن كان يوجد مشروع وطني فما هي مكوناته من حيث الهدف والوسيلة والإطار والمرجعية؟ وإن كان يوجد ثوابت وطنية فما هي؟ هل هي المنصوص عليها في الميثاق الوطني قبل تعديله أم ثوابت ما بعد التعديل؟ هل هي التي تتحدث عنها حركة حماس، ام الثوابت التي تتحدث عنها حركة فتح، ام الثوابت التي تتحدث عنها حركة الجهاد الإسلامي الخ؟ أم الثوابت التي يتحدث عنها اللاجئون في الشتات؟

منظمة التحرير في وضعها الحالي لم تعد مشروعا وطنيا ممثلا لكل الشعب الفلسطيني ليس فقط بسبب تآكلها داخليا ولاعترافها بإسرائيل وصيرورتها ملحقا للسلطة واستحقاقاتها الخارجية بعد أن كانت مؤسِسَة لها، بل أيضا لأنها أصبحت جزءا من الخلاف الفلسطيني ولا تعترف بها حركة حماس والجهاد الإسلامي وتتحفظ على ممارساتها فصائل حتى من داخلها، فغياب توافق وطني حول المنظمة يقلل من أهمية اعتراف كل دول العالم بها، أيضا المفاوضات ليست مشروعا وطنيا، والسلطة و الحكومة ليستا مشروعا وطنيا، ومجرد الحديث عن مقاومة وحتى ممارستها بشكل فصائلي ليس مشروعا وطنيا.

لو كان عندنا مشروع وطني حقيقي ولو كان عندنا ثوابت محل توافق وطني ما كان الانقسام وما كان فشل المصالحة وفشل مئات جولات الحوار ،لو كان لدينا مشروع وطني ما وُضِعت وثائق متعددة ومواثيق شرف كإعلان القاهرة 2005 ووثيقة الوفاق الوطني 2006 واتفاق القاهرة 2008 ،وورقة المصالحة التي تم التوقيع عليها في أبريل 2011 وبروتوكول القاهرة للمصالحة 2017 وكلها لم تنفذ حتى اليوم، لو كان لدينا مشروعا وطنيا وثوابت وطنية ما كانت كل المؤسسات القائمة فاقدة للشرعية الدستورية (حسب مقتضيات القانون الأساسي) ولشرعية التوافق الوطني، لو كان لدينا مشروعا وطنيا ما كان هذا التراشق والاتهامات المتبادلة بالخيانة والتكفير ما بين من يتحدثون عن المشروع الوطني، لو كان لدينا مشروعا وطنيا ما كان هذا حالنا وما كان هذا التدخل الفج من القوى الخارجية في قضيتنا الوطنية .

إن كان كل ما سبق من تشكيلات سياسية وبرامج حزبية ليس مشروعا وطنيا، فما هو المشروع الوطني ؟.ندرك جيدا صعوبة تحديد المشروع الوطني في الحالة الفلسطينية والصعوبة الأكبر في وضعه موضع التنفيذ ،نظرا لتداخل الماضي مع الحاضر ،الدين مع السياسة مع الاقتصاد ،الوطني مع القومي مع الإسلامي، الشرعية الدولية مع الشرعية التاريخية والشرعية الدينية، ونظرا لطبيعة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني ألإجلائي الخ، ونظرا لأن بعض مكونات النخب السياسية الفلسطينية وخاصة نخب السلطتين، بدأت تفقد إيمانها بعدالة القضية وبدأت حسابات السلطة والمصلحة الآنية تطغى عندها على حسابات المصلحة الوطنية، ومن هنا فإن أي توجه لإعادة البناء النظري للمشروع الوطني ووضع آليات لتنفيذه يجب أن يبدأ كخطوة أولى خارج حسابات السلطتين وخارج ارتباطات الحزبين الكبيرين ومن خلال التعامل مع الشعب الفلسطيني ليس كساكنة غزة والقطاع بل كشعب قوامه أكثر من 14 مليون مواطن.

إن استمر كل حزب وحركة في التصرف باعتبار أنه يمثل المشروع الوطني، واستمر في تحميل مسؤولية أي خلل أو تقصير أو عدم إنجاز للآخرين من الأحزاب أو للتآمر الخارجي فهذا سيؤدي لمزيد من ضياع ما تبقى من أرض وكرامة وطنية. لذا فالأمر يحتاج لتفكير إبداعي خلاق لتأسيس عقد سياسي أو مشروع وطني جديد، وإن كان الحديث عن مشروع وطني جديد يستفز البعض ممن قد يفسرون الدعوة بأنها تجاوز للأحزاب والنضالات السابقة، وهي ليست كذلك، فلنقل إننا نحتاج لاستنهاض الحالة الوطنية على أُسس جديدة. ومن حيث المبدأ فحتى نكون أمام مشروع وطني يجب توافق الأغلبية على مرتكزات أي مشروع وطني وهي: 1- الهدف 2- الوسيلة أو الوسائل لتحقيق الهدف 3- المرجعية 4- الإطار 5-الثوابت. وسنفصل لاحقا هذه العناصر.

3- المشروع الوطني الأول: مشاريع في مشروع

تم التعامل مع منظمة التحرير منذ قرار إنشائها بداية في قالمة العربية عام 1964 كتجسيد للكيانية السياسية الفلسطينية، من حيث وجود قيادة ومؤسسات: رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، واللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمجلس الوطني الفلسطيني والقضاء الثوري والكفاح المسلح الخ، كما حدد الميثاق القومي 1964 ثم الوطني 1968 الإستراتيجية والهدف، فكانت بداية إستراتيجية الكفاح المسلح ثم بالتدريج ومن خلال صياغات تحويريه ومبطنة تم الانتقال من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي. هذا التحول بالإستراتيجية رافقه أو بالأدق كان نتيجة استعداد لتحوير الأهداف من تحرير كل فلسطين إلى القبول بدولة على أساس الشرعية الدولية.

كان النظام السياسي وحتى علم 1968 نظام حركة تحرر وطني تتمركز خارج فلسطين وتخضع للقيادة العربية المشتركة، وهو ما جعل المحددات الخارجية تلعب دورا كبيرا في قيام النظام السياسي- منظمة التحرير- بداية ثم التأثير والتدخل الفج في رسم سياساته وحركاته السياسية لاحقا. هيمنة فصائل الكفاح المسلح على المنظمة عام 1968 حرر منظمة التحرير نسبيا من التبعية العربية الرسمية ثم جاء قرار قمة الرباط 1974 بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا ليزيد من هامش الحرية إلا أن منظمة التحرير ومجمل القضية بقيت متأثرة بمحيطها العربي والإقليمي.

لم يكن النظام السياسي الفلسطيني – ومنذ أن وجدت القضية الفلسطينية كقضية كفاح من أجل الاستقلال وحق تقرير المصير – هو الفاعل الوحيد في رسم إطار الصراع وتحديد أهدافه وأبعاده، بل كان طرفا ضمن أطراف متعددة عربية ودولية. لا شك أن الشعب الفلسطيني هو المعني أكثر من غيره بالصراع بفعل وقوعه مباشرة في بؤرة الحدث وبفعل كونه الأكثر تضررا من مجريات الأحداث إلا أن دوره كفاعل كان مقيدا ومحكوما بالفاعلين الآخرين وبموازين القوى التي يصنعونها، وما كان يسمى النظام السياسي الفلسطيني الذي جسدته منظمة التحرير الفلسطينية هو في حقيقته ليس مشروعا وطنيا خالصا بل مشروعا خليطا من مشاريع أربعة: المشروع الوطني الفلسطيني والمشروع القومي العربي والمشروع الإسلامي والمشروع التحرري العالمي. وكنتيجة لذلك أيضا، فإن التحويرات التي طرأت على البرنامج الوطني والنكسات والهزائم التي تعرض لها النظام السياسي الفلسطيني عبر محطاته المأساوية البارزة 1967 هزيمة يونيو وضياع الضفة والقطاع ،1970 أحداث الأردن ،1982 الخروج من لبنان،1983 الانشقاق داخل فتح و 1990 تداعيات الغزو العراق للكويت، ثم الدخول الاضطراري بعملية السلام وتوقيع اتفاقية أوسلو، وأخيرا الانقسام … لم تكن نتيجة لتقاعس أو تقصير الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي بل كان للأطراف الأخرى العربية والدولية المصنفة ضمن معادلة الصراع دور رئيس في حدوثها وتحمل مسئوليتها، كذلك الأمر بالنسبة للإنجازات السياسية التي تحققت، فلم يكن مرجعها فقط النضال الفلسطيني وفعالية النظام السياسي بل لعبت الأطراف الأخرى دورا في تحقيقها أو في تضخيمها.

ويمكن القول إن البرنامج الوطني الذي كان يتصدى له النظام السياسي الفلسطيني اختزن في ثناياه أربع قضايا أو مشاريع أو هو حصيلة لهم:

المشروع الأول: المشروع الوطني الفلسطيني الرافض للوجود الصهيوني في فلسطين والمتطلع للاستقلال إنه المشروع الذي يقف في الصدارة عند الحديث عن القضية الفلسطينية فهو عمادها وجوهرها وعامودها الفقري.

المشروع الثاني: القومي الوحدوي العربي حيث كانت كل القوى والأنظمة القومية تقول بتحرير فلسطين وتعتبر الوجود الصهيوني تهديدا للأمن القومي العربي وعائقا أمام الوحدة العربية، بل إن كثيرا من الأنظمة العربية كانت تعتبر تحرير فلسطين من أولى مهامها، وتحت شعار البعد القومي للقضية وقومية المعركة ووحدة المصير كانت الأنظمة- خصوصا القومية والثورية- تتدخل بشكل سافر في حياة الفلسطينيين وفي مسار مشروعهم الوطني.

المشروع الثالث: المشروع الإسلامي. نظريا جمعت فلسطين والقدس الشريف بما تمثلانه من رموز دينية وبما تجسدانه من معان روحية عميقة لدى المسلمين كافة كل المسلمين عرب وغير عرب، وتضمن خطاب الأنظمة والحركات الإسلامية ما يؤكد التزامها نظريا بتحرير فلسطين ورفض الوجود الصهيوني فيها من منطلق ديني، ولكن على مستوى الممارسة تفاوت العطاء وتباينت أساليب التعامل فهناك من المسلمين من اكتفى بالدعوات الصالحات للشعب الفلسطيني وهناك من رأى أن طريق تحرير فلسطين لا تمر القدس بل عبر كابول وكشمير بل حتى نيويورك وواشنطن. وفي زمن ما يسمى الربيع العربي هيمن الخطاب الديني على غيره إلا أن فلسطين كانت غائبة عن اهتمامات الاسلامويين بل عززت إسرائيل من مكانتها ونفوذها مستغلة فوضى (الربيع العربي).

المشروع الرابع: المشروع التحرري العالمي حيث كانت حركة التحرر العالمية تلتقي مع كل من المشاريع الثلاثة على قاعدة معاداة الصهيونية والإمبريالية ومحاربة الاستعمار بكل صوره وأشكاله، وكان على رأس حركة التحرر العالمية الاتحاد السوفيتي والصين ومجموعة دول المسكر الاشتراكي والتي دعمت ومدت حركات التحرر في العالم الثالث بما فيها حركة التحرر العربية وعلى رأسها حركة المقاومة الفلسطينية بالمال والسلاح ونسجت معها علاقات (إستراتيجية) عسكرية وسياسية اقتصادية وكانت أكبر نصير لها داخل هيئة الأمم المتحدة.

هذه المشاريع الأربعة كانت تتداخل مع بعضها البعض، تقترب من بعضها أحيانا فتتعزز مكانة النظام السياسي الفلسطيني، أو تتنافر وتتصادم فيتأزم النظام السياسي الفلسطيني وتنتكس القضية الفلسطينية. وبالرجوع إلى الميثاق الوطني الفلسطيني الذي رسم معالم النظام السياسي الفلسطيني نجد قوة حضور المحددات الخارجية الأربعة سواء عند تحديد الإستراتيجية النضالية، فمهمة التحرير لم تكن مسؤولية فلسطينية خالصة، حيث نص الميثاق أن الفلسطينيين (طليعة) الأمة العربية والإسلامية وحركة التحرير العالمية في معركة التحرير، وهدف التحرير هدف قومي وإسلامي، حيث فلسطين جزء من الأمة العربية ولم يكن مسموح للفلسطينيين بالتفريط بأي جزء منها حتى لدواعي المصلحة الوطنية الفلسطينية، حتى انه تم التنصيص في الميثاق القومي الفلسطيني على أن لا تمارس المنظمة أي سيادة على الضفة وغزة، وفلسطين أيضا وقف إسلامي لا يجوز التفريط بأي جزء منها.

حتى السلطة التي تمارسها القيادة الفلسطينية كانت سلطة معنوية أكثر منها سلطة سيادية، بسبب وجود المنظمة على ارض غير فلسطينية وخضوع الفلسطينيين للاحتلال، فالسلطة الإكراهية للقيادة الفلسطينية كانت تصطدم بالسلطة السياسية والسيادية لأنظمة أخرى، ولم يختلف وضع المؤسسات السياسية بما فيها التنظيمات المسلحة كثيرا من حيث ما تمارس من سلطة وسيادية أو من حيث قدرتها على تنظيم الشعب الفلسطيني.

فلا غرو إذن أن النظام السياسي الفلسطيني قبل 1988 كان محكوما بمعادلة معقدة ومستحيلة التحقيق وهي التوافق بين المحددات أو الشروط الأربعة المشار إليها، فأي إخلال بشرط من هذه الشروط أو تَرَجُع أي طرف عن التزامه سينعكس سلبا على النظام السياسي الفلسطيني وبالتالي على إنجاز البرنامج الوطني.

كان توازن هذه المشاريع الأربعة وتوافقها ولو على قاعدة الحد الأدنى هو الذي حكم النظام السياسي الفلسطيني خلال ثلاثة عقود، سواء في حالات احتدام الصراع والحرب أو في مرحلة البحث عن حلول سلمية للصراع، حيث كان لكل طرف مصلحة في استمرارية (التحالف) أو التنسيق فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني إما من منطلق المصلحة المشتركة في مواجهة عدو مشترك أو لمصلحة خاصة لكل طرف ، وكانت النظام السياسي الفلسطيني معني أكثر من غيره بالحفاظ على الترابط والتنسيق بين المشاريع الأربعة ولو على قاعدة الحد الأدنى، وكان دائم السعي لتعويض أي نقص في فاعلية أداء أي بُعد من الأبعاد الأربعة بتقوية وتعزيز فاعلية الأبعاد الأخرى. فغياب وانتكاسة المشروع القومي بعد حرب 67 تمت محاولة تعويضه بتقوية المشروع الفلسطيني وتصعيد الكفاح المسلح ضد إسرائيل وانتكاسة المشروع الوطني الفلسطيني بعد أحداث أيلول 1970 تم تداركه بتقوية الوجود الفاعل للقضية على المستويين العربي والدولي، وانتكاسة المشروع القومي العربي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد جرت محاولة التقليل من مخاطرة بتقوية المشروع الوطني الفلسطيني وبتفعيل دور المشروع التحرري العالمي سواء على مستوى تعزيز مكانة القضية الفلسطينية بين دول العالم أو تفعيل قرارات الشرعية الدولية ومكانة المنظمة داخل الأمم المتحدة وفي المنظمات الدولية الأخرى، إلا أن ما لم يخطر على بال المخططين داخل النظام السياسي الفلسطيني أن تحدث الانتكاسة على كافة المستويات.

ارتهان النظام السياسي وبرنامج العمل الوطني للمحددات الخارجية كان جليا في التحويرات التي طرأت على البرنامج الوطني حيث كانت كل تراجع لأي من المشاريع المشار إليها أو التصادم معها يؤدي لخلخلة البرنامج الوطني وخفض سقف تطلعاته وصيرورته أكثر تطويعا لفكر التسوية وللبحث عن حلول وسط بأجراء تحويرات على المشروع الوطني تحت عنوان التكتيك السياسي تارة والعقلانية السياسية تارة اخرى.

فبعد أحداث الأردن عام 1970 وسلبية الموقف العربي تبنت المنظمة فكرة الدولة الديمقراطية على كامل فلسطيني عام 1971 والتي تمنح لليهود المقيمين على أرض فلسطين حقوق متساوية مع المسلمين والمسيحيين ،فيما كان الميثاق لا يعترف بحقوق لليهود إلا الذين كانوا يعيشون فيها قبل 1947، وبعد حرب أكتوبر 1973 تبنت المنظمة فكرة المرحلية وتبنت البرنامج المرحلي الذي يتحدث عن سلطة وطنية مؤقتة، ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد ثم حرب لبنان 1982 والتقاعس العربي في نصرة الثورة اعترفت المنظمة بقرارات الشرعية الدولية وتطويع البرنامج الوطني لهذه القرارات وهو ما تم تبنيه رسميا في إعلان الدولة في الجزائر عام 1988،وجاءت حرب الخليج الثانية وما أدت من انهيار للنظام الإقليمي العربي ثم انهيار المعسكر الاشتراكي للارتماء في أحضان التسوية الأمريكية التي أدت إلى مؤتمر مدريد 1991ثم توقيع اتفاقية أوسلو 1993 التي أسست لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني وأخرجت البرنامج التحرري الوطني من ماهيته وأدخلته في متاهة جديدة.

المحور الثاني

تعدد البرامج وانقلاب السلطة على المشروع الوطني

1- محاولات متعثرة لإنقاذ المشروع الوطني

تزامنت الانتفاضة الأولى 1987 ثم الإعلان عن قيام الدولة في اجتماع المجلس الوطني في الجزائر عام 1988 مع ظهور حركتي حماس والجهاد الإسلامي من خارج إطار المشروع الوطني والنظام السياسي الرسمي- منظمة التحرير الفلسطينية – وببرنامج ديني سياسي بمرجعيات وأهداف وتحالفات متعارضة مع البرنامج الوطني، وإن كان ظهور هذه القوى عزز من الانتفاضة واستقطب شرائح شعبية داخلية وخارجية داعمة للشعب الفلسطيني إلا أنها شكلت حالة انقسام حاد في النظام السياسي الفلسطيني مهدت بدورها لانهيار هذا النظام لاحقا. بالإضافة لظهور الإسلام السياسي الفلسطيني بأجندة مغايرة للبرنامج الوطني أوجد اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير مع إسرائيل عام 1993 خلخلة في مرتكزات النظام السياسي بل شكل خروجا عن البرنامج الوطني الأول، وبهذين المتغيرين باتت ثوابت البرنامج الوطني اقل بكثير من المتغيرات التي طرأت عليه.

نظرا لمحدودية الإمكانيات الفلسطينية: العسكرية والاقتصادية والديمغرافية – الشتات والاحتلال- فقد استمرت التدخلات الخارجية في لعب الدور الرئيس في توجيه النظام السياسي، إلا أن القوى المؤثرة اختلفت جذريا عن سابقاتها وهو اختلاف أدى لتحول النظام السياسي عن أهدافه وإستراتيجيته، فإذا كانت سابقا قوى صديقة أو حليفة تجمعها بالمشروع السياسي الفلسطيني قواسم مشتركة، فأنها هذه المرة قوى غير صديقة أو معادية لمنظمة التحرير ومشروعها السياسي، أو صديقة ولكن لها أجندة خاصة بها، أو صديقة ولكن غير مؤثرة.

إذن ما بعد أوسلو حدثت خلخلة للنظام السياسي الفلسطيني بعناصره الأربعة المشار إليها – القيادة والمؤسسات والهدف والإستراتيجية – صحيح انه مع تأزم مسلسل التسوية وتهرب إسرائيل من التزاماتها وخصوصا مع انتفاضة الأقصى – سبتمبر 2000- حاول النظام السياسي الفلسطيني أن يعود لمرتكزاته القديمة و يرمم السفن التي أحرقتها اتفاقية أوسلو سواء من حيث دعم أو السكوت عن ممارسي العمليات الفدائية، أو من خلال التأكيد على حق العودة وعدم التفريط بالثوابت أو إحياء مؤسسات منظمة التحرير وخصوصا اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمؤسسات القيادة لحركة فتح وتغيير القيادة بعد وفاة الرئيس أبو عمار، ثم إجراء انتخابات بلدية وتشريعية وتشكيل حكومة وحدة وطنية الخ ،إلا أن كل هذه المحاولات لم تفلح في إخراج النظام السياسي الفلسطيني من مأزقه بل وصل الأمر للانقسام الراهن.

