في الواجهة

الطبقة القائدة واستقرار الدول

أحمد فاروق عباس

الطبقة القائدة هى حافظة التقاليد واستقرار المجتمعات ، فالطبقات الارستقراطية قديماً والطبقة الوسطى حالياً تعمل دائما على حفظ توازن الدول ..
إن الارستقراطية في بريطانيا هى حافظة التقاليد الانجليزية العريقة ، فهى من خلقت البرلمان وبنت الجامعات العظيمة في بريطانيا ..
كما أن الارستقراطية والعائلات الكبري في الولايات المتحدة وخاصة فى الساحل الشرقي هى من تعطى الصيغة الأمريكية فى السياسة وفى الاقتصاد حيويتها وشبابها المتجدد في أعين العالم ، بغض النظر عن التسويق السياسي الذى يقول غير ذلك ..
تعرض وجود طبقة قائدة لهجوم اليسار دائماً ، وكان فى جزء من هجومه بعض الصواب ، فإلى جانب ما قدمته تلك الطبقات من إيجابيات ، لا ينسى لها أحد أنها هى من نهبت أغلب الفائض الاقتصادى – على الأقل فى مراحلها الأولى – فى دولها ، وتركت لباقى الشعب الفتات ..
حدث ذلك عندنا وعند غيرنا ..
ولكن عند غيرنا تهذبت الثروة إلى حد ما ، وارتقت بعض الشئ – على الأقل فى بعض مكوناتها – مع انتقالها عبر الأجيال ، فقد اهتمت بالعلم وبالفنون والمسرح والغناء والاوبرا والرواية ، ورعت أرباب هذه الفنون ..

فالأمر ليس قاصراً على السياسة و الاقتصاد أو التقاليد ، حيث مع الارتقاء الاقتصادى لهذه الطبقات – فى أنشطة منتجة وليست طفيلية – ووجود طبقات أخرى إلى جانبها يمكن اللجوء إلى صيغة من الديموقراطية تضمن السلم الأهلي بدلا من الحرب الأهلية ، ولكن يتعداه إلى مجالات الفنون بأنواعها كالغناء والموسيقى والفيلم والمسرح والرواية ..
فمن المعروف أن أصحاب الفنون ينتجون فنونهم طبقاً للمزاج السائد ، والمستوى المعرفى للطبقة القائدة ، ففى يديها مراتب الصعود للمبدعين ، ومن جيوبها سينفق على أنواع الفنون المختلفة المقدمة لها ..

وكلما ارتفع مستوى الطبقة القائدة فى المجتمع ارتفع معها مستوى ما يقدم لها من فنون ، وكلما انحط مستوى الطبقة القائدة انحط معها المستوى العام للحياة ، بما فيها الأخلاق والتقاليد والفنون ..

ومن المعروف أن مصر شهدت تغيرات دراماتيكية فى مستوى ونوعية الطبقة القائدة فى المجتمع ، نقلت معها الحياة في مصر من النقيض إلى النقيض !!
فقد كانت الطبقة القائدة فى المجتمع المصري قبل ١٩٥٢ خليط من المتمصرين من الشوام والأتراك وشعوب البحر المتوسط الأوربية بالإضافة إلى كبار مالكى الأرض الزراعية من المصريين ، وكانت أغلب الأنشطة الاقتصادية في تلك الحقب قائمة على التجارة وعلى زراعة القطن وبيعه عبر سلاسل لا تنتهى من الوسطاء ، وكانت الصناعة مازلت فى مرحلة جنينية .
كانت تلك الصيغة متسقة مع زمانها ، ومع طول بقاء الثروة فى أيدى تلك الطبقة أنتجت مستوى معقولاً من التقاليد ومن الفنون ، وإن لم تستطع الارتقاء إلى صيغة أفضل من الديموقراطية ، لوجود الإحتلال الانجليزى من ناحية ، وعدم وصول البناء الاقتصادى إلى مرحلة تداول السلطة بين طبقات متقاربة في القوة والنفوذ ..

ومع مجئ ثورة ١٩٥٢ ، تم تصفية الطبقة القائدة القديمة بتصفية الأساس الاقتصادى الذى تقوم عليه ، وارتقاء طبقة أخرى استدعتها الظروف الجديدة من بناء المجتمع والدولة فى مصر ، صعدت طبقات من التكنوقراط العسكريين والمدنيين ، وعرفت مصر تصدر المهندسين والمديرين وكبار موظفى الجهاز الإدارى للدولة للحياة العامة في مصر ..

ومع زيادة رقعة القطاع الصناعى والزراعى المصرى توسعت تلك الفئات فى العدد وفى النفوذ ، وكان صعودها متسقا إلى حد كبير مع ظروف البناء الاقتصادى والانتاجى المصرى ،
ولم تصعد مصر إلى درجة أعلى من البناء السياسى وتداول السلطة فى ذلك الزمن ، لإن أي درجة من الديموقراطية يستلزم قبل أى شئ وجود طبقات انتاجية متمايزة تمتلك أدوات الإنتاج الرئيسية في البلد ، ما يستدعى تنظيم تنافسها من خلال مستوى ما من تداول السلطة ..
كانت وسائل الإنتاج كلها في يد الدولة فى ذلك الوقت ، وبالتالى لم يكن شرط وجود الديموقراطية على النمط الغربى متوفراً ..
وبقى مستوى الحياة العامة والفنون فى درجة معقولة من الرقى ، تشهد عليه الأغنية والفيلم والرواية والمسرحية .. إلخ

ومع مجئ عصر الانفتاح الاقتصادي عام ١٩٧٤ صعدت إلى سلم الحياة العامة في مصر طبقات طفيلية ، لم يكن وجودها قائم على أساس اقتصادى أو إنتاجي سليم ، فلم تصعد نتيجة جهد انتاجي زراعى أو صناعى ..
بل شهدت مصر عصور غريبة ارتقت فيها إلى صدارة المشهد فئات أغرب ..
وعرفت مصر عصر المهربين لكل شئ ، بداية من تهريب الملابس والسلع المختلفة إلى تهريب المخدرات !!
ثم شهدت عصر الاقتصاد غير الرسمى ، المشروع منه ( ككل الأنشطة غير المرخصة ، ومصانع بير السلم كما تسمى ، إلى بائعى الأرصفة فى كل عموم مصر) وغير المشروع ، كغسيل الأموال وشبكات الاتجار بالبشر وشبكات البغاء .. إلخ
ثم شهدت مصر عصر المضاربين على اسعار العملات أو اسعار السلع أو أسعار الأراضى ..
وكلها أنشطة غير منتجة ، لا تحقق فائض أو تراكم ، ولا تصنع تنمية أو تقدماً ..
وقد صعد أصحاب هذه الأنشطة إلى قمة الحياة العامة في مصر ، وجاءوا معهم بتقاليدهم وأخلاقهم وفنونهم ، ونظرتهم إلى الحياة عموما ، وطبعوا مصر بطابعهم فى كل المجالات ، بدءا من سفه الإنفاق ، إلى المظهرية فى التعامل ، فى المعاملات أو حتى فى الدين !!
ومن الغريب أن ذلك العصر ارتبط بنشوء ظاهرتين تبدوان متعارضتين فى الظاهر ؛ إلا أن التوافق بينها كبير فى العمق ، وهو صعود وتنامى التدين على طريقة التنظيمات الدينية التى صعدت فى تلك الفترة ، وتدنى مستوى الفنون كلها فى نفس الحقبة ، كلاهما مظهر لما يطلق عليه ” العصر الأمريكى ” فى مصر

ربما سيكون الجيل الثانى أو الثالث من تلك الفئات أعلى مستوى من الجيل الأول الذى عارك الحياة ، ولم يكن لديه فرصة للتعلم أو الارتقاء إلى مستوى أعلى من الإنتاج أو حتى من السلوك .
ربما يحتاج الأمر إلى عدة أجيال تستقر فيها الثروة وتقاليدها ، وتنتج مستوى أكثر نضجاً من الفنون ، ومستوى أكثر رقياً فى العادات والأخلاق ..

وهو نفس المسار الذى سارت فيه أمريكا مثلا ، فلم تكن شخصيات مثل كارنيجى ومرجان وفاندربلت وغيرهم من كبار أثرياء أمريكا فى القرن ١٩ سوى نصابين وقتلة ومجرمين بالمعنى الحرفى للكلمة ، ويسمونهم في أمريكا ” البارونات اللصوص ” ومع تقلب ثرواتهم من جيل إلى جيل تهذبت الطباع وارتقت التقاليد ..

فمادام العصر هو عصر اضمحلال الأفكار الاشتراكية ، وغلبة الرأسمالية واقتصاد السوق ، فهل لنا أن نطمع – على الأقل – أن تتهذب الثروة ، وأن ترتفع من مجرد جمع الأموال وتكديسها إلى شئ أكثر بقاء وأكثر تحضراً ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى