فن رياضة النفوس
كنت كالمسروق ، تتجاذبني التيارات ، تحملني في ضفافها ، تدفعني بين
أطرافها ، أطلب الخلاص و النجاة .
و بينما أنا على الحال الذي لا يسر ، أحدث نفسي حديث المكلوم ، أبحث
عن شيء يخلص نفسي من الأوجاع و الألم ، أحسست كأن شيئا بداخلي ، يبرق
إلي بهمسات رقيقة ، يرسل شارات مفهومة ، أصغيت لندائه أطرق السمع ،
أقبلت بجوامع نفسي ، أصغي إليه بانتباه .
كان همس حديثه يعالج أوجاع مرض داخلي، يعالج حالة قلق مجهول
الأسباب ، يعالج ضعفا يلبس الجسم ثياب الحزن ، يعالج حزنا يسكن بداخلي
على ترفي و بسطة حياتي ، كانت كل كلمة من حديثه تسكن ألما و تمحو جرحا
غائرا .
كانت أول كلماته كشهد العسل، أن النفس مفتاح صلاحها الإيمان العميق
الذي يزكي النفس و يحصنها ، هو الأساس صحيح الذي يرفع به بنيان البيت .
يقول الصحابي الجليل جندب بن عبد الله : ” كُنَّا معَ النَّبِيِّ – صلَّى اللَّهُ عليهِ
وعلى آلِهِ وسلَّمَ – ونحنُ فتيانٌ حَزاوِرَةٌ ، فتعلَّمنا الإيمانَ قبلَ أن نتعَلَّمَ القرآنَ ثمَّ
تعلَّمنا القرآنَ فازدَدنا بِه إيمانًا ” .
الراوي : جندب بن عبدالله | المحدث : الوادعي | المصدر : الصحيح المسند
الصفحة أو الرقم: 285 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
أورَدَ الحاكمُ مِن رِوايةِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ خبرًا يُوضِّحُ هذه المعاني، فيقولُ: “لقد
عِشْنا بُرهةً مِن دَهْرِنا، وإنَّ أحدَنا يُؤْتَى الإيمانَ قبلَ القُرآنِ، وتنزِلُ السُّورةُ على
محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيتَعلَّمُ حلالَها وحَرامَها، وما ينْبَغي أنْ يُوقَفَ عندَه
فيها كما تَعلَّمونَ أنتم القُرآنَ”، ثمَّ قال: “لقد رأيْتُ رِجالًا يُؤْتَى أحدُهم القُرآنَ، فيقرَأُ
ما بين فاتحتِه إلى خاتمتِه ما يَدري ما أمْرُه ولا زاجِرُه، ولا ما ينْبَغي أنْ يُوقَفَ
عنده منه، ينثُرُه نثْرَ الدَّقَلِ”، وهو الرَّديءُ مِن التَّمرِ وما لا فائدةَ فيه.
في الحديث وقفة تربوية هامة ؛ أن الأخذ بمبدأ الأولوية في التربية ،
الإيمان أولا ، ثم التدريب العملي ثانيا قبل الحفظ الخاوي المفرغ ، فميدان
التربية التكوين الفعال الذي يجسد حقيقة الإيمان ، الإيمان الذي يرتبط بحقائق
الحياة ، فيكون ثمرة آثاره العمل الصالح .
ثم أردف قائلا : كما لصلاح التنشئة في الصغر أثرها البالغ ، فتربية
الصغر تبني الفرد الصالح الذي يكون لبنة في الصرح ، تجعل من الفرد مشاركا
في مسارات الحياة نفعا و دفعا ، التربية هي التي تمنح الفرد القوة و العزيمة
لكسر عوامل الجمود و الركود ؛ بل تمكن الفرد من المساهمة في التغيير
الإيجابي ، و دلائل تلك التربية في الواقع كثيرة .
و مازالت همسات ذلك الصدى الموحي تشدني لوصاياه القيمة ، تأخذ
بجوامع قلبي لتنمية جوانب الشخصية المؤثرة و الفاعلة ؛ التي تصاغ بالمجاهدة
حتى يكون الفرد جامعا صفات التميز ، ليكون : ” قوي الجسم ، متين الخلق ،
مثقف الفكر ، قادرا على الكسب ، سليما في عقيدته ، مجتهدا في عبادته ، مجاهدا
لنفسه ، حريصا على وقته ، منظما في شؤونه ، نافعا لغيره ” تلك المراتب التي
لا يختلف عليها اثنان ، تصنع العجب في كل فرد تأسى بمعانيها و نهل من نبع
شربها الصافي .
الأستاذ حشاني زغيدي