التيه السياسي الراهن الذي يعاني منه النظام السياسي الفلسطيني ليس خللا ظرفيا وعابرا، بل خلل بنيويا قبل أن يكون وظيفيا، سواء تعلق الأمر بكل حزب وحركة على حدة أو من خلال ما تم تسميته بالمشروع الوطني القائل بدولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس وحل عادل لقضية ألاجئين.

خلل الفصائل يكمن في كونها فصائل منفردة لا يجمعها إطار وطني واحد ولو ضمن ائتلاف كما كان الحال مع منظمة التحرير في سنوات السبعينيات أو جبهة تحرير فيتنام أو جبهة تحرير الجزائر الخ، والخلل أيضا في غياب استقلالية قرارها وتبعيتها لأجندة دول وأطراف خارجية لأسباب أيديولوجية وغالبا ما تؤدي التبعية الأيديولوجية لتبعية مالية والمال الخارجي له ثمن سياسي لا يتوافق غالبا من المصلحة الوطنية، هذا بالإضافة إلى أن تبعية حزب أو حركة لمرجعية خارجية يؤشر على ضعف الانتماء للوطن: ثقافة وهوية وانتماء، وهي تبعية تعيق الشراكة السياسية الوطنية بما فيها التوصل لإستراتيجية عمل وطني. أن يكون لكل حزب إستراتيجية سياسية وعسكرية خاصة به وميليشيات مسلحة بل ومستشفيات وجامعات ومعسكرات تدريب هذا لا يعني وجود إستراتيجية عمل وطني، ولا يندرج في إطار التعددية السياسية والحزبية التي تعرفها المجتمعات الديمقراطية، حال الأحزاب والحركات السياسية في فلسطين فئوية مدمرة للمشروع الوطني وكانت أهم أسباب فشله.

أما خلل (المشروع الوطني) الذي تقوده حركة فتح ومنظمة التحرير فيكمن، بالإضافة أنه لا يعبر عن توافق وطني حيث لا تقر به حركة حماس والجهاد الإسلامي وقوى أخرى، إنه مرتهن بالتسوية السياسية ولن تقوم له قائمة إلا في إطار تسوية سياسية تُقر بها إسرائيل، وذلك بسبب مرجعية هذا المشروع وهي الاتفاقات الموقعة التي تعتمدها المنظمة والسلطة لإنجاز هذا المشروع، وبسبب الجغرافيا السياسية حيث تفصل إسرائيل ما بين الضفة وغزة، ومن هنا تصبح إسرائيل وكأنها شريك في هذا المشروع الوطني.

إن كان هذا كان حال المشروع الوطني قبل الانقسام وفصل غزة عن الضفة وفي ظل وجود أفق للتسوية فكيف الحال الآن مع الانقسام ومع وصول مسار المفاوضات لطريق مسدود ووصول مشروع المقاومة عند فصائل غزة لطريق مسدود أيضا وانغلاق أفق المصالحة الوطنية؟

بغض النظر عن المرامي غير البريئة للبعض من القول بمأزق العمل الوطني الفلسطيني بكل أبعاده الوطنية واليسارية والإسلاموية، فإن واقع الحال يقول بأن النظام السياسي الفلسطيني بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية وبنخبه الحاكمة وغير الحاكمة وما يرتبط به وبها ويدور حوله وحولها من إيديولوجيات وثقافات سياسية وتكوينات اجتماعية وبغض النظر عن الشعارات التي ترفعها :المقاومة والجهاد أو التسوية والمفاوضات، هذا النظام يعيش مأزقا وجوديا حقيقيا وخصوصا مع وصول حكومة اليمين الصهيوني مع نتنياهو للحكم في إسرائيل وانكشاف وهم المراهنة على الإدارة الأمريكية الجديدة بعد تراجعها عن مواقفها بشأن الاستيطان أيضا مع موجة التطبيع العربي الجديدة مع الكيان الصهيوني. أن يؤول واقع الحال بعد خمس وسبعين سنة من النكبة وبعد خمسين عاما تقريبا من تأسيس منظمة التحرير وثلاثين عاما من المفاوضات العبثية، و بعد انتفاضتين أزهقتا أرواح الآلاف من الشباب ودمار شامل في مؤسسات وبنية المجتمع، وبعد ستة عشر سنة من الحرب الأهلية وانقسام النظام السياسي…،أن يؤول الأمر بعد كل ذلك لهذا التيه السياسي وحالة التدمير الذاتي التي تمارسها القوى السياسية بحق بعضها البعض وبحق الوطن وهو الأخطر، فهذا يعني أن كل مكونات النظام السياسي تعاني خللا استراتيجيا بنيويا ووظيفيا.

لو كان الخلل ناتجا فقط عن اختلال موازين القوى مع العدو وتخلي من يُفترض أنهم أخوة وأصدقاء وشركاء لنا في المصير القومي والانتماء الإسلامي عن واجبهم، وهو أمر حاصل، ولو كانت صيرورة الحال لسوء الحال الذي نحن فيه يعود فقط للعدو وممارساته وتحالفاته وللمحيط الإقليمي لهان الأمر، بل وكان دافعا للشعب على مزيد من السير في نفس الطريق و لكان الشعب على استعداد لتقديم المزيد من التضحيات، فلا يمكن أن ننتظر من العدو إلا كل إرهاب وقمع، ولكن الواقع يقول بأن أخطاء داخلية لعبت دورا كبيرا في الخلل الحاصل وفي تمكين العدو من تحقيق أهدافه سواء على مستوى إفشال مشروع السلام الفلسطيني أو محاصرة خيار المقاومة أو إحداث الانقسام والفتنة الداخلية أو تكثيف الاستيطان واستكمال تهويد القدس.

لا تقتصر خطورة الأمر عند هذا الحد بل تتجاوزه لما هو اخطر، فبدلا من أن تعترف النخب الفلسطينية المأزومة بأخطائها وتفسح المجال لآخرين أو على الأقل تقوم بمراجعة نقدية شمولية تراجع فيها مسيرتها فتصحح ما أعوج من سلوك وتقَوِّمَ ما ثبت فشله من نهج وتحاسب حيث تجب المحاسبة، بدلا من ذلك، تمارس اليوم سياسة الهروب إلى الأمام بطرح خيارات لا واقعية أو بتحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية ما يجري .

هذه النخب والأحزاب وبسياسة الهروب إلى الأمام التي تنتهجها تريد أن تبرئ نفسها وتهيئ الشعب ليقبل بتسيدها عليه مجددا في ظل الخراب القائم ولتسوقه نحو عبثية جديدة، عبثية قد تأخذ اسم (كل الخيارات مفتوحة)[1]من طرف نفس النخبة بل نفس الشخصيات التي قادت عملية المفاوضات تحت شعار (الحياة مفاوضات) بما مكن العدو من تكثيف مشروعه الاستيطاني والتغطية على جرائمه، أو عبثية التلويح بشعار المقاومة والانتفاضة ووحدة الساحات من خلال تطوير حماس للصواريخ وتلويحها بالاستعداد لتحقيق نصر جديد إن حاولت إسرائيل دخول قطاع غزة أو اعتدت على قادة المقاومة، وكأن حماس حققت بالفعل نصرا في كل نهجها المسلح السابق، وكأن غزة أكثر قدسية من القدس بحيث لا تجوز المقاومة ولا تُستعمل الصواريخ إلا دفاعا عن الإمارة الربانية في غزة.

2- ضرورة المراجعة الشمولية للمشروع والبرنامج الوطني

نتحدث عن مراجعة شمولية ليس بهدف التشهير بالقوى السياسية القائمة ولا تبشيرا بقوى ونخب جديدة قادمة قريبا، فلا يبدو في الأفق إمكانية ظهور قوى وطنية جديدة، ويبدو انه غير مسموح بظهور هذه القوى إلا إذا كانت بسقف سياسي أقل. مرد المطالبة بالمراجعة الشمولية والتي طالما طالبنا هو رد الاعتبار لمشروع وطني تحرري أطاحت به المفاوضات العبثية والمقاومة العبثية والصراعات الداخلية والمؤامرات الإقليمية بالإضافة للعدوان الصهيوني المستمر، مشروع لا يستمد مبررات ومشروعية وجوده من النخب السياسية لأنه ليس تجسيدا إرادويا لهذه النخب، ولا يستمد مشروعيته من محصلة موازين قوى إقليمية أو دولية، فهذه فاعلة ولا شك في التأثير على استراتيجياته وتحديد تخوم تحالفاته ولكنها لم تمنحه شرعية الوجود ولا تستطيع أن تلغي وجوده. إنه مشروع تحرر وطني يستمد مبررات وشرعية وجوده من عدالة القضية الوطنية الفلسطينية وهي عدالة مستمدة من التاريخ ومن اعتراف الشرعية الدولية بالقضية الفلسطينية كقضية تقرير مصير سياسي لشعب خاضع للاحتلال [2]، مشروع تحرر وطني يستمد مبررات وشرعية وجوده من واقع وجود شعب فلسطيني قوامه أكثر من أربعة عشر مليونا نسمة بما يميز هذا الشعب من ثقافة وهوية وانتماء للأرض لم تستطع كل سياسات العدو من تغييبها. هذا معناه أن المأزق والخلل هو مأزق نخبة وأحزاب وليس مأزق شعب عمره أكثر من أربع آلاف سنة لم تستطع كل جحافل الإمبراطوريات وتداول أشكال الهيمنة من شطب اسم فلسطين أو تذويبه، وهذا هو مصدر فخر الشعب الفلسطيني ومصدر قلق الكيان الصهيوني.

شعب بهذا العمق التاريخي، وقضية بهذه العدالة التي يتزايد اعتراف العالم بها يجب أن لا يُعلق مصيره ومصيرها بمصير أحزاب ونخب وبتعثراتها ومآزقها، وارتباطاتها الخارجية، القضية الوطنية والمشروع الوطني لا يستمدان شرعيتهم: وجودا وعدالة، من النخب والأحزاب، بل إن هذه الأخيرة هي التي تستمد شرعية وجودها ومبررات استمرارها من قدرتها على تحمل مسؤولية القضية الوطنية والسير بها نحو تحقيق الهدف وهو الحرية والاستقلال .الأحزاب والنخب مجرد أدوات أو تشكيلات مؤقتة، فيما القضية الوطنية كينونة وهوية تتسم بالاستمرارية والدوام. يجب أن تهجر القوى السياسية الأنوية الحزبية والإيديولوجية التي تجعلها تعتقد وتريد من الشعب أن يعتقد بأن التأييد الشعبي والرسمي الذي حظيت وتحظى به القضية الآن عالميا يعود الفضل فيه للأحزاب ،هذه الأنوية مرفوضة أخلاقيا وواقعيا، العالم الخارجي لا يدعم القضية الفلسطينية بسبب تأييده لنهج وإيديولوجية الأحزاب لأن العالم يتعاطف مع قضيتنا لأنه يدرك بأنها قضية عادلة، يتعاطف مع الشعب الفلسطيني لأنه شعب ضعيف يتعرض لعدوان همجي بربري من دولة أكبر وأقوى منه عسكريا متحالفة مع دولة عظمى سيئة السمعة-الولايات المتحدة الأمريكية-،ما حرك الرأي العام العالمي ليخرج بمظاهرات ومسيرات ضد إسرائيل وحرك المنظمات الحقوقية والمنظمات الدولية لتطالب بتقديم قادة إسرائيل للمحاكم الدولية… ليست صواريخ حماس ولا مهارة المفاوض الفلسطيني، بل عدالة القضية ومعاناة الشعب.

بناء على ما سبق فلا الزعم بالشرعية التاريخية أو الشرعية الجهادية أو الشرعية الدينية للأحزاب والطبقة السياسية يمنحها الحق بمصادرة القضية الوطنية والاستحواذ عليها بعيدا عن ثوابت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى