ثقافة

لعبة الثقافة

 
عباس علي العلي
في قراءات عديدة تطالعنا بها بعض الأصوات والتي تنتقد المثقفين خصوصا على سكوتهم وعدم جديتهم في محاربة الأفكار والسياسيات الأقصائية والتجهيلية والتغيبية التي تنتهجها قوى وإرادات وتسيرها أحداث ووقائع عنفية وهمجية في غالب الأحيان قهرت بل طحنت المواطن البسيط والإنسان العادي بعجلتها التي ترتدي الكثير من الألبسة والعناوين التي تتراوح بين المقدس والضروري والعملي والأحتكام إلى لغة واقع القوة , ويلقي بفشل المجتمع في التصدي لهذه المحاولات على النخب بالذات الثقافية والفكرية الرصينة والتي من الواجب التقليدي والضروري لها العمل على التصدي بكل ما أوتيت من قوة لهذا المد الظلامي والمتخلف عن كل أشتراطات حركة المجتمع والزمن , وبذلك ينفض الكاتب والمتكلم عن نفسه المسئولية الأخلاقية والوطنية من أن يحمل روحه أو وجوده الذاتي شيء من أثار هذه الخطيئة التي يسميها حضارية .
المثقف الذي ينتمي للثقافة لا يكون كذلك حتى ينخرط تماما بعالمها الإنساني الطبيعي فالثقافة ليست مجرد معلومات ومعارف تخزن , ولا سلوكيات يتمظهر خلفها البعض , ولا شعارات تقال هنا وهناك , الثقافة الجادة والإنسانية ريادة في تناول مشكلة الإنسان ووجوده بالبحث والتقصي والتدبير العلمي وكيفية الأنتقال بها من حالة السلب والتهميش لحالة الفعل الإيجابي المعزز للقدرة على أن نكون في الحال الأكثر قربا للمنطق الطبيعي للأشياء , المثقف عندما يتناول الفقر فهو يفهم المشكلة على أنها أختلال في الميزان الطبيعي للحقوق والواجبات وأختلال في سيرورة النظام الأقتصادي الذي أنتج سياسة الأفقار والتفقير ,وبالتالي عمله يكون في محاولة قيادة ناجحة ومتدبرة وواقعية وعلمية للمجتمع لتصحيح الأختلالات وليس بمحاربة الأغنياء والعطف على الفقراء , بل بأعادة فرض القواعد المسيرة للتغيير الإيجابي وتحييد القوانين المؤثرة في حدوثة الخلل ذاته .
المثقف الإنساني بطبيعته أن يكون أول من يلاحظ أوجه الأنحراف لما يمتلك من مقدمات فكرية ومعرفية ومنهج تراكمي قادر على أن يقوده لأن يكون الأكثر حساسية في ملاحظة ما لا يراه الأخرون بسعة الفعل العقلي لديه , هنا أود أن أشير إلى حقيقة لا تمس مجتمعنا المحلي فقط ولكن تقريبا كل المجتمعات الإنسانية بدرجة أو أخرى أبتدأ من المجتمعات التي تميز نفسها بأحترام الثقافة والمثقف وتستجيب لعمله ووجوده وأتهاء بكل المجتمعات التي تحارب كلمة الثقافة وتعتبرها الفايروس الذي سيتسبب بأنهيار منظومتها الفكرية المتحجرة والجامدة , هذه الحقيقة أن المثقف يعاني بشكل أيضا مميز وبدرجات من عدم الفهم الجزئي وصولا إلى الألغاء والمحاربة والتقتيل والأقصاء , وبالتالي هو في موضع لا يحسد عليه ولا يمكن أن ينال القدرة الكاملة للتحرك والعمل ما لم يتخلى عن وعيه وإدراكه ووجوده الأساس كرائد وقائد ومرشد لعملية التغيير والتصحيح.
المشكلة الأخرى وهي الأكثر فعلا سلبيا وتأثيرا على المثقف في سعيه الدائم لأن يتبنى ويقوم مخلصا لوظيفته العضوية ,تتمثل في غياب الحلقات التوصيلة أو الوسيط بين الفكر والناس ,هذه الحلقة أو الرابط يعاني شبه عطل وأغتراب وغياب عن دوره الأكثر قدرة ونجاح على أن يكون الوسيط بين الغالبية البسيطة “ذات الأمتلاك المعرفي المحدود” والتي هي بحاجة دوما لأن تكون خلف قيادات وواجهات تسير خلفها ,وقد أكتسبت ثقتها ليس من خلال كون هذه القيادات تمتلك العصا السحرية ,ولكن من خلال جديتها في نقل أفكار المثقف النخبوي ونجاحها في إيصال ما مطلوب للقواعد العريضة ,التي يجب أن يلحقها نفع وتغيير حقيقي في شرط الوجود اليومي والتفصيلي , في مجتمعات مثل المجتمعات العربية والإسلامية نجد هناك أنفصام وتخلف في أرتباط هذه الحلقات وتفاعلها في ربط الرؤية الكونية التي يتبناها المثقف وبين القاعدة الشعبية ,التي من الصعب عليها أن تدرك ماهية الرؤية ولا كيفية تجسيدها ,الحلقة الوسطى والتي عادة ما تكون الأنشط والأكثر تغلغلا في الواقع العملي نجدها اليوم منشغلة بأكثر من أشكالية ومتخلفة هي الأخرى عن أدراك ووعي لدورها المحوري في التغيير بما مخطط لها أن تكون في حال يمنع عليها أو يشغلها أن تفعل الواجب والمطلوب.
المثقف النخبوي ولا أقصد طبعا الغالبية التي تسمي نفسها وتنتظم عادة تحت عناوين الثقافة هو ضحية مزدوجة من قيم المجتمع وأشتراطات القوى المتحكمة فيه سواء أكانت دينية أو سياسية تحت عنوان أيديولوجي ما ,أو تحت أشتراطات واقع أجتماعي يحارب رواد الفكر والمعرفة , وضحية أيضا لغياب هيكلية البناء الثقافي الصحيح عندما يكون الرابط الذي وجوده ضروريا وحتميا في أداء الرسالة وبين الواقع غائبا وممتنعا عن مسايرة الفكر في لحظات التجلي العملي والبسط الواقعي له , ومظلوم من الجماهير التي تتعامل مع المثقف النخبوي على أنه خارج أطار تفكيرها وعليه أن ينزل لحدودها المعرفية بدل أن تسعى هي للرقي بأفكارها البسيطة وبذلك تحدث تحول جذري ومتناغم مع قوانين العلم والمعرفة والثقافة , ومظلوم أيضا من الطبقة المعرفية المساندة التي في بعض تفكيراتها تريد أن تكون البديل التفسيري أو التأويلي للفكر النخبوبي وتستمد من وجودها العريض مشروعية التنافس دون أن تكون قادرا أصلا على تجاوز أو المساواة مع فكر وثقافة النخبة , وبذلك تدخل في متاهات النقاش الأفلاطوني الذي لا يغني عن أداء الدور المناط بها والذي يمثل جوهر وجودها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى