تعاليقرأي

الليلة التي تسبق الإبحار

كاظم فنجان الحمامي

التقيته أول مرة على رصيف الكورنيش، كان يجلس على منصة خشبية متصلة بمرفأ بيت چوك مقابل حديقة الأمة. مرفأ قديم لإيواء الزوارق المخصصة لخدمة المرشدين القادمين والمغادرين اثناء اداءهم لنوبات الإرشاد في شط العرب، كان ينظر بشغف وشوق إلى السفن الاجنبية المتوقفة هناك في منتصف الممر الملاحي حيث تحلق النوارس المبتهجة برؤيتها. شغلتني نظراته إلى القوارب المتحركة والراسية، نظرات لها علاقة بعمله القديم في هذا المجرى النابض بالحيوية. كان يأتي إلى هنا كلما سنحت له الفرصة، لكن زياراته تكررت بعد إحالته إلى التقاعد، فيأتي ليبوح للسفن بمشاعره المكبوتة. ويستعرض معها خلاصة رحلاته في الهروب من ضيمِ البرِّ إلى وحشة البحر، أراه يستعيد ذكريات الطين والماء والجوع والخوف، ذاكرة تتأرجح بين أرضٍ تلفظه، وبحر بجذبه. .
قلت له: انت تذكرني بالشاعر الراحل (محمد الفايز) صاحب ديوان (مذكرات بحار). المذكرات التي لو لم يكتب سواها لكفاه ذلك فخراً، لأنها كانت ملحمة شعرية رائعة قدم فيها (الفايز) تفاصيل دقيقة عن حياة البحر والبحارة، وصوّر لنا أيام البحر والغوص والسفر. .
تبين لي ان المرشد البحري (العم ابو علي) يعرف الفايز عندما كان يقيم في البصرة، وربما كان من اصدقاءه المقربين، وقال لي انه تعرف قبل الفايز على الشاعر الكويتي المثير للجدل (فهد العسكر). .
سألته عن معاناته في سلك الإرشاد البحري، فقال لي: ليس لدي مشكلة في التعامل مع أكبر السفن من حيث الطول والحجم والغاطس، لكنني كنت أجد صعوبة في النوم في الليلة التي تسبق الإبحار، وذلك لأني ساتعامل مع سفينة لا اعرفها، ولم يسبق لي العمل عليها، ولا أعرف طاقمها وانتماءاتهم الأجنبية، فامضي ليلي كله في رسم خطة افتراضية للابحار بها من نقطة الانطلاق حتى محطة الوصول، أدرس في خطتي حالة المد والجزر، والظروف الجوية السائدة، والمرافئ التي سأمر عليها، والسفن الماخرة والعابرة، والتوقيتات الملائمة لاجتياز المنعطفات، والمناطق الحرجة، والمراسي المكتظة بالسفن، وآلية التعامل مع نظام الفنارات المتناثرة في منطقة المصب بين رأس البيشة ومدخل البحر في قناة الروكا، ولن تنتهي حساباتي حتى يباغتني النعاس، لاستيقظ في الوقت المناسب من أجل الاستعداد لرحلة الغد، وهكذا أمضيت حياتي كلها في توخي الحرص والدقة، حتى أصبحت من رواد الإرشاد بين ميناء المعقل وخور العمية. .
رحل العم ابو علي منذ سنوات لكنه ترك خلاصة خبراته في متناول الأجيال القادمة، وهم اليوم يمثلون عصارة مواهبه الملاحية، ويؤدون واجباتهم على الوجه الأكمل. .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى