رأي

في مذكرات اللجوء والحرب

اسماء شلاش (الجزء الأول من الحكاية)

كيفَ يمكنُ أن تُشفى من ذاكرة حربٍ عندما يقولون لكَ بأنها ستنتهي قريباً ويتصافح القادة كما قال الشاعر محمود درويش؟

تصافَحُوا ملياً لكنَّ الحربَ لم تنتهِ..

في كلّ يومٍ تنالُ منا.. تأخذُ منا..

تأكلُ من أعمارنا.. تشاركنا غنائم الفرح الصَّغير..

تفترسُ أجسادنا وتدفننا بعيداً عمَّن سيأتون يوماً ليتعرفوا على شاهدة القبر.

تسرقُ فرحنا المهزوم، وتغرس مخالبها في أرواحنا..

تلتقطُنا من حزنٍ متغيّر إلى حزنٍ ثابت. ترصدُ خطانا على بقايا الجوع والخراب والتمزُّق والحرمان، وتصير كلُّ خيمةٍ كألفِ خيمةٍ، وتزدادُ الخيام ولا نعود..

تزداد الجراحُ ولانعود..

وتزدادُ أعدادنا ولانعود..

فمتى عسانا نعود؟! فقد انتظرنا كثيراً كثيراً..

تأخذُنا إليها، آهٍ كم تأخذنا إليها..!!

تتسرَّب كالسُّم المميتِ في عروقنا، سمٌّ يعذبنا ولا يقتلنا.

تعلّقُ لنا حبالَ المشانقِ في ساعة ودقيقة وثانية على الطّرقات، تحضّر الموتُ لنا مثل تحضير مائدة الطعام.. فيصيرُ الموتُ هو زادها اليومي، وحكايتُنا اليوميّة.

وتقول لنا أنا أنتظرُكم حتى هناك..

يا إلهي! مذْ كنتُ صغيرةً، كنتُ أكتبُ عن فلسطينَ وجراحِها قصائد، كتبتُ وكتبتُ حتى تفوقت جراحي على جراح فلسطين..وكيف لا أكتب وأنا سليلة أعظم الرجال، فالمرأة التي تكون من أصلٍ نبيلٍ لا تكتبُ إلا كلَّ نبيلٍ…

لكن هل سمعتَ بالحرب وقرأتَ عنها، فالكلُّ يسمع، والكلُّ يقرأ..

ولستَ بحاجة أن تقرأَ وأنتَ الذي خبرْتَ كرّها وفرّها وتفاصيل انتظار نهايتها التي لم تأتِ.. ربَّما قد أضلَّت الطَّريق إلينا..

كيف تُشفَى وأنت الملَّوعُ بتفاصيل الذَّكريات عن الوطن؟

كيف تتحدَّثُ للآخرين وأنت الغارقُ في ذرّات الحنين؟

وهل الشّفاء من الحروب عمليةٌ سهلة؟

دعونا نسألُ برلين –مثلا-..!

مدينةٌ حتى آخر لحظهٍ كانتْ هادئةً، ثم انقلبتْ إلى ركامٍ، ثم استحال الركام حياةً.

قرأتُ اللحظاتِ الأخيرة ل”هتلر” في ذلك المخبأ السّري.

مخبأ كان على بعد أمتارٍ من قوّات الحلفاء الذين دخلوا برلين..

وقرأت أيضاً أن الجيوش السوفياتية والفرنسية قامتْ بأكبر عملية اغتصاب في التاريخ، عندما اغتصبوا أكثر من مليوني امرأة المانية.

الغريب في الأمر أن الألمان لايتحدثون كثيراً في هذا الموضوع، لأنهم يخجلون منه رغم أنّه ليس قراراً بل قدراً. والأغربُ أنَّ روسيا هي الآن أكبر حليف اقتصادي لألمانيا، بل هناك خط غاز يربط مباشرة بينهما ينتهي في بحر الشمال الألماني.

أجبرتهم المصالح ألا يذكروا أو يتذكروا أفعال الجنود الروس بحق ملايين الألمانيات. لكنَّها صارتْ أيقونة الخروج من الأزّماتِ إلى النّور.. معجزةٌ نهضتْ لكنها لم تنس..

من قال أن الحروب قابلةٌ للنّسيان؟

مدينةٌ لم تنسَ الحطام، فليس من السَّهل نسيانُ الحطام..

فهل تنسى جراحاً أعطتكَ النُّهوض من جديد؟

أم تنسى جراحاً كسرتكَ..؟ فالجراح لها أثرٌ لا تمحوه فكرةُ تقادمِ الزَّمن..

لا شيءَ يمحوه.. لأنَّ آثاره في كلّ زاوية.. في كلّ ركنٍ..

في كلّ لمحة أو لحظة..

لكنّه يصبحُ الأمل عندما يكون سبباً لنهوضك، فالرُّكام أحياناً يكون بداية لبداية جديدة..

في كلّ شارعٍ تجد أثراً تركَه جدارُ برلين، الكلُّ يتحدثُ عن الحرب التي لم ينسها أحد.

فرغم مرور ٢٩ عاماً على سقوط الجدار، وانتهاء الحربِ وكلّ ذلك الدمار إلا أنَّ فكرة النَّسيان غير واردة حتى في الصَّمت تجدها.

الألمان لم ينسوا، لقد صنعوا للحرب متاحف في عقولهم، صنعوا لها متاحفَ في كلّ مكانٍ من الأمة الألمانية التي عندما تنظر الآن إلى جمالها تقول في نفسك، كأنها لم تخرج من حربٍ وجحيم، بل خرجتْ من الجنة.

وفي برلين حيث حدثتِ القصةُ الكاملةُ التي لازالتِ الأجيالُ تتداولها لم يسقط الجدار من ذاكرة المدينة ، ذلك الجدار سيبقى أسير ذاكرة المدينة التي لن تستطيعَ التَّخلُّص من أثره أبداً.

حوارٌ صامتٌ بين الحرب وذاكرتها لا ينتهي عادة في بحر النّسيان، فالنّسيان هو مكابرةٌ فاشلة..

برلين التي احتضنتْ السَّاعات الأخيرة لبطلِ القصةِ كُّلها ” أدولف هتلر” تلك السّاعات التي حسمتْ المعركة لصالح الحلفاء، وانتهت بانهيار النظام النازي، وغيرتْ وجه العالم السَّياسي إلى الأبد.

منع الألمانُ زمناً كتاب “كفاحي” لهتلر لأنَّهم كانوا يخافون أن يعود زمنُ هتلر، لشدة تلك” الفوبيا” التي تركتها الحرب في نفوسهم..

لشدة تلك العقدة فقدوا الثقة بأنفسهم فيما لو قرأوا الكتاب، فعاد زمنُ هتلر.

كنتُ أسأل نفسي أين أنا من تلك المكابرة الفاشلة على الجرح..؟

مدنٌ بأكملها خرجتْ منتصرة من حرب..

برلين وهيروشيما وناغازاكي وحتى روما التي حرقها نيرون.

فلماذا أنا أقفُ على شفا جرحٍ وأكابر على نسيانه؟

سنين وأنا خارج الوطن الجريح، ولا أملك إلا صفة اللاجئة التي لاتملك سوى قلمها لتحارب به، وهي لا تعلم متى تعود وإلى أين ستعود..

قرأتُ مئاتِ الكتب والدّراسات والمقالات عن الحروب وتاريخها، وحتى اللحظة لازلتُ أحاربُ نفسي كي تعودَ من حنينها، إنّي أعاقبُها أحياناً بأن أكون حازمة معها لكنّي أفشلُ فشلاً ذريعاً فأجد نفسي بين ذراع حزنٍ، فالقوة التي أتظاهر بها قد سقطتْ أمام مقولة ، لا شيءَ يشبهُ الوطن..

فلا شيء يشبه الوطن.. حتى يكاد يكون الوطنُ هو الآخرُ فينا..

هو مرآتُنا هو وجودُنا..

فمتى يعودُ ومتى نعودُ؟

أسماء شلاش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى