صحة و جمالمجتمع

دقة تشخيص المرض النفسي

بوياسمين خولى
كاتب وباحث متفرغ


أظهرت الدراسات المعنية بمدى دقة التشخيص الإكلينيكي في الطب النفسي “الفرويدي”، أن الأطباء الذين يفحصون المريض نفسه يتوافقون فقط بنسبة 30 في المائة في كل مرة.

كما أن مهنة الطب النفسي فقدت مصداقيتها إلى حد بعيد إثر سلسلة من الفضائح الإعلامية التي كشفت عن الظروف المروعة للعديد من مشافي الصحة النفسية والإساءة الممنهجة للمرضى المحتجزين فيها.

في الوقت ذاته أثبتت العقاقير التي أنتجتها شركات الأدوية في الخمسينات والستينات أنها أكثر فعالية في علاج الأشخاص الذي يعانون الفصام واضطراب ثنائي القطب والاكتئاب؛ والتي بدت أقرب إلى اضطرابات متعددة، كلها ذات أساس وراثي وثيق للغاية، ولا صلة للأمر بالأمومة “السامة” أو “الطاقة النفسية”. لقد استهدفت الأدوية الجديدة النواقل العصبية (وهي موصلات كيميائية دقيقة بين خلايا الدماغ)، وتعمل تلك الأدوية من خلال تنظيم كمية ناقل عصبي معين في الدماغ، وهو ما يشير إلى تفسير بيولوجي في فهم المرض النفسي؛ ومن الواضح أن هذه الاضطرابات نشأت عن خلل في توازن النواقل الكيميائية، وهو ما تعالجه الأدوية. وقادت العقاقير الجديدة إلى فئات تشخيصية جديدة. فالاكتئاب الذي كان ينظر إليه سابقاً كعرض لمرض نفسي آخر، لم يلبث أن أعيد وصفه كمرض نفسي مستقل في حد ذاته، وغدا على نحو مفاجئ مرضا واسع الانتشار جداً كشيوع نزلات البرد!، ويمكن علاجه بفئة من العقاقير.

كان احتجاز مرضى الصحة النفسية على نطاق واسع كارثة صحية عامة، وكان باهض الثمن؛ إذا ما قورن بمضادات الذهان الجديدة ومثبتات المزاج التي كانت فعالة وآمنة إلى حد بعيد -أو هكذا أكدت الشركات المصنعة – فأقنع مسؤولو الصحة العامة أنفسهم أن إغلاق المشافي وإعادة المرضى النفسيين الى المجتمع هو الأفضل للجميع. لقد كان حلاً ناجعاً لأولئك الذين انتفعوا جيداً بالأدوية الجديدة، أو لأولئك الذين لهم عائلات يعودون إليها، أو لأولئك الذين يمكنهم التعامل مع مرضهم بأنفسهم. أما العديد من أولئك الذي لم يحظوا بأي من هذا فقد انتهى بهم الأمر في نظام السجون الذي سرعان ما أصبح النظام الفعلي الجديد للصحة النفسية.

واليوم ليس هناك إجماع حول نموذج جديد يمكن أن يحلّ محل النموذج السابق، باستثناء اتفاق عام على أن معظم الأمراض النفسية محتمل أنها نتاج مجموعة معقدة للغاية من العامل الجيني والكيمياء الحيوية والبيئة، والتي تتفاعل فيما بينها في حلقة تغذية راجعة تعزّز بعضها البعض.
في عام 2006، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” فضيحة شركة (Eli Lilly) واستراتيجيتها التسويقية للدواء الذي طورته، ويُـدعى “زيبركسا” – (Zyprexa)- فقد تم انتاج هذا الدواء لعلاج الفصام، لكن لا يمكن أن تصبح ثرياً من خلال علاج مرضى الفصام، إذ لا يوجد ما يكفي من الفصاميين لذلك!- وقد كانت براءة اختراع هذه الشركة لدواء بروزاك (Prozac) على وشك الانتهاء، فعقدت مؤامرتها لتسويق الدواء الجديد بين الأطباء النفسيين وأطباء الرعاية الأولية على أنه علاج للاكتئاب والخرف والأرق وتقلب المزاج والتهيّج ، بينما أخفت في ذات الوقت تجاربها الإكلينيكية التي تشير إلى ارتباط الدواء بالسُـمنة وارتفاع سكر الدم ومرض السكري.

أعقب ذلك موجة من فضائح شركات الأدوية، التي ضبطت وهي تستعين بشركات التسويق لتلفيق مجموعات من المعنيين بدعم المرضى لزيادة الوعي بمشكلات نفسية لم تكن موجودة أصلا قبل أن تبتكر الشركة أدويتها، ثم مارست ضغطاً على الأطباء النفسيين للبدء بالتشخيص بتلك المشكلات المختلقة.

خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ، فإن شركات الأدوية الكبرى -والتي لا تزال تترنح إثر تلك الفضائح والدعاوى القضائية الجماعية الواسعة- قد تراجعت عن الدخول في الأبحاث واسعة النطاق للصحة النفسية. وحتى الآن لا توجد أي مؤشرات حيوية ولا تشخيصات موضوعية للأمراض النفسية. والربح الأكبر الآن، هو حيث يوجد مرض السرطان.

تقر “هارينغتون”، أن ما يجري اليوم بين مرضى الصحة النفسية والأطباء هو مجرد “لعبة”، يتقدم المريض فيشكوا لطبيبه ضيقاً نفسياً أو انفعالياً شديداً، فيبحث الطبيب في التشخيصات ضمن التصنيفات المتوفرة مما قد يكون له معنى، ثم يصف له دواء؛ هذا هو المتاح لديهم اليوم. وقد تكون الأدوية فاعلة أحيانا، وبالنظر إلى التأثير الوهمي للدواء- placebo effect (10)- في علاجات الصحة النفسية، فإنه حتى لو لم يكن الدواء فعالاً حقيقة، فغالبا ما يشفي الناس على كل حال.


(10) – “تأثير الدواء الوهمي”، وهو تأثير مفيد ناتج عن دواء أو علاج وهمي ، والذي لا يمكن أن يُعزى إلى خصائص الدواء الوهمي نفسه ، وبالتالي يجب أن يكون راجعاً إلى إيمان المريض بهذا العلاج. إلا أن الأطباء يرفضون النتائج الإيجابية لتأثير “الدواء الوهمي”.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى