ثقافة

كيف يعمل الزمن !

جواد البشيتي
“الزمن” إنَّما هو صنو “التغيير”، فلو كانت الأشياء “تتجاور”، ولا “تتعاقب”، على استحالة ذلك، لَوُجِدَ كَوْنٌ فيه “مكان”، وليس فيه “زمان”. وكل تغيير يعتري الشيء يجب أنْ يَسْتَغْرِق زمناً، قصيراً كان أم طويلاً، فهذه الكرة التي تحرَّكت على هذا السطح إذ دَفَعْتَها بيدكَ يجب أنْ تتوقَّف عن الحركة بَعْد 50 ثانية مثلاً. إنَّ هذا التغيير (توقُّف هذه الكرة عن الحركة) لا يَسْتَغْرِق زمناً يقاس (في عالمنا الأرضي) بالساعات أو الأيَّام. و”الحَدَثُ” Event، في هذا المثال، إنَّما “يبدأ” بتحرُّك تلك الكرة، و”ينتهي” بتوقُّفها عن الحركة، فليس من “حَدَثٍ” إلاَّ وله بداية ونهاية في الزمان. وكلَّما قلَّ الزمن الذي يستغرقه الحَدَث، لسبب ما، أي كلَّما ضاقت وتقلَّصت “المسافة الزمنية” بين بدء الحَدَث وانتهائه، زادت “سرعة التغيير (أو التطوُّر)”.
لِنَبْقَ في مثال الكرة نفسه، فأنا أريد أنْ أقيس زمن التغيير الذي طرأ عليها (أي توقُّفها عن الحركة) بمقياس آخر، هو “قلبي النابض”. وبحسب هذا المقياس، اسْتَغْرَق هذا التغيير زمناً مقداره 60 نبضة. وعليه، يُمْكنني أن اتَّخِذَ من “قلبي النابض” ساعة أخرى أقيس بها زمن التغيير.
وفي الطبيعة أنماط كثيرة من الساعات، فكل شيء يَعْرِف “تغييراً منتظَماً” يُمْكِن اتِّخاذه ساعةً نقيس بها الزمن الذي يستغرقه التغيير في سائر الأشياء. و”مقياس الزمن” إنَّما هو أن يُقاس التغيُّر في جسم ما (عدد نبضات قلب إنسان حي مثلاً) نِسْبَةً إلى “تغيُّر منتظَم” في جسم آخر (عدد نبضات عقرب الثواني أو الدقائق في الساعة مثلاً). ولو أنَّ نَبْض قلبي يتسارَع تارةً، ويتباطأ طوراً، لَمَا اسْتَطَعْتُ أن اتَّخِذ منه ساعة، فـ “الساعة” يجب أن تكون “تغييراً منتظَماً”.
وأنتَ لو سُئِلْت: “ما هي الثانية (أو الدقيقة، أو الساعة، أو اليوم، أو الأسبوع، أو الشهر، أو السنة)؟”، لأجَبْت بما يؤكِّد ويُثْبِت اشتمال مفردات الزمان على المكان.
“الزمن” يسير، في كل مكان من الكون، في اتِّجاه واحد فحسب.. “إلى الأمام”، أي “من الماضي إلى المستقبل”. إنَّه يسير في “خطٍّ مستقيم”؛ وليس ممكناً أنْ يسير في خطٍّ دائري، فيعود الشيء في تطوُّره إلى ماضيه، أي إلى ما كان عليه في ماضيه، كأن يعود هذا المُسنِّ جنيناً في رَحْم أُمِّه!
ويُخْطئ من يَسْتَنْتِج من نظرية آينشتاين في “الزمن” أنَّ الزمن يمكن في ظروف فيزيائية كونية معيَّنة أنْ يسير في اتِّجاه معاكِس، أي “من المستقبل إلى الماضي”، فليس من تطوُّر في الكون يُسْتَنْسَخُ فيه الماضي. حتى في الجدل الهيجلي أو الماركسي لا يُمْكِن فَهْم “نفي النفي” على أنَّه استنساخٌ لماضي الشيء، أو عودة إلى ماضيه، فالماضي، على أهمية تأثيره في حاضر ومستقبل الشيء، لا يُمْكِن أبداً أن يُبْعث حيَّاً.
“السَفَر”، الذي نَعْرِف إنَّما هو “السفر في المكان”، أي الانتقال من موضع إلى موضع. وكل سَفَرٍ في المكان لا بدَّ له من أنْ يستغرق زمناً، يطول أو يَقْصُر، وِفْقاً لـ “السرعة”، فأنتَ، مشياً على قدميكَ، تجتاز المسافة بين منزلك ومكان عملك في زمن مقداره 15 دقيقة مثلاً؛ أمَّا في السيَّارة، التي تسير بسرعة أكبر، فإنَّكَ تجتاز المسافة نفسها في زمن مقداره 5 دقائق مثلاً. إنَّ كل سَفَرٍ، أي كل انتقال في المكان، يجب أن يستغرق زمناً، أي يجب أنْ يقترن بانتقال في الزمان؛ ولكن، ثمَّة سَفَرٌ لم نَعْرفه حتى الآن، هو “السَفَر في الزمان”، الذي لا بدَّ لـ “الحاضر” من أن يكون نقطة انطلاقه. أمَّا وِجْهَة هذا السفر فهي إمَّا أن تكون “المستقبل”، وإمَّا أن تكون “الماضي”.
نظرياً، واستناداً إلى تجارب فيزيائية أيضاً، يمكن “السفر إلى المستقبل”، أي “من الحاضر إلى المستقبل”؛ أمَّا “السفر إلى الماضي” فهو، وبحسب النظرية النسبية، المستحيل بعينه؛ ذلك لأنَّ سرعة الضوء هي السرعة الكونية القصوى أو العظمى، فإذا أردتَ السفر إلى الماضي فإنَّ عليكَ، بحسب بعض التصوُّرات والنظريات الفيزيائية، أنْ تسير بسرعة تفوق سرعة الضوء.
وحتى لا نهبط بتفكيرنا من “الفيزياء” إلى الدرك الأسفل من “الميتافيزياء”، في هذا الأمر، لا بدَّ لنا من أنْ نستمسك (حتى في خيالنا الفيزيائي) دائماً بالحقيقة الفيزيائية الكبرى، وهي أنَّ “السرعة فوق الضوئية” مستحيلة. ومن هذه الحقيقة تتفرَّع حقيقة فيزيائية أخرى على درجة عالية من الأهمية، هي أنَّ “السفر إلى الماضي” مستحيل هو أيضاً. نقول بذلك مع أنَّنا لا نميل إلى تصديق أنَّ “السفر إلى الماضي” هو العاقبة الحتمية للسير بسرعة فوق ضوئية.
وهناك من الفيزيائيين من يعتقد بوجود وسيلة أُخرى للسفر إلى الماضي، هي “المسار (المنحني) المُغْلَق”، والذي يمكن أن يكون حقيقة واقعة في داخل ذلك الجسم الكوني المسمَّى “الثقب الأسود” Black Hole .
إنَّ الشيء، أي كل شيء، يتغيَّر ويتطوَّر بحسب الزمن الخاص به، أي بحسب ساعته هو. من وجهة نظر الشيء نفسه، أو بحسب ساعته هو، لن تختلف سرعة هذا التغيير (أو ذاك) الذي يعتريه مهما كانت سرعة الموضع الكوني الذي يُوْجَدُ فيه هذا الشيء، أو جاذبيته. من وجهة نظر مراقِب خارجي ما، أو بحسب ساعة هذا المراقِب، تختلف سرعة التغيير في ذلك الشيء.
هناك جسيم (غير مستقر) يسمَّى “ميون”. وهذا الجسيم ينحل ويتفكَّك (فيَنْتُج من انحلاله وتفكُّكه جسيمات مختلفة) في زمن متناهٍ في الضآلة، مقداره 2.2 ميكرو ثانية، أي أنَّ عُمْره 2.2 ميكرو ثانية. تخيَّل أنَّ أمامكَ “ميون” وُلِدَ (نشأ) الآن. هذا الجسيم ستراه ينحل ويتفكَّك، أي يموت ويزول بعد 2.2 ميكرو ثانية من ولادته. سترى كل ذلك بحسب ساعتكَ أنتَ. خُذْ هذا الجسيم، وضَعْه في “مسرِّع”، أي في آلة تزيد سرعته كثيراً. بفضل هذا “المسرِّع” زادت سرعته كثيراً حتى بلغت 99 % من سرعة الضوء. قِسْ عُمْره الآن فتراه قد طال. لقد أصبح 16 ميكرو ثانية بحسب الساعة ذاتها، أي بحسب ساعتكَ أنتَ.
ولو جِئتَ بساعتين متماثلتين، تصميماً، ودِقَّةً، ووقتاً، فوَضَعْتَ إحداهما على في البحر الميت حيث الجاذبية أقوى وأشد، ووضَعْتَ الأُخرى في أعالي الغلاف الجوِّي للأرض، فسوف ترى أنَّ الساعة الأولى قد تأخَّرت عن الساعة الثانية. وهذا إنَّما يعني، مثلاً، أنَّ أحد التوأمين يشيخ قبل الآخر إذا ما عاش بعيداً عن مركز الجاذبية الأرضية، كأن يعيش على أعلى قِمَّة جبلية.
نظرية نيوتن في الجاذبية تخلو تماماً من كل ما يشير إلى وجود، أو احتمال وجود، علاقة، او صلة، بين “الزمن” و”الجاذبية”، التي كان يتصوَّرها نيوتن على هيئة “قوَّة” Force خفية، مبهمة، غامضة، تعمل عن بُعْد.
إنَّ اكتشاف وجود هذه العلاقة، أو الصلة، مع تبيان وجلاء وشرح أوجهها كافة، يعود إلى آينشتاين، الذي، في نظريته “النسبية العامة”، والتي هي نظرية “الجاذبية” و”التسارع”، أوضح أنَّ “الزمن”، والذي هو البعد الرابع للكون، المتِّحِد اتِّحاداً لا انفصام فيه مع أبعاد المكان الثلاثة، يسير في بطء ضِمْن حقول الجاذبية القوية، فكلَّما تأثَّرت “الساعة” بجاذبية أشد وأقوى تأخَّرت وتباطأت.
ولقد جاءت تجارب علمية عدة بما يقيم الدليل على أنَّ “الزمن” عند سطح الأرض أبطأ من “الزمن” على قِمَّة إفرست، الأضعف جاذبيةً؛ لكونها أكثر بُعْداً عن مركز الكرة الأرضية، والذي فيه تتركَّز الجاذبية الأرضية.
و”الزمن” على سطح الكرة الأرضية أبطأ من “الزمن” على سطح القمر؛ و”الزمن” على سطح كوكب المشتري (والذي هو أعظم كتلةً وجاذبيةً من كوكب الأرض) أبطأ من “الزمن” على سطح الأرض.
سوء الفهم لنظرية “الزمن” كما بسطها آينشتاين في “النسبية العامة” أفضى إلى استنتاج خاطئ مؤدَّاه أنَّ “الزمن” يمكن أن يتوقَّف تماماً، أي أن يصبح صفراً، في مواضع كونية تملك من قوَّة وشدَّة الجاذبية ما يمنع حتى الضوء، الذي يسير بالسرعة الكونية القصوى وهي 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، من الإفلات من قبضة جاذبيتها الهائلة.
في نظرية “الزمن” التي تضمَّنتها “النسبية العامة”، لا بدَّ من الإحاطة فَهْماً بثلاثة أشياء هي “الحادث” و”الزمن” و”الساعة”.
والعلاقة بين هذه الأشياء الثلاثة أشْرحها في اختصار على النحو الآتي: “الساعة” تتأخَّر؛ لأنَّ “الزمن” يتباطأ؛ و”الزمن” يتباطأ؛ لأنَّ “الأحداث” نفسها تتباطأ.
تخيَّل أنَّ توأماً لكَ قد نقلته قوَّة خارقة، في طَرْفة عين، إلى كوكب جاذبيته (أو الجاذبية عند سطحه) أقوى من جاذبية الأرض بمئات المرَّات.
وتخيَّل أنَّكَ تستطيع أنْ ترى، في وضوح، “الساعة” التي يضعها في يده.
إنَّكَ، عندئذٍ، سترى (مثلاً) أنَّ عقرب الدقائق في ساعته يُكْمِل دورة واحدة في كل خمس دقائق بحسب ساعتكَ أنتَ الموجود على سطح الأرض؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ الدقيقة الواحدة عنده تَعْدِل خمس دقائق عندكَ. وكُنْ متأكِّداً تماماً أنْ لا خلل في ساعة توأمكَ.
ساعته تتأخَّر ليس لخللٍ فيها وإنَّما لبطء سير الزمن هناك، أي ضِمْن حقل الجاذبية القوي ذاك.
وبطء الزمن إنَّما يعني أنَّ “المسافة الزمنية” بين حادثين تَطول (تزداد، تتمدَّد، تتَّسِع) .Time dilation
إنَّ قلبكَ ينبض نحو 70 نبضة في الدقيقة الواحدة؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ “المسافة الزمنية” بين كل نبضتين تَقِلُّ قليلاً عن ثانية واحدة.
الآن، تخيَّل أنَّكَ تستطيع سماع دقَّات قلب توأمكَ وهو على سطح ذلك الكوكب شديد الجاذبية؛ فماذا يمكنكَ أنْ “ترى” بأُذنيكَ؟
سترى (مثلاً) أنَّ “المسافة الزمنية” بين كل دقَّتين (أو نبضتين) من دقَّات قلب توأمكَ قد استطالت، فأصبحت تَعْدِل، بحسب ساعتكَ أنتَ، 10 ثوانٍ؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ قلب توأمكَ ينبض هناك نحو 70 نبضة كل 11.5 دقيقة (وليس كل دقيقة).
هناك ترى أنَّ “المسافة الزمنية” بين كل حادثين (أو كل تغييرين) تطول (بحسب ساعتكَ أنتَ) فترى، من ثمَّ، “الزمن” يبطؤ، و”الساعة” تتأخَّر.
إنَّ “المسافة الزمنية” بين تغيير وتغيير إمَّا أن “تطول”، وإمَّا أن “تقصر”، من وجهة نظر مراقب خارجي.
بطء الزمن إنَّما يعني أنَّ الحادث نفسه يبطؤ؛ وبطء الحادث إنَّما يعني أنَّ حدوث الحادث نفسه يستغرق زمناً أطول، بحسب ساعة مراقب خارجي (موجود في “الفضاء الفارغ Empty space” مثلاً).
هناك، اي حيث يبطؤ الزمن، كل “الأحداث” تتباطأ؛ وعليه يستغرق حدوث كل شيء زمناً أطول (بحسب ساعة الأرض مثلاً).
بطء، أو تباطؤ، “الزمن” عبَّر عنه آينشتاين بكلمة أخرى هي “الانحناء (أو التقوُّس)” Curvature، فـ “الزمن”، ضمن حقل الجاذبية القوي، ينحني مع انحناء “الفضاء”، أو “المكان (بأبعاده الثلاثة)”. وهذه الكينونة الواحدة المتِّحدة هي “الزمكان” Spacetime الذي ينحني ويتقوَّس حيث تقوى وتشتد الجاذبية.
وتوضيحاً لمعنى “انحناء الزمن” ندعوكَ إلى تَخيُّل “الخط المستقيم B ـ A” على أنَّه مسافة زمنية تساوي 60 ثانية. الآن، قُمْ بِرَسْم “خطٍّ منحنٍ بين النقطتين A و B، فترى أنَّ “المسافة الزمنية” قد استطالت (تمدَّدت) فأصبحت تَعْدِل (مثلاً) 90 ثانية.
وفي توضيح آخر، نقول: إذا كانت الثانية الأرضية هي المستقيم الذي يصل النقطتين A و B، والذي طوله 10 سنتيمتر، فإنَّ “انحناء الزمن” يُرْمَز إليه بالخطِّ المنحني الذي يصل النقطتين نفسيهما، والذي (بسبب الانحناء) أصبح طوله 20 سنتيمتر مثلاً. وهذا إنَّما يعني أنَّ المراقب الأرضي يرى الثانية الواحدة حيث ينحني الزمن أطول مرتين من الثانية الواحدة عنده، أي تَعْدِل ثانيتين اثنتين أرضيتين.
حيث يبطؤ الزمن ينحني الفضاء والمكان؛ وحيث ينحني الفضاء والمكان يبطؤ الزمن؛ فلا وجود للبطء من دون الانحناء، ولا وجود للانحناء من دون البطء.
قُلْنا، في مثالنا الافتراضي أو التخيُّلي ذاك، إنَّ قلب توأمكَ ينبض نحو 70 نبضة كل 11.5 دقيقة، بحسب ساعتكَ. الآن، تخيَّل أنَّ القوَّة الخارقة نفسها نَقَلَته، في طَرْفَة عين، إلى كوكب آخر أشد جاذبية، أي أنَّ جاذبيته أعظم وأشد من جاذبية كوكب الأرض بآلاف المرَّات (مثلاً). عندئذٍ، سترى أنَّ قلب توأمكَ ينبض نحو 70 نبضة كل شهرٍ (مثلاً).
ضمْنَ هذا الحقل الجديد للجاذبية، والأقوى من حقل الجاذبية الأرضية بآلاف المرَّات، تطول أكثر “المسافة الزمنية” بين كل حادثين، فيبطؤ الزمن أكثر، فتتأخَّر ساعة توأمكَ أكثر.
غير مرَّة، أوْرَدْنا العبارة “بحسب ساعتكَ أنتَ”؛ أمَّا “بحسب ساعة توأمكَ” فلا شيء قد اختلف أو تغيَّر.
توأمكَ، وبحسب ساعته هو، ظلَّ قلبه ينبض نحو 70 نبضة في الدقيقة الواحدة. ولو تناول توأمكَ وجبة إفطار لاستغرق تناوله لها 15 دقيقة بحسب ساعته هو؛ لكن بحسب ساعتكَ أنتَ استغرق تناوله لها 15 ساعة (مثلاً).
ولو كان توأمكَ امرأة حامِل، وفي الشهر الأوَّل من حَمْلِها، فإنَّها ستضع مولودها هناك بعد ثمانية أشهر (من وصولها إلى ذلك الكوكب) بحسب ساعتها (وزمانها) هي؛ لكن بحسب ساعتكَ أنتَ وَضَعَت مولودها بعد ثماني سنواتٍ (مثلاً).
لو دخَّن توأمكَ سيجارة هناك لاستغرق تدخينه لها خمس دقائق بحسب ساعته هو؛ لكن بحسب ساعتكَ أنتَ استغرق تدخينه لها خمس ساعات (مثلاً).
تخيَّل الآن أنَّ توأمكَ الموجود على سطح ذلك الكوكب البعيد، عظيم الجاذبية، هو الذي يَنْظُر إلى الزمن عندكَ؛ سيرى (مثلاً) أنَّ قلبكَ ينبض نحو 70 نبضة كل خمس ثوانٍ بحسب ساعته هو، فالزمن عندكَ، أي الزمن الأرضي، يسير (يتدفَّق، يجري) بسرعة أكبر. إنَّ “المسافة الزمنية” بين كل حادثين (على سطح الأرض) لا تطول؛ وإنَّما تتقلَّص، بحسب ساعة توأمكَ، الذي يرى (مثلاً) أنَّ الثانية الواحدة عنده تَعْدِل 100 ثانية عندكَ، فكل شيء عندكَ يراه أسرع، ويشيخ أسرع.
توأمكَ الآن أعادته القوَّة الخارقة نفسها، وفي طَرْفَة عين، إلى كوكب الأرض. لقد استغرق غيابه عنكَ، بحسب ساعته هو، سنة واحدة فحسب (مثلاً). عند مغادرته كان عمره 30 سنة (مثلاً) فأصبح لدى عودته 31 سنة، أي أنَّ عمره زاد سنة واحدة فحسب.
أمَّا أنتَ فأصبحت أكبر منه عُمْراً، لدى عودته، بعشر سنوات (مثلاً). لقد شِخْتَ قبله.
بحسب “النسبية العامة”، اي بحسب نظريات آينشتاين في “الجاذبية” و”التسارع”، لا بدَّ لكلِّ انتقال (أو سفر) لكَ في الفضاء (أو المكان) من أن يكون أيضاً انتقالاً (أو سفراً) في الزمان.
تخيَّل أنَّكَ موجود في “الفضاء الحُرُّ (من الجاذبية)”، بعيداً عن كل الكواكب والنجوم..، فظَهَر، فجأةً، على مقربة منك، كوكب.
إنَّكَ، عندئذٍ، لن تُدْرِكَ إلاَّ أنَّكَ قد شرعت تتسارع نحو هذا الكوكب.
وهذا التسارع إنَّما يعني أنَّكَ أصبحت الآن ضمن حقل الجاذبية لهذا الكوكب، أي ضِمْن “حُفْرته الفضائية” التي تشرع تسقط فيها سقوطاً حُرَّاً (متسارِعاً) في اتِّجاه الكوكب (في اتِّجاه سطحه أو مركزه). وهذا إنما يعني أيضاً أنك أصبحت ضمن حيِّز فضائي يبطؤ فيه الزمن، بحسب ما يرى مراقب خارجي بعيد ساعتك. لقد انتقلت الآن عبر الزمن (أي إلى منطقة زمنية مختلفة). إنَّك في سفرك في الفضاء تعبر مناطق زمنية مختلفة لجهة درجة تمدُّد الزمن فيها؛ وهذا ما يدركه المراقب الخارجي.
المراقب البعيد عنك (المراقب الأرضي مثلاً) يرى أنَّ سرعة جريان وتدفق الزمن لديك قد تضاءلت (لسيرك الآن في فضاء منحنٍ).
وعليه، يتأكَّد هذا المراقب أنَّ سفرك في الفضاء سفر في الزمن أيضاً؛ لأنَّك لم تنتقل من موضع إلى موضع فحسب؛ بل انتقلت من نظام زمني إلى آخر.
إذا انْتَقَلْتَ (تحرَّكتَ) في المكان (أو الفضاء) فأنت مجبر على الانتقال في الزمان أيضا؛ لكنك قد تنتقل في الزمان (كأن تجلس على الكرسي) من غير أن تنتقل في المكان (بالنسبة إلى سطح الأرض). إنَّ كل انتقال في المكان يتضمن حتماً انتقالاً في الزمن؛ لكن ليس كل انتقال في الزمان يجب أن يتضمن انتقالاً في المكان.
إننا لا نعيش في “المكان” فحسب، ولا في “الزمان” فحسب؛ إننا نعيش في “وحدتهما التي لا انفصام فيها”، أي في “الزمكان”. إنني أعيش في هذا “المكان الخاص بي”، وفي هذا “الزمان الخاص بي”.
لِنَتَخَيَّل الآن أنَّ القوَّة الخارقة أرسلت توأمكَ، في طَرْفَة عين، إلى ضواحي “ثقب أسود” Black hole، فشرع يسقط (بسرعة هائلة متزايدة) نحو “سطحه”. لقد نَظَرَ توأمكَ في ساعته فوَجَد أنَّ سقوطه إلى “سطح” هذا “الثقب” قد استغرق 10 ثوانٍ، وأنَّ سقوطه من سطح “الثقب الأسود” إلى مركزه قد استغرق ثانية واحدة.
إنَّ أحداً من الفيزيائيين الكونيين لن يستطيع إقناع توأمكَ بأنَّ الزمن عنده قد توقَّف تماماً لدى وصوله إلى سطح “الثقب الأسود”، وبأنَّ عقارب ساعته قد توقَّفت تماماً عن الحركة، فتوأمكَ لن يرى إلاَّ سيراً عادياً طبيعياً للزمن (والساعة) عنده؛ أمَّا أنتَ الذي تراقبه من على سطح كوكب الأرض فسترى أنَّ الزمن عند توأمكَ يزداد تباطؤاً مع اقترابه (في أثناء سقوطه) من سطح “الثقب الأسود”، الذي لا مثيل له لجهة قوَّة وشدَّة جاذبيته؛ وسترى أنَّ الثانية الواحدة عنده أصبحت تَعْدِل (مثلاً) مليون سنة أرضية؛ وأخيراً سترى أنَّ الزمن عنده قد توقَّف تماماً ما أنْ أصبح قاب قوسين أو أدنى من سطح “الثقب الأسود”.
من وجهة نظركَ أنتَ، وبحسب ساعتكَ أنت، توقَّف الزمن تماماً عند توأمكَ ما أنْ أوشك أنْ يَعْبُر سطح “الثقب الأسود” نحو مركزه؛ أمَّا من وجهة نظره هو، وبحسب ساعته هو، فإنَّ الزمن عنده ظلَّ يسير كالمعتاد، وكأنْ ليس لهذه الجاذبية الهائلة من تأثير يُذْكَر في حركة الزمن لديه.
قُبَيْل دخوله في جوف “الثقب الأسود”، رأيتَ أنَّ الزمن عند توأمكَ قد توقَّف تماماً؛ فلو تمكَّنت تلك القوَّة الخارقة من إعادة توأمكَ إلى الأرض قُبَيْل اجتيازه سطح Event horizon “الثقب الأسود” نحو مركزه، لَرَأيْنا الآتي: توأمكَ كان عمره عند المغادرة 30 سنة (مثلاً) فأصبح عند عودته 32 سنة؛ ولَمَّا سأل عنكَ قالوا له إنَّكَ قد مُتَّ منذ عشرة ملايين سنة (مثلاً).
إنَّ القول بتباطؤ الزمن (بسبب تعاظم الجاذبية) حتى “توقُّفه التام” لا يصحُّ أبداً إلاَّ بهذا المعنى النسبي، فالزمن، عند توأمكَ، توقَّف من وجهة نظركَ أنتَ، وبحسب ساعتكَ أنتَ؛ أمَّا من وجهة نظره هو، وبحسب ساعته هو، وبحسب كل ما لديه من وسائل وأدوات وطرائق لقياس الزمن، فإنَّ الزمن عنده ظلَّ يسير سيراً عادياً طبيعياً.
بعد “النسبية الخاصة” و”النسبية العامة” ما عاد السؤال الذي يستحق التفكير والبحث والإجابة هو “هل الزمن نسبي أم مطلق؟”، وإنَّما السؤال “هل الزمن موضوعي أم ذاتي؟”.
إنَّ موضوعية “الزمن” هي الأساس للعلمية في فهمه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى