ثقافة

إشكالية مفهوم الحداثة في ثقافتنا العربية

نبيل عودة

*الحداثة او ما بعد الحداثة هي ظاهرة انتشرت بالآداب الأوروبية والأجنبية. هي عملية تنوير

اجتماعي وثقافي وفكري لم تنشأ في مجتمعاتنا القاعدة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية لنشوئها*

اتهمت من كتاب يصنفون ضمن تيار النقد الادبي، باني فقدت البوصلة الثقافية، ولم اعد اجاري عصري، ومن هنا نقمتي على الشعر الحديث، وعلى كتاباتهم النقدية، وعلى بعض ما يصاغ من شعر، لأني، حسب تنظيرهم وفتاويهم الثقافية، لا افهم الحداثة في الادب والشعر خاصة، لأني متعصب لأسماء تربطني بها صداقات شخصية.

لم افهم في البداية، كعادتي، معنى هذا التلميح، الذي وصلني بعضه عبر الاثير، وبعضه بثرثرة شخصية نقلها لي زملاء اعزهم، قيل في ثرثرتهم التي شارك فيها أكثر من صوت واحد، لأدباء من اياهم، اني متعصب للقديم وارفض الحداثة، وليتهم شرحوا مفهومهم للحداثة لعلهم ينوروني.

تسترهم الشخصي اعتبره جبنا والجبن لا يليق بالمثقفين وحاملي لواء الأدب، أنا منفتح لكل انتفاد ورفض لآرائي، والنقد العقلاني الفكري لا يقلقني، وساءني اكثر اني لم اعط الفرصة لافهم تهمتي واقدم دفاعي … انما انتقل الحديث فورا لتهمة جديدة، او ربما ليست تهمة، بل جريمة ثقافية مثبتة، بأن مشكلتي اني لم استوعب الحداثة وتفاعلاتها في الادب الحديث، وكل ما نجحت في ايصاله للزميلين، الضميرين المستترين، بأن مفهومهما للحداثة عقيم، واذا كانت الحداثة تعني قطع التواصل بين القارئ والادب، فبئس مثل هذه الحداثة … ولن اصوت لها في الانتخابات!!

اعترف ان الزميلين تكلما باتزان وهدوء، ولكني استهجن هذا التستر رغم انهما معروفان، وهذا يسهل علي فهم ما يؤلمهما من كتاباتي …وفي الواقع لا فرق بين اسم وآخر، بين مبتدئ وعتيق، وليس مبتدأ وخبر، فعدا القلة من المبدعين يكاد يكون غياب كامل للأعمال الأدبية المثمرة على صفحات الجرائد … واعترف اني حين عملت نائبا لرئيس التحرير ومحررا ادبيا في صحيفة “الأهالي ” رفضت بقوة نشر اي عمل ادبي مما سماه الزميلان وراء الأثير بالحداثة الأدبية او الشعرية. والسبب بسيط، لا شيء يستحق النشر لأنه تكرار لمراحل لم تعد قائمة، خاصة في الشعر الوطني تقليدا لشعر المقاومة، والذي اعتبره مرحلة هامة جدا تاريخيا وسياسيا وثقافيا، ولا مجال لتكرارها، تلك مرحلة شهدت نضالا سياسيا وثقافيا شرسا، وكان للشعر دوره المهرجاني والتثويري في المهرجانات السياسية، واليوم ظروفنا تغيرت، واقعنا تغير، ثقافتنا تجاوزت الحصار الذي فرض علينا بعد نكبة شعبنا، وتأثير نضالنا وادبنا المقاوم وصل للعالم العربي وتكرار نفس الصيغ اليوم يبدو مهزلة وغباء ثقافي وفكري.

لا يمكن تكرار مراحل شعرية تجاوزناها بكل المفاهيم الفنية والسياسية والثقافية. نحن الان في مرحلة شعر حداثي (لكنها ليست حداثتهم العقيمة) وهو ما لم يستوعبه من انتقدوا انغلاقي عن شعرهم ونقدهم.

للمقارنة مقطعين لسالم جبران:

مقطع من قصيدة “بقاء” كنموذج لأدب المقاومة الذي عبرناه تاريخيا وثقافيا:

الأرض خناجر

تحت الأقدام الوحشيّة

والأرض مقابر للأحلام الهمجيّة

سأظلّ هنا

في بيت يبنى من أحجار

في كوخ مصنوع

من أغصان الأشجار

أو في إحدى مغر بلادي

يا جزّار!!

لو قال هذه القصيدة اليوم لما انتبه اليها احد!!

وتعالوا نقرأ قصيدة قصيرة جدا ليست من ادب المقاومة، رغم بساطتها تكشف عن جماليّة رائعة وحداثة شعرية:

كما تحبّ الأمّ طفلها المشوّه

أحبّها

حبيبتي بلادي

ولنأخذ مقاطع شعرية ليست من ادب المقاومة، بل من الشعر الحديث، للشاعر حسين مهنا:

” سأحمل حبك سرا صغيرا

يؤانس قلبي الحزين الكسيرا

فهل تقبلين،

بقلبي الكسير

يتوج بين يديك اميرا؟!”

من يستطيع ان يقول انها ليست شعرا حداثيا؟! وفي مقطع آخر يقول:

” تمرين او لا تمرين

قلبي تعود طول انتظارك

انت تعيدين للقلب

ما قد تناثر فوق دروب الحياة

ليصبح شكل الحياة جميل التفاصيل “

وفي قصيدة اخرى نقرأ هذا المقطع:

“وتمر يداي

على جيدك المرمري

فيزهر ورد وجنتيك

وينطق صمت

يفوق بيان الكلام

وسجع الحمام

وهمس المطر “

هذه مقاطع من قصائد لو طاوعت نفسي لنشرتها كاملة لأدلل على ما افهمه من الحداثة، وعلى ما لا يفهمون .. اقرأوا معي هذا التجلي لحسين مهنا:

“سألتك : لا تقتلي الشعر عمدا

بطول التمني

وبعد الرجاء

ولا تتركيني اسيرا لطيفك هذا المساء

وكل مساء

تعالي فما زال في القلب بعض اخضرار

سينزف وردا

يعيد الى الحب ما ضيعته الدروب

وللشعر قيثارة الحب والكبرياء “

هذا الشعر يحمل من الحداثة بمفهومها الأدبي أكثر من كل القصائد الغيبية لغة ومضمونا. والأهم انه لا يحتاج الى جهابذة النقد لتحليله، لأنه يتغلغل بجماله ورونقه في وعي القارئ واحاسيسه، ولا يحتاج الى مثقف عبقري (نابغة عصره) ليفهمه ويشرحه للقراء المساكين!!

اذا ما قيمة الشعر حين تصبح قراءته مثل سباق اجتياز الحواجز… ما ان نصل لنهاية القصيدة حتى تنقطع انفاسنا وتتورم سيقاننا؟!

اردت ان استعمل بعض “الجواهر” التي تقصفنا بها “الفانتومات الأدبية”، ولكني لا اقصد التشهير، واخاف ان تبدو مقارنتي بين شاعر حقيقي مثل حسين مهنا، وناظمين لا غبار على قدراتهم والمامهم بعالم الشعر،

لكنهم غارقون بأوهام تجاوزها ادبنا وواقعنا السياسي. لكني قررت ان لا اخوض بذلك حتى لا اتهم باني امارس التشهير. وقد واجهت ذلك مع شاعر اكتشف موهبته بعد التقاعد من التعليم، فقصفنا بشعر “ثوري مقاوم” (أي صمت دهرا خوفا على وظيفته، ونطق كفرا بعد ان أمن التقاعد. غائبا عن حقيقة هامة ان الشعر الذي يكتبه هي مرحلة عبرناه ثقافيا وتاريخيا وسياسيا. شرحي لم يقبل من سعادته، علق بمقال وذكر موقفي رغم اني تجاهلت اسمه احتراما له، فلم أرد على انتقاده “لتحجري الثقافي والشعري” واهملت حواره لني لم اجد أي فائدة ترجى من الحوار للقارئ.

في التلخيص النهائي اقول ما يلي: الحداثة او حداثة ما بعد الحداثة هي ظاهرة انتشرت بالآداب الأوروبية والأجنبية. الحداثة اولا عملية تنوير اجتماعي وثقافي وفكري لم تنشأ في مجتمعاتنا القاعدة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية لنشوئها. مجتمعاتنا، وكل المجتمعات العربية عامة، ما زالت على ضفاف الحداثة، وعدا بعض المثقفين (خاصة ادباء المهجر) … وقليل من الأدباء المبدعين، ما زلنا اجتماعيا وفكريا نعيش في مجتمعات تحت سيطرة او تأثير وتحكم الفكر الاصولي المتطرف. وحتى على المستوى السياسي تتحكم بمجتمعاتنا قوى تفتقد للتوازن السياسي والفكري والثقافي.

السيطرة للأسف ليست لحركة الإصلاح والتنوير العربية، انما للقوى الظلامية. ما زلنا نبحث ونتعارك حول السماح للمرأة بقيادة السيارة … وحول اجازة الاعمال الأدبية، وحول السماح بتعليم نظريات علمية تنسف الغيبية الدينية، وحول اصلاح التعليم وتحرير عقل الطالب من اسلوب التلقين والايمان الاعمى بلا وعي، وما زلنا في ادنى مستويات الفقر، ومجتمعاتنا تعاني من انتشار هائل للأمية واذا اعتمدنا قول الشاعر المصري عبد المعطي حجازي ، بان من لا يعرف استعمال الحاسوب هو امي ، فستقفز الأمية الى اكثر من%80 واذا حددنا ان الامي ايضا من لا يعرف التعامل مع الاوراق الرسمية، فالوضع سيكون مأساويا… ونتحدث عن الحداثة … وما بعد الحداثة ؟! ونملأ صحافتنا شعرا لا شعر فيه ونقدا لا نقد فيه… هذا ليس دليل الحداثة انما دليل انفصام ثقافي مع مجتمعنا، بدل ان نوقفه نزيده اتساعا ب ” العبقريات الفريدة ” التي تطغى على النشر. ان ثقافة الحداثة أعزائي الادباء لا تجيء ببضع خربشات شعرية او نثرية او نقدية، انما هي معركة تنوير ما زلنا على ضفافها … استغرقت اوروبا مئات السنين من الصراع مع الاصولية المسيحية للقرون الوسطى، ومع ذلك ما زال الغرب يعاني من ازمة معنى الحياة ومعنى الوجود، مما يعني ان التطور الاقتصادي والأكل والمشرب والمتع الجسدية، ليسوا كل شيء، وهي مشكلة تختلف مع مشكلة الانسان العربي الذي ما زال يبحث عن اشباع جوعه اولا.

ان المحاولة للتقدم دون فهم اهمية عصر التنوير الذي حرر الانسان من التخلف الاجتماعي والعلمي والقوى الظلامية، ووضع مستقبله بين يديه، وغير اولويات حياته، وحرره من القيود على تطوير الفكر والعلوم والاقتصاد والثقافة وضاعف اوقات راحته وقدراته الاستهلاكية بمختلف انواعها، هي محاولة عقيمة ومحكومة بالفشل.

اذن مفاهيم الحداثة ليست مميزا للأدب فقط، وهي لم تولد للأدب، بل بجوهرها ثورة اجتماعية فكرية فلسفية واقتصادية نقلت الانسان من عصر بدائي تميز بالقمع السياسي والديني، الى عصر حديث متنور منفتح ديموقراطي. وهذا ما يجب ان نستوعبه قبل كل شيء!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى