
أربك كتاب ” مثبتات العقل” تاريخ نظريات وعلاجات الطب النفسي. وعرض مسيرة الارتباك انطلاقا من مرحلة ما قبل فرويد، والتي اقتربت إلى التعذيب العشوائي اكثر منها إلى العلم أو الطب، فهذا ما كان عليه الطب النفسي؛ ومن المداواة بحمامات الثلج ، وإحداث الغيبوبة بالأنسولين، والعلاج بالملاريا (على أمل أن تشفي الحمّى المرضي، ثمّ يتولى الطبيب بعد ذلك بصورة أساسية علاج الملاريا)، ولأجل هذا كان لدى المشافي مخزون من الميكروبات تستعين به.
كان الطب النفسي وقتها طب عمليات الفص الجبهي للدماغ، فأجريت آلاف العمليات الجراحية عبر مخرز ينفذ من تجويف العين ليُحدث إتلافاً كبيراً في الفص الجبهي للدماغ من أجل أن يُـشفى المريض. وكان طب العلاج بالصدمات الكهربائية بصورة عشوائية، دون تخدير المريض أو أخذ موافقته (لا يزال العلاج بالصدمة الكهربائية يستخدم أحياناً، مع أخذ موافقة المريض وتخديره، كعلاج فعال لحالات الاكتئاب العصي على الاستجابة الأدوية).
كان الطب النفسي وقتئذ طب التحسين الانتقائي للنسل حقا. إذ بدا – وقتئذ- أن العديد من الأمراض النفسية موروثة، والنتيجة المنطقية التي خلص إليها الأطباء النفسيون في مطلع القرن العشرين هي معالجة الأمراض النفسية من خلال عملية التعقيم الإجباري (الخصي) – وكان تعبير “التخلف العقلي” عام تشمل فئات واسعة. أكثر من 60 ألف شخص في الولايات المتحدة أرغموا قسراً على التعقيم الإجباري على مدار القرن العشرين، فقد كان ينظر للأمر كسياسة “تقدمية مستنيرة”، إذ كانت تعني نهاية الفقر والاضطراب النفسي؟!. وقد اعتمد النازيون هذا البرنامج وقاموا بمحاكاته، ثم وسعت نطاق الأمر إلى “القتل الرحيم”، ثم انتهت بتوسيعه إلى القتل الجماعي تحاشيا “للنيل من السلامة العِـرقية للشعب”.
وبحلول منتصف القرن العشرين كانت الثقة بالطب النفسي (البيولوجي) قد تلاشت، لكن هذا لا يعني أن صعود الفرويديين كان أمرا حسنا وتطورا؛ لقد كان فظيعا في معظمه على نحو مختلف.
لم يكن فرويد نفسه معنيّا كثيرا بالأمومة. لقد اتضح لديه أن النساء يسعين أساسا لإنجاب الأطفال بدافع الشعور بالدونية لافتقارهن الى القضيب ، إلا أن الهوس المعروف للمدرسة الفرويدية بالأمهات ظهر بصورة أساسية في مرحلة ما بعد الحرب. فقد لعب الأطباء النفسيون دورا حاسماً في التجنيد العسكري، فرفضوا نحو مليوني شاب لأسباب “نفسية عصبية”، لكنهم بعد الحرب وجدوا أكثر من مليوني جندي ممن انخرطوا في الخدمة يعانون مشكلات نفسية حادة (وهي ما نعرفه اليوم باضطراب كرب ما بعد الصدمة (5) – PTSD-واستنتج الأطباء النفسيون أن ذلك ربما كان بسبب خطأ أمهاتهم. فلئن كان إفراط الأمهات في حماية ودلال أبنائهن أمراً سيئاً، وكانت الأمهات المُـهملات غير الودودات أسوأ حالاً، فإن الأسوأ على الإطلاق أولئك المتسببات بالفصام- mothers schizophrenogenic – وهن الأمهات اللواتي كـن ما بين الحماية مفرطة والإهمال؛ فهؤلاء مسؤولات عن التفشي الواسع للفصام والمثلية الجنسية التي اجتاحت امريكا في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. وقد حذر الأطباء النفسيّون البارزون وقتئذ الأمهات بشدة من كونهن يشكلن خطراً جسيماً على الأمن القومي؛ إنهن يقوضّن قدرة أمريكا على الدفاع عن نفسها ضد الشيوعية.
(5) – حالة صحية عقلية يستثيرها حدث مخيف، قد يحدث لك أو قد تشهده. قد تتضمن الأعراض استرجاع الأحداث، والكوابيس والقلق الشديد، بالإضافة للأفكار التي لا يمكن السيطرة عليها بخصوص الحدث. أغلب من يمرون بأحداث مؤلمة قد يصابون بصعوبة مؤقتة في التأقلم والتكيف، ولكن بمرور الوقت والعناية الجيدة بالنفس، فعادةً ما يتحسنون. إن تفاقمت الأعراض، أو استمرت لشهور أو حتى لسنوات، وإن أعاقت الحياة اليومية للمرء، فقد يكون مصابًا باضطراب كرب ما بعد الصدمة .
آنذاك كان “الفصام” تشخيصا غامضا، ومع ذلك تم اعتماد التشخيص به على نطاق واسع جدا. فالطفل صعب الطباع كان ذا “فصام طفولي”، سيما أولئك الذين يتجبنون التواصل البصري أو يواجهون صعوبة في فهم الإشارات الانفعالية لمن حولهم. والنساء العازفات عن ممارسة الجنس مع أزواجهن أو أولئك اللواتي لم يرغبن بالزواج أصلاً قد يكن أيضا “فُصاميات”، كما أن الفتيات اللواتي يفتقرن للأخلاق والحشمة قد يكنّ أيضا “فصاميات”، وأيضا كون المرء “غير وطني” ربما يكون عرضا محتملاً.
فلم يتم تصنيف الاكتئاب والقلق كاضطرابات مستقلة في عهد الفرويديين، وبدلاً من ذلك كانت أعراضا للفصام تدل على أن الطاقة النفسية – psychic energy- للفرد قد تضرّرت، وأن من شبه المؤكّد أن ذلك بسبب أمهاتهم.
كان العلاج عموماً وقتئذ أن يُدخل الأفراد المصحات مدى حياتهم، مع تقديم دروس قاسية لعائلاتهم التي قادت تربيتهم الرديئة أطفالهم إلى الجنون. كما كان المرضى يعالجون أحيانا بالتحليل النفسي الفرويدي: تأويل الأحلام، واختبار بقع “رورشاخ”، والتداعي الحر، والذكريات المكبوتة، ونحو ذلك. وبالتأكيد، فلم يُـعالج ذلك أحداً، وغالبا الذي تم ادخالهم إلى المصحات وظلوا هناك حتى ماتوا أو إلى حين إغلاق المصحة.
(6) – اختبار “رورشاخ” النفسي (أو اختبار رورشاخ لبقع الحبر) هو نوع من الاختبارات النفسية الإسقاطية، التي تُستخدَم غالبًا لتحديد الأنماط والخصائص الشخصية للفرد، وكذلك أدائه الانفعالي والعاطفي. في هذا الاختبار، تُعرَض على الشخص عشر بطاقات، تحتوي كل منها على بقع حبر بعضها سوداء وبعضها رمادية أو بيضاء أو ملونة، وعلى الشخص أن يصف ماذا يرى في هذه البطاقات. “هيرمان رورشاخ” – (Hermann Rorschach) – ( 1884 – 1922) طبيب نفسي سويسري وعالم في المقاييس النفسية.
في يناير عام 1973 نشر عالم النفس “ديفيد روزنهان” ( 7) مقالاً في مجلة – (8 ) Science- بعنوان “أن تكون عاقلا في أماكن مجنونة”- حيث أجرى “روزنهان” تجربة بأن قدم ثمانية أشخاص (بمن فيهم هو) إلى اثني عشرة مشفى مختلفاً للأمراض النفسية في أنحاء الولايات المتحدة، واشتكوا من الهلوسات السمعية، واختيرت الكلمات التي زعموا أنهم سمعوها بعناية، بحيث لم ترد في أيّ من الأدبيات المنشورة وقتئذ مربوطة بأعراض الذهان، فتم تشخيصهم جميعاً بالفصام أو “الذهان الهوسى الاكتئابي”، وأدخلوا المصحات، وبمجرد دخولهم بدأوا يصرفون على نحو طبيعي و قاموا بتسجيل الملاحظات حول تلك البيئة بصورة علنية، إلى الحد الذي دفع زملائهم المرضى لاتهامهم أنهم أساتذة جامعيون أو صحافيون في زيارة تفقدية للمشفى، كما لم يشك أحد من الطاقم الطبي مطلقا أنهم ليسوا مرضى نفسيين. وفي النهاية تم تشخصيهم جميعا بـالفصام مع غياب الأعراض . _________________________
( 7) – ديفيد روسنهن(1929 – 2012) – David L. Rosenhan - عالم نفس أمريكي، اشتهر من خلال تجربته المشهورة في علم النفس المعروفة باسمه “تجربة روزنهان”.
( 8) – هي واحدة من أكثر المجلات الأكاديمية انتشارا في العالم.
ويوضح “توماس ساس”(9) – (Thomas Szasz) – د آخر للطب النفسي، أن لا شيء من هذا يشبه الطب من قريب ولا بعيد. وما يبدو أن ما يفعل الأطباء النفسيين هو تحديد الأشخاص الذي يتصرّفون بنحو غير اعتيادي وغير مقبول اجتماعيا، ثم التأكيد أنهم “مرضى”، وبالتالي يلزمهم الحجز والعلاج، سواء أراد المريض أن يتعالج أم لم يرد. كما يبدو أن الأطباء النفسيين كانوا ينتهكون الحقوق المدنية الأساسية لمرضاهم بشكل مذهل وعلى نطاق واسع؛ كان ذلك كله باسم العلم، لكن لم يكن أيا منه علميا بحق.
(9) – “توماس ستيفن ساس – Thomas Stephen Szasz- (1920 – 2012) هو طبيب نفسي ومحلل نفسي، واشتهر كناقد اجتماعي للقواعد والأساسيات الأخلاقية والعلمية التي بُني عليها الطب النفسي والذي اعتبرها أهدافاً طبية للسيطرة على المجتمع في العصر الحديث، بالإضافة إلى إضفاء الطابع العلمي للطب النفسي. ومن مؤلفاته “خرافة الطب النفسي” (1961)، و”صناعة الجنون” (1970. ناقش خلال حياته العملية مبدأه بأن المرض النفسي هو تشبيه لمشاكل الناس في حياتهم، فالمرض النفسي ليس حقيقياً كما هو مفهوم المرض الحقيقي كمرض السرطان باستثناء الأمراض العقلية القابلة للتحديد مثل مرض الزهايمر، وذلك لأنه ليست هناك أية اختبارات حيوية أو كيميائية أو تحاليل أو نتائج تشريحية تؤكد أو تنفي تشخيصات الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، بمعنى أنه لا يوجد طُرُق موضوعية لاكتشاف وجود المرض النفسي من عدمه.
وأظهرت الدراسات المعنية بمدى دقة التشخيص الإكلينيكي في الطب النفسي “الفرويدي”، أن الأطباء الذين يفحصون المريض نفسه يتوافقون فقط بنسبة 30 في المائة في كل مرة.
كما أن مهنة الطب النفسي فقدت مصداقيتها إلى حد بعيد إثر سلسلة من الفضائح الإعلامية التي كشفت عن الظروف المروعة للعديد من مشافي الصحة النفسية والإساءة الممنهجة للمرضى المحتجزين فيها.
في الوقت ذاته أثبتت العقاقير التي أنتجتها شركات الأدوية في الخمسينات والستينات أنها أكثر فعالية في علاج الأشخاص الذي يعانون الفصام واضطراب ثنائي القطب والاكتئاب؛ والتي بدت أقرب إلى اضطرابات متعددة، كلها ذات أساس وراثي وثيق للغاية، ولا صلة للأمر بالأمومة “السامة” أو “الطاقة النفسية”. لقد استهدفت الأدوية الجديدة النواقل العصبية (وهي موصلات كيميائية دقيقة بين خلايا الدماغ)، وتعمل تلك الأدوية من خلال تنظيم كمية ناقل عصبي معين في الدماغ، وهو ما يشير إلى تفسير بيولوجي في فهم المرض النفسي؛ ومن الواضح أن هذه الاضطرابات نشأت عن خلل في توازن النواقل الكيميائية، وهو ما تعالجه الأدوية. وقادت العقاقير الجديدة إلى فئات تشخيصية جديدة. فالاكتئاب الذي كان ينظر إليه سابقاً كعرض لمرض نفسي آخر، لم يلبث أن أعيد وصفه كمرض نفسي مستقل في حد ذاته، وغدا على نحو مفاجئ مرضا واسع الانتشار جداً كشيوع نزلات البرد!، ويمكن علاجه بفئة من العقاقير.
كان احتجاز مرضى الصحة النفسية على نطاق واسع كارثة صحية عامة، وكان باهض الثمن؛ إذا ما قورن بمضادات الذهان الجديدة ومثبتات المزاج التي كانت فعالة وآمنة إلى حد بعيد -أو هكذا أكدت الشركات المصنعة – فأقنع مسؤولو الصحة العامة أنفسهم أن إغلاق المشافي وإعادة المرضى النفسيين الى المجتمع هو الأفضل للجميع. لقد كان حلاً ناجعاً لأولئك الذين انتفعوا جيداً بالأدوية الجديدة، أو لأولئك الذين لهم عائلات يعودون إليها، أو لأولئك الذين يمكنهم التعامل مع مرضهم بأنفسهم. أما العديد من أولئك الذي لم يحظوا بأي من هذا فقد انتهى بهم الأمر في نظام السجون الذي سرعان ما أصبح النظام الفعلي الجديد للصحة النفسية.
واليوم ليس هناك إجماع حول نموذج جديد يمكن أن يحلّ محل النموذج السابق، باستثناء اتفاق عام على أن معظم الأمراض النفسية محتمل أنها نتاج مجموعة معقدة للغاية من العامل الجيني والكيمياء الحيوية والبيئة، والتي تتفاعل فيما بينها في حلقة تغذية راجعة تعزّز بعضها البعض.
في عام 2006، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” فضيحة شركة (Eli Lilly) واستراتيجيتها التسويقية للدواء الذي طورته، ويُـدعى “زيبركسا” – (Zyprexa)- فقد تم انتاج هذا الدواء لعلاج الفصام، لكن لا يمكن أن تصبح ثرياً من خلال علاج مرضى الفصام، إذ لا يوجد ما يكفي من الفصاميين لذلك!- وقد كانت براءة اختراع هذه الشركة لدواء بروزاك (Prozac) على وشك الانتهاء، فعقدت مؤامرتها لتسويق الدواء الجديد بين الأطباء النفسيين وأطباء الرعاية الأولية على أنه علاج للاكتئاب والخرف والأرق وتقلب المزاج والتهيّج ، بينما أخفت في ذات الوقت تجاربها الإكلينيكية التي تشير إلى ارتباط الدواء بالسُـمنة وارتفاع سكر الدم ومرض السكري.
أعقب ذلك موجة من فضائح شركات الأدوية، التي ضبطت وهي تستعين بشركات التسويق لتلفيق مجموعات من المعنيين بدعم المرضى لزيادة الوعي بمشكلات نفسية لم تكن موجودة أصلا قبل أن تبتكر الشركة أدويتها، ثم مارست ضغطاً على الأطباء النفسيين للبدء بالتشخيص بتلك المشكلات المختلقة.
خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ، فإن شركات الأدوية الكبرى -والتي لا تزال تترنح إثر تلك الفضائح والدعاوى القضائية الجماعية الواسعة- قد تراجعت عن الدخول في الأبحاث واسعة النطاق للصحة النفسية. وحتى الآن لا توجد أي مؤشرات حيوية ولا تشخيصات موضوعية للأمراض النفسية. والربح الأكبر الآن، هو حيث يوجد مرض السرطان.
تقر “هارينغتون”، أن ما يجري اليوم بين مرضى الصحة النفسية والأطباء هو مجرد “لعبة”، يتقدم المريض فيشكوا لطبيبه ضيقاً نفسياً أو انفعالياً شديداً، فيبحث الطبيب في التشخيصات ضمن التصنيفات المتوفرة مما قد يكون له معنى، ثم يصف له دواء؛ هذا هو المتاح لديهم اليوم. وقد تكون الأدوية فاعلة أحيانا، وبالنظر إلى التأثير الوهمي للدواء- placebo effect (10)- في علاجات الصحة النفسية، فإنه حتى لو لم يكن الدواء فعالاً حقيقة، فغالبا ما يشفي الناس على كل حال.
(10) – “تأثير الدواء الوهمي”، وهو تأثير مفيد ناتج عن دواء أو علاج وهمي ، والذي لا يمكن أن يُعزى إلى خصائص الدواء الوهمي نفسه ، وبالتالي يجب أن يكون راجعاً إلى إيمان المريض بهذا العلاج. إلا أن الأطباء يرفضون النتائج الإيجابية لتأثير “الدواء الوهمي”.