تعاليقرأي

كفي نحيبا، فالفقر عند الشّريف ليس عيبا.

رشيد مصباح (فوزي)

…..

مداوروش في: 14 ديسمبر 2022

…..

خرجتُ في ثلث اللّيل الأخير، وابنتي الصّغرى تتبعني، مكبّة على هاتفها المحمول؛

ما أصعب هذا الجيل حين يجد هذه اللّعب الالكترونية التي شغلته عن كل شيء،

وأصعب منه الواقع الذي فرض نفسه علينا في هذه الأيّام؛ طوابير الحليب التي لا تكاد تنتهي حتى يبزغ الفجر فتعوّضها أخرى، وأصحابها الذين تسمّروا جنب أبواب المحلاّت والحيطان كأنّهم حثالة من المتسوّلين. ثمّ يخرج علينا مدير عام صندوق المعاشات ببدلته المزركشة، ومن وراء مكتب مجهّز بأفخم التجهيزات، يتكلّم معنا بنبرة فيها شيء من الغرور و الاستعلاء، ويقول: “إن الصّندوق يعاني من عجز كبير”؟

” وأين ذهبت اشتراكاتنا يا سيادة الباشا؟”

لم ننتظر في الخلاء طويلا، لأنّ البنت غيّرت رأيها، فقمنا باستئجار سيارة أوصلتنا إلى المحطّة البريّة. فوجدناها شبه خالية إلاّ من حارس وكلب النّحيل.

ثمّ جاءت بعد ذلك عاملة النّظافة مسرعة والفجر قد تأخّر قليلا.

جلسنا في قاعة انتظار، تشكو حالها لمولاها خالقها، ولم يكن هناك من أحد سوانا.

ثم جاء عامل آخر، دخل علينا وألقى السّلام. ورقّ قلبه لحالنا، فراح يسألنا عن سبب مجيئنا المبكّر؟ ثم انصرف.

التفتُّ إلى البنت وأنا جنبها، وعينها اليمنى تذرف دمعا سخينا؟

ذكّرني حالها ببطلة قصّة “بائعة الكبريت” للشّاعر والأديب الدنماركي (أندرسن):

تلك الفتاة التي ماتت غارقة في هذيانها..

دنوتُ منها، وأنا أحاول تنقية مشاعرها من كلام العامل المتطفّل سليط اللّسان، الذي ذهب تاركا وراءه كلاما تسبّب في تحطيم مشاعرها الرهيفة، وبكل عفوية سألتها عن سبب البكاء، وكان الردّ متوقّعا: – ” الفقر يا أبي”

لاحتْ لي صورة الفنّان الرسّام وهو يرسم لوحة لبنت مراهقة فقدت الأمل في الحياة بسبب مرض عضال، فتجمّدت أطرافه، ومات وهو يرسم لوحته الخالدة، في ليلة شديدة البرودة. ولكنّه في الأخير استطاع أن يعيد الأمل لتلك الفتاة المريضة فتعافتْ من مرضها العضال. تمنّيتُ أن أكون الرّيشة التي رسمت اللّوحة التي أنقذت تلك الفتاة.

لم يكن هناك أثرياء في جزائر مطلع الستّينيّات والسّبعينيّات، مثل ما هو الحال في أيّامنا هذه. وإن كان هناك، لكنّهم لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة. ومع ذلك، لم يتفاضلوا ولم يتمايزوا بمستواهم ولا بنمط عيشهم عن غيرهم، من المواطنين البسطاء. لأنّهم ببساطة كانوا قدوة في الهمّة العالية، و التواضع والأخلاق، ثمّ تعاقبت السيّاسيات، وحزمت الاشتراكية أمتعتها وتوارتْ، فحلّت بعدها الليبرالية المتوحّشة. معلنة عن ظهور الطّبقيّة. ثم في التسعينيّات استشرى الفساد بظهور الإرهاب؛ الفترة التي استغلّها بعض المتنفّذين في السطو على مقدّرات الشّعب، وكان في ثرائهم اللاّمشروع أثر في فساد الضّمير؛

فكفّي أيّتها الصّغيرة عن البكاء، فالفقر عند الشّريف ليس عيبا، ولكن العيب في غياب الأخلاق وموت الضّمير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى