مجتمع

هل يوجد لدى الطفل مستويان من الذكاء؟

 
محمد كشكار
أعتمد في مقالي هذا علي كتاب بالفرنسيّة عنوانه Vygotsky aujourd’hui نُشِرَ بباريس سنة 1985 تحت اشراف B. Schneuwly & J.P. Bronckar
عندما نحدّد “العمر الذهنيّ” (l âge mental) لدى الطفل بواسطة اختبارات الحاصل الذكائي (QI)، نتكلّم دائما على نوع واحد فقط من النمو وهو “النموّ الذهنيّ الفعليّ (الحالي)” لكن مثلما أثبتت التجارب، يعجز هذا الحاصل الذكائي عن الإحاطة الكاملة بحالة النموّ الذهني عند طفل في لحظة معيّنة.
لنفرض جدلا أن لدينا طفلين اجتازا اختبار الحاصل الذكائي وحدّدنا عمرهما الذهنيّ بسبع سنوات (لهما القدرة على حل المسائل المناسبة لأطفال في عمرهما). هل هذان الطفلان متساويين فعلا في النمو الذهني؟ لو حاولنا إخضاعهما لإختبارات أخرى, قد يظهر بينهما اختلاف مهمّ : قد يستطيع أحدهما وبسهولة حل اختبارات مناسبة لأطفال يكبرونه بعامين, أما الآخر فلا يحل إلا الاختبارات التي تفوق سنه بستّة أشهر. نستنتج إذن أنهما ليس متساويين في الذكاء خاصة إذا أخذنا في الاعتبار القدرة الكامنة والممكنة والمحتملة لدى الطفلين التي قد تظهر وتتجسّم لو وفّرنا لها وضعيّة إجتماعيّة تعلّميّة يحتكّ فيها الطفل مع الغير، مدرّسين وأقران.
نصل هنا إلى تعريف النوع الثاني, غير المعروف لدى غير أهل العلم, من النموّ الذهني والمسمّى “المنطقة الأقرب للنمو الذهني -“ZPD : Zone proximale de Développement mental . اكتشف هذا المفهوم عالم النفس والبيداغوجيا، السوفياتي الاشتراكي “فيﭬوتسكي” في أوائل القرن العشرين والذي يعرّفه في النقاط التالية:
– ما يقدر الطفل على إنجازه, بمساعدة المدرسين وبحضور أقرانه, يحدّد مستوى “منطقته الأقرب للنمو”.
– ما يقدر الطفل على إنجازه اليوم بمساعدة المدرّسين وبحضور أقرانه, يستطيع تحقيقه بمفرده غدا.
– يختلف مستوى حل المشاكل الذهنيّة الذي يصل اليه الطفل بمفرده عن مستوى حل المشاكل الذي يصل إليه مع أقرانه وتحت إشراف ومساعدة مدرّسيه.
– نستطيع تحديد حالة النموّ الذهنيّ عند الطفل بالاعتماد على المستوين المذكورين أعلاه : “النموّ الذهنيّ الفعليّ ( الحاليّ)” و”المنطقة الأقرب للنموّ الذهني”.
– لو تركنا الطفل المتخلّف ذهنيّا وحده دون رعاية تربويّة لما وصل إلى أيّ شكل من أشكال التفكير المجرّد.
– لو أخذنا مثلا طفلا سليما يعيش في عزلة مع والدين “صم- بكم”، سيبقى هذا الطفل أصم-أبكم رغم تمتّعه بالملكات البيولوجية للنطق والسمع ونتيجة لذلك لا تتطور في مخه الوظائف الذهنيّة العليا المرتبطة بالكلام واللغة.
– لو أخذنا في الاعتبار في التعليم مستوى “النموّ الذهنيّ الفعليّ (الحاليّ)” فقط لما اكتشف الطفل طاقاته الكامنة والممكنة مستقبلا.
– لو سَبَقنا نموّ الطفل المستقبليّ وقدّمنا له أنشطة أعلى من مستواه الحاليّ لكنها تقع في “المنطقة الأقرب للنموّ الذهني” يعني غير مستحيلة الإنجاز وبحضور أقرانه وتحت إشراف ومساعدة مدرّسين لتَحَسَّنَ مستواه.
– كل وظيفة ذهنيّة عالية تظهر مرّتين خلال نمو الطفل الذهني: أولا في شكل نشاط جماعيّ واجتماعيّ كوظيفة ذهنيّة مشتركة وهذا يقع في القسم و أثناء التطبيق, ثم على شكل ملكية فردية كوظيفة ذهنية داخلية وهذا يحصل بعد الدرس عند إدراك عملية الإدراك من قِبل المتعلم (La métacognition).
– نصل الي الإستنتاج التالي : من المفروض أن لا يتزامن التعليم الحديث مع النمو الذهني للطفل بل يسبقه و يُنشّطه ويوقظ فيه التطوّر التدريجيّ للنموّ الذهنيّ.
بعد هذا التقديم النظري المختصر والضروريّ, نحاول توظيف هذه النظريات لتحليل واقعنا التعليميّ التونسي:
– هل اطّلع مدرّسونا, ابتدائي وثانوي, على هذه النظريّات البيداغوجيّة “الخلاّقة بالمعنى الحرفيّ للكلمة” يعني تخلق الذّكاء (L’épigenèse cérébrale) والتي ترتكز عليها المدرسة البنائيّة لـ”بياجي” (Le constructivisme)، وهي الشعار المرفوع من قِبل وزارة التربية التونسية منذ إصلاح سنة 2002، لكنه بقي دون تطبيق حتى اليوم.
– لنفرض جدلاً أن مدرّسينا اطّلعوا عل هذه النظريّات البيداغوجيّة، ثم نسأل: هل الدولة أوجدت الأرضيّة والمناخ الملائم لتطبيقها؟ طبعا الجواب بالنفي والدليل الذي أستحضره الآن ويَقُظُّ مضجعي هو “الستة و الثلاثون تلميذا” الذين ينتظرونني يومين في الأسبوع في المعهد الّذي أدرّس فيه.
– لنحلم قليلا, لو اطّلع (أكاديميّا يعني في الجامعة) مدرّسونا في الابتدائي والثانوىّ والجامعيّ على البيداغوجيا والتعلميّة وعلم نفس الطفل والايبستومولوجيا وعلم التقييم (L’évaluation) وإدراك عملية الإدراك، ولو وفّرت لنا الوزارة قاعات واسعة لسبعة عشرة تلميذ في القسم كما يطبق الفرنسيّون، ولو جهّزت كل قاعات الدروس بالحواسيب وربطتها بالأنترنات، ولو ضُرِب أجرُنا في خمسة لَصَنَعَ التلميذ التونسي المعجزات كما فعل زميله الكوري الجنوبي حيث يُخَصَّصُ في بلاده أكبر ميزانيّة للتعليم الابتدائي, يأتي بعده الثانوي ثم العالي عكس ما هو معمولٌ به عندنا بالضبط: هَرَمُنا التعليمي هَرَمٌ مقلوبٌ على رأسه، وهَرَمُهم هَرَمٌ ثابتٌ على قاعدة عريضة وصلبة، نحن نبني على الرمال المتحرّكة، وهم يبنون على الاسمنت المسلح.
– نحن في تونس ما زلنا نعتبر التلميذ فأر تجارب, نرسم له مسبّقا متاهة ونعرف مسبقا من أين سيدخل ومن أين سيخرج، ولا نترك له حرّية التفكير والتفاعل مع الوضعيات التعلّميّة الجديدة ولا نلامس “منطقته الأقرب للنمو الذهني” (ZPD)، ولا نعطي له الفرصة للتعلّم الذاتيّ البنّاء لتفجير طاقاته الكامنة. ننقل شيئا فشيئا فشلنا وجهلنا ومحدودية تفكيرنا إلى مخّه الفتي المرن.
– عوض أن نوقظ فيه التطوّر التدريجيّ للنموّ الذهنيّ كما يقول فيﭬوتسكي, بالعكس يأتينا الطفل متعطّشًا للمعرفة – وبفضل أساليبنا البالية وجهلنا بالعلوم التربويّة والاجتماعية والنفسية الحديثة – يتراجع نموّه الذهني تحت مستوى “النمو الذهنيّ الفعليّ (الحاليّ)”، فيصبح ابن الست سنوات، عندنا، يحمل عمرا ذهنيا متخلفا سنتين عن عمره البيولوجي.
خلاصة القول: قال لي صديقي ” أنت تحلم” فقلت له: أنا واعٍ بأنني أحلم وأدرك حالة الحلم التي أمرّ بها. أحلم, لكنني واعٍ بأن حلمي مشروع وممكن التّحقيق لو توفّرت الظروف الملائمة، فالكوريّون الجنوبيّون ليسوا أفضل منا كبشر عندما أقلعوا نحو التقدم في عشرين سنة بالاعتماد أساسا على تحسين التعليم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى