أمن وإستراتيجيةفي الواجهة

قيام وسقوط الولايات المتحدة الأمريكية

محمد عبد الشفيع عيسى

كنا نقول، قبل عام 2000، إن عملية صنع القرار القومي الأمريكي تمرّ بسلسلة “ذهبية” من الخطوات المتدرجة تباعاً، حيث تبدأ من الدراسة البحثية للقضية محل الاهتمام في مراكز التفكير Think Tanks التي (تقتل) موضوع القضية بحثاً، كما يقولون ، وتنتهى إلى تقديم خلاصات بحثها ودراستها إلى أجهزة صنع القرار. تتلقف أجهزة صنع القرار نتائج البحث، وهى، مثل “البنتاجون” فى المجال العسكري، تستقى خلاصات الدراسات وتبنى على أساسها استراتيجيات وتكتيكات ومن ثم خطط العمل التنفيذية Action Plan . تأتى الخطوة الثالثة حين تقوم الأجهزة بوضع عدة بدائل لمواجهة المشكلة محل البحث، أمام صانع القرار فى مستواه الأعلى ، مثل وزير الدفاع ، أو مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي . ينتهى الأمر بأن يقدم صانع القرار الأعلى تصوراً للبديل المفضل ، ولثاني أفضل بديل Second best alternative ويضعهما أمام متخذ القرار decision taker وهو الرئيس مثلاً ، في حالة موضوع الحرب وقرار القتال . ويكون على هذا الأخير أن يتّخذ القرار ثم يتحمل تبعات القرار على كاهله وحده دون شريك، بعد أن يقوم باستشارة الدائرة المقربة inner circle والتي يفترض أن تقوم باستمزاج آراء القيادات النافذة فى الكونجرس بمجلسيه، وخاصة مجلس الشيوخ .
هذا ما كنا نتصوره بصدد عملية صنع القرار القومي الأمريكي ، وربما كانت آخر محاولة معاصرة لاتباع هذا السبيل، هي عملية غزو العراق الي كانت معقدة حقاً، واشتركت بشأنها كل الجهات التي تحدثنا عنها آنفاً .
وتشاء الأقدار أن تفشل (العملية) و لا يتم اصطياد (البطة) كما كانت تشتهى الأنفس العطشى إلى الدماء. وقد برزت من بين هذه الأنفس نجوم تلألأت في سماء الحرب (الفاشلة من بعد) في مقدمها رامسفيلد ، ومن بعده رهط من قبيل “جورج وولفوتز” و “ريتشارد هاس” وآخرون .
وما هي إلا أيام بعد الغزو حتى تم تعين حاكم عسكري أمريكي للعراق المحتل ثم حاكم مدنى شهير (بول بريمر) قام بحل الجيش والشرطة، وتفرغ لقتال المقاومة الوطنية العظمى التي انفجرت في وجوه الجميع، لتثبت أن عملية صنع القرار المعقدة ، كاملة الأوصاف ، قد أهملت “العامل الرئيسي” وهو ” الإرادة الإنسانية” ذات البعد الوطني – القومي العتيد .
وما كان من الغازي المحتل إلا أن يرتضى بتفكيك كيان الدولة العراقية ، ثم أن ينصّب عليها حكاماً ارتضوا في شطر منهم بالذلّة والهوان تحت أسنّة الرماح، ثم تٌجري(انتخابات) تتلوها (انتخابات) من قبيل ” تدوير زوايا النخبة” دون ملل أو كلل.
و الحقّ أن عملية الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 كانت أشد تعقيداً ، من تلك التي سبقتها، عملية غزو أفغانستان عقب أحداث 11 سبتمبر مباشرة ، وإسقاط حكم (طالبان) .
وكان التطور السياسي اللاحق فى أفغانستان، بسيطاً مثل البساطة النسبية لعملية الغزو ، إذ انقسمت ساحة الجغرافيا والجيوبولتيك، في نهاية الأمر، بين حكم (عميل) أو (شِبْه عميل) يتبعه جيش جرار، جسماً بغير روح، وبين وجود سياسي وعسكري (طالباني) يقتسم البلاد والعباد مع الأمريكيين وتوابعهم ، حتى جرى ما جرى ، في نهاية الأمر على النحو الذى نعرف ويعرفون : انسحاب أمريكي فوضويّ، متعجلّ ، مُذِلّ ..!

طوال العقدين 2000 – 2020 إذن كانت الإمبراطورية المترنّحة تقاوم السقوط بواسطة العسكرة ، وتعالج جراح الانحدار الحضاري و الاقتصادي أمام الصين القائمة صعداً بعد سبات ، وأمام روسيا العائدة بعد سقوط .
تلك كانت حقبة (الجرح والتعديل الخاطئ) : 2000 – 2020 ، حين أخذ يحدث تآكل للقدرة الأمريكية، مع تنامى النزعة الحربية ( خاصة مع غزو العراق وأفغانستان) تحت شعار دونالد رامسفيلد ) حربان في وقت واحد ..! وربما أكثر من حربين ..! وتتالت إدارة “بوش الإبن” الحربية، وإدارة أوباما “السلمية” غير الحازمة وغير الكفؤة اقتصادياً ثم إدارة “ترامب” الصراعية وخاصة تجاه الصين .. وأخيراً جو بايدن (النعسان) على رأي دونالد ترامب، وهو صاحب (مبادرة اللامبادرة) بالانسحاب الفوضويّ المتعجل المُذلّ من أفغانستان خلال أغسطس 2021.
هذه الحقبة (2000-2020) سبقتها حقبة المدّ الاقتصادي والسياسي الطاغي دون توقف اعتباراً من 1971 تقريباً (وإن شئت فقل 1970 أو 1968 أو 69) .
حينذاك تمت تسوية الجرح الفيتنامي 1973، جنباً إلى جنب إطلاق حمّى التعاون الاقتصادي السلمى مع السوفييت ، ثم الانعطاف ناحية الصين ما بعد ماوتسي تونج، بدءً من خليفته المراوغ صاحب (القطط) الرأسمالية التي تصطاد الفئران المتبقية من حقبة ماو؛ إنه”(دينج هيسياو بنج) رافع الشعار (لا يهم لون القطط ما دامت تصطاد الفئران) .
وعلى امتداد عقدين، قامت الإمبراطورية الأمريكية المتوثبة باحتواء أوروبا الغربية والشمالية عن طريق الشركات الأمريكية عابرة الجنسيات ، ومدّ الأذرع الأخطبوطية تجاه شرق آسيا و قارة إفريقيا فى حمّى الحرب الباردة مع السوفييت ، ودع عنك “الفناء الخلفي” للولايات المتحدة : أمريكا الوسطى والجنوبية (أو ما تسمّى “أمريكا اللاتينية” اختصاراً) .
وما أن طوّعت أمريكا أوروبا الغربية ، سلماً – اقتصادياً – بالشركات، حتى استخدمتها مهمازاً للمساعدة في تدمير دولة السوفييت الاشتراكية، وهو ما حدث في نهاية الأمر خلال ولاية جورباتشوف (1985 -1990) .
ثم أن الولايات المتحدة قامت بتصعيد التنافس الاقتصادي – التكنولوجي مع اليابان خلال الثمانينات وخاصة في عقد التسعينات (فترة ولاية كلينتون) حتى طرحتها أرضاً، وألقت بالراية السابقة على هذه الأرض؛ راية (اليابان – الدولة رقم 1) للباحث عزرا باوند: Japan As Number 1 و أضرابه. ثم أن الولايات المتحدة استعانت باليابان ومعها شرق آسيا (التابعة – الصاعدة) مثل كوريا الجنوبية وتايوان، لمواجهة الصين أولاً، ثم اجتذابها ثانياً إلى الفلك الغربي الوثير، في عصر “الرأسمالية غير المتجمّلة”، بالقيادة الأمريكية الجامحة، رأسمالية الليبرالية الجديدة. و إن هذه لتسرح وتمرح شرقا و غربا، شمالا وجنوبا، تنشر الفوضى وتبذر بذور التوجه الصراعي في العلاقات الدولية، حيثما ذهبت، بوجهها الكالح المشهود، ربيبة للاستغلال الطبقي في الدواخل، و تصعيد حمّى الحروب عبر العالم، وإطلاق العنان للتغير المناخي المنذر بكارثة محدقة للكوكب الأرضي الراهن.
وكان أن دخلت الصين و التنّين فى أحضان (الحمار) بعد إسقاط “الدبّ” عام 1990 ، لتصبح من ثم “القوة العظمى الوحيدة” Lonely super power . ثم بزغت شمس العام 2000 ، وقد حققت الإمبراطورية الأمريكية المتجدّدة ذاتها، فيما بدا، على مستوى الظاهرة وليس على مستوى “الوجود الموضوعي” على كل حال. وبمجرد أن حققت ذاتها على هذا النحو “الظواهري” –الفينومنولوجي باللفظ الفلسفي المستعار- فقد استبدت بها غواية “القوة العظمى الوحيدة” تلك، لتخوض الحرب تلو الحرب، والنزاع تلو النزاع، والصراع تلو الصراع.
وقد وجهت الإمبراطورية مواردها إلى الحرب بدلاً من البنية الأساسية في الداخل، وطورت أسلحة الدمار بدلاً من الطرق و المطارات ، وكرست التكنولوجيا للآلات ذاتية التحكم (الأوتوماتون) و “الذكاء الاصطناعي”، بدلاً من الرعاية الصحية والتحكم بالفيروسات واستكمال مشروع كلينتون الطموح (فك الشفرة الوراثية) أو (الجينوم البشري) ، ولتغدو الآلة و “الآلة الذكية” من ثم بديلا كاملا أو نصف كامل للإنسان كما ينبغي له أن يكون.
تلك غواية شيطان القوة، ذلك الشيطان الذى استسلم لخَدَر الغطرسة اللذيذ، وتخلى عن “القواعد الذهبية” لعملية صنع القرار القومي الأمريكي المجرب في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثالثة، و إن لم تكن في التطبيق نصيرة للإنسانية المعذبة في كل حال.
… و في الهزيع الأخير من الليل سقط شيطان الغطرسة صريعاً على أبواب “كابول”، ذات يوم من ذات شهر في ذات عام هو 2021 .
فماذا يخبئ الزمان للإمبراطور المتغطرس وشيطانه العابث؛ وماذا يخبئ للبشرية ، وخاصة لنا نحن (الغلابا) في “العالم الثالث القديم” ..؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى