سياحة و سفرمجتمعمنوعاتمنوعات

أجواء إسطنبول متقلبة

محمد رياض اسماعيل
باحث

اليوم 25 تموز 2022، أجواء إسطنبول متقلبة، تارة تجدها حارة وأخرى تجدها باردة! اجلس على كرسي وفير الوسائد، وانظر الى محطة المترو المجاورة لبحيرة المرمرة كعادتي، اتأمل الناس، اتأمل الوجود وروعته. انتظر صوت سقوط الامطار بحسب التقارير الجوية. والحياة تستمر ان شئنا ام ابينا وسيتساقط المطر من السماء مرات ومرات، ويتوارث الاخرين هذا الشعور بعد رحيلي..
اشرت في كتاباتي السابقة، الى ان معين الوعي الاجتماعي العام يتغذى من المفاهيم والقيم الاجتماعية السائدة، وهذه الأخيرة تتغير مع تطور الانسان عبر مسيرة 3,5 مليون سنة من الزمن.. فتاتي الأجيال تباعا وتستمد اخلاقها من هذا المعين الذي يتغير عبر الزمن كما قلنا.
كان في زمننا الماضي القريب معيار العيب أحد الوسائل لحماية القيم الاجتماعية الاساسية، ومن المحرمات القيام بعمل معيب، وكان التشريع الاجتماعي هو المصدر المباشر للالتزام بتلك القيم. وكان معين الوعي الاجتماعي السائد، الذي ينهل قيمه من المجتمع بدءا من العائلة فالمدرسة فالمؤسسات الحكومية والدينية، ملئى بالحالات التي توفر، وفق تلك القيم، غطاء الحماية الاجتماعية وتفرضها على المجتمع من خلال تحول القيمة الاجتماعية الى تصرف ثم الى عادة ثم سلوكا اجتماعيا عاما. ثم تتكفل السلطة التشريعية بإصدار القوانين المناسبة للتنفيذ التي تصبح فيما بعد مصدرا مباشرا للالتزام. وتراعي الحكومات تلك القوانين والتشريعات الاجتماعية طوال مدة النفاذ. وكانت التشريعات تطال جوانب الحياة كافة، وتواكب متطلباتها ومستجدات العصر. ان اي اخفاق تشريعي في جانب من جوانب الحياة المعاصرة والمستجدة، تصب بسلبياته على التكوين الاجتماعي، وتولد الامراض الاجتماعية التي لا تقل خطورة عن الأوبئة والامراض البدنية، وهذا ما نلمسه اليوم في مجتمعنا من تخبط وانحلال، في ضل غياب التشريعات، ونضوب المعين الاجتماعي للمنظومة الأخلاقية (لأسباب كثيرة لا مجال لسردها في هذا المقال) الذي يفترض ان يرسي القيم التي تحمي المجتمع من الانحدار الخطير نحو الجرائم والعبث.
أورد بعض الأمثلة عن معايير العيب والمحرمات، بغض النظر عن صحتها او خطأها، امثلة من منتصف القرن الماضي، فالتحرش على النساء كان عيبا، وتتعدد صنوف التحرش من إطالة النظر نحو المرأة الى رشقها بعبارات الغزل، وكانت ردود الأفعال التي تأتي من شباب المنطقة لهذه الافعال عنيفة للغاية، حيث يتجمعون متحدين، وينهالوا ضربا على الشخص لمجرد انه مر في الحارة لبعض المرات، بحجة خدش (اعراض) اخواتهم من الجيرة! وكان الحنث في اليمين في قضية ما عيبا اجتماعيا، لا يمر دون محاسبة عسيرة. كان عيبا خيانة الأمانة، ويأتمن الشخص ماله وعرضه لدى الجار او الصديق او القريب آمنا مطمئنا عليها. كما كان الكذب عيبا بغيضا، كان عيبا ان يتكلم الصغير في مجلس الكبار دون استئذان، كان عيبا الدخول الى الغرفة قبل الكبير، او مد اليد الى الاكل قبل الكبار، كان عيبا ان ترمي فائض الاكل في الحاويات امام الدور، بل يفترض التدبير وفق الحاجة، وإذا كان لابد من الفائض، فان حرمة الاكل يستوجب توزيعها على الفقراء امام المساجد. والسرقة كانت عيبا مشيناً. كان عيبا ان تخاطب الأكبر سنا باسمه بل بلفظة الأخ الكبير او العم او الشيخ او الافندي او الأستاذ. كانت الملابس غير المحتشمة للجنسين مثار سخرية وانتقاد وتهكم من المجتمع. كان الحب عيبا بين الجنسين، والزواج يأتي في العادة خلال العوائل والدلالات. كان عيبا للمرأة العزباء التسوق والنساء الجلوس الى المقاهي ودور السينما، ومحرما عليهن العمل الحكومي عدا التعليم النسائي، كما كان عيبا على المرأة العمل بإدارة اعمال الدكاكين والمحلات الخاصة، وكان عيبا محرما للعازبات إزالة شعر الوجه والأطراف، وكان عيبا ان تسمع الجيران صوتها. كان عيبا على الولد الصغير معاشرة الكبار والعكس أيضا. كان عيبا ان تضع رجلا على رجل او وضع اليد في جيب السروال اثناء الحديث مع كبار السن، كان عيبا اعلاء الصوت امام الأخ الأكبر او الابوين او كبار السن، كان عيبا ان تمد يدك الى كيس الصمون المعلق امام الدور من قبل الباعة. كان عيبا ان تجد حاجة مفقودة ولا تسال عن صاحبها ولا تغادر المكان لحين تسليم (الأمانة). كان عيبا ان تخدع أحدا او ان لا ترافقه إذا سالك عن عنوان. كان عيبا السماح للطبيب على لمس جسد المرأة بقصد الفحص، وكان القَسم المهني شيئا عظيما والاخلال بالقسم معيبا محرما. كان عيبا ان لا تحمل كيس التبضع من يد كبير في السن وايصاله الى حيث يريد.. كان عيبا ان تأكل خارج البيت، وكان عيبا ان تقبل اية مبلغ هدية من الاخرين بضمنهم الاقرباء. كانت الرشوة عيبا كبيرا، لا يقبل الفقير قبل متوسط الحال القبول به او التعامل به وهو الحد الفاصل بين ضعيف النفس والأبي. وهكذا، تطول قائمة المعيبات المحرمات في البودقة الاجتماعية التي تصيغ سلوك البشر..
اغلب الناس لا تقاوم الاغراءات المادية والمعنوية مهما كان مصدرها بدافع الانتفاع وإن لم يكن مشروعاً. وهو في نفس الوقت يتمنى مستقبلا مشرقا لأحفاده!! ان الفساد الذي يغريك فعله ولا تقاومه، سيمهد لصياغة اخلاق المجتمع في المستقبل، وسيكون احفادك ضحية لهذا الفساد الاخلاقي، الاخلاق الذي تزرعه اليوم، اولادك واحفادك سيحصدون خيره وشره غدا، وسيعيشون بتعاسة كما لم تتنماه لهم، ولكن الحماقة وقصر النظر تفعل ما لم يكن بالحسبان.. نحن نحرق مستقبل اولادنا، ونحول الارض التي تحت اقدامهم الى جحيم وعيشهم الى عبث وتعاسة وضيم وضياع.
كانت إرساء القيم تبدأ من العائلة، ثم المناهج التعليمية والتطبيقية في المدرسة فالمؤسسات، التي كانت لا تقتصر على التحفيظ للدروس بل تتعدى الى التطبيق الحقلي في مجال الزراعة والرياضة والكشافة والأخيرة كانت تعني التنظيم والانضباط ومواجهة الحياة القاسية.
هنا أتساءل عن هدف التعليم اليوم، ماذا نعني بالتعليم؟ هل نعنى بالتعليم هو تحقيق امانينا في تخريج اطفالنا مهندسين واطباء وضباط.. الاباء يريدون اولادهم على طريقتهم! أكمل دراستك في المدرسة وتعين وتوظف ثم نأتيك بالزوجة الصالحة! هل التعليم شمولي ام جزئي! اي نختزل العملية في التعليم الجزئي بعقلية الحصول على شهادة؟ هل نُعلِم الطالب كيف يواجه الحياة ام نُعلِمه كيف يكون له ذاكرة للتحفيظ وصولا لإنجاز هدف الإباء؟ نحن نستخدم التحفيظ لإقناع أنفسنا، وليس لمواجهة انواع الحياة ونسينا الجانب النفسي للحياة تماماً.
لسلطة إدارة البلاد، امكانية الحد من الانانية المزدوجة التي تحطم المجتمع وتعمق العزل البشري، أي بإمكانها إيقاف توسيع حدود الانانية الشخصية الى الأبناء والاحفاد. على سبيل المثال الطفل يولد انانيا ويتحول الى كائن اجتماعي تحت تأثير الاخرين. فحين نحاول ان نأخذ من يد الطفل شوكولاتة لنعطيها لطفل اخر، يأبى ويقاوم، ولكن إذا وعدناه بشوكولاتة عديدة ومتنوعة، سيتخلى على الفور عما في يده للطفل الاخر.
هل بإمكاننا تحرير الدماغ من المعتقدات المتراكمة؟ المرأة التي تتعب في تربية طفلها وتحتويها انانيا وتتمنى له ان يكون طبيبا او ضابطا او محاميا او مهندسا، فتبذل كل جهدها وتصرف كل ما تدخر لتوصله الى ما هي تتمناه، فيتخرج طبيبا او ضابطا او مهندسا…واثناء التعليم يتربى على كل الخرافات الاجتماعية وينهل من القيم السائدة، فماذا ستفعل؟ هل فعلا تحب ابنتك او ابنك وماذا يعني هذا الحب؟ ان تحبه تدعه يتخرج طبيبا او مهندسا او ضابطاً! فمثلاً حين يكون ضابطا بتعليم جزئي، فإنك تسمح له ان يتربى بعيدا عن العلوم العسكرية كما يراه فيما لو أقحم ذاكرته النفسية الشمولية في تعليمه، وعندما تقتصر بالتعليم الجزئي، فإنك تفقده من اول معركة يخوضها مستقبلا؟ كذلك الاطباء، رسالة الطب النبيلة، لم تعد كذلك، وأصبحت تقتل الناس وتتعدى على شرف النساء! فماذا يعني هذا الحب؟ الحب الذي يولد في الواقع الفاشلين والفاسدين والمجرمين! لا يمكنك ان تنسحب من العالم فانت العالم، فان قلت ان المجتمع فاسد ولمصلحتك تسحب ابنك منها؟ وتعلمه جزئيا وتوظفه ثم تزوجه ليستقر! انت بهذا التصرف تحب نفسك! انه ليس حبا، إن احببته فعلا فان ذلك يعني شيئا اخر تماما، لا حب مع الانانية وحب النفس، ليس للسماح لابنك ان يتمتع في البيت بوسائل الترفيه بمعزل عن الناس، بل ان نفهمه العلاقات في المجتمع ليقرأ نفسه (كقصة بشرية) الى النهاية. يمكن ذلك بمرآة العلاقات لكي ترى نفسك وكل انفعالاتك وردود افعالك ومراقبته بدقة وبدون تشويه وهذه هي الحركة الشمولية. حينها لن تحتاج الى قراءة شيء عن النفس، بإمكانك قراءة كتب اخرى.
ما معنى التعليم الشمولي؟ وما هو التعليم الجزئي؟ التعليم الجزئي هو ما نعمله الان وهو طريقة التحفيظ المستمر وليس التعلم.. التحفيظ سهل، حفظ التاريخ والاحياء والفيزياء والرياضيات والكيمياء والجغرافية والوطنية، ليبقى كمعرفة في الذهن او كمرفقات. الحياة الحقيقية التي نعيشها مهملة في الجانب النفسي وهي الاهم. هل التعليم معني فقط بمتطلبات التوظيف ام انها تهدف لتعلم طريقة العيش في الحياة دون انقسام وازدواجية (لان الانقسام يخلق الصراع الذي يؤدي للازدواجية في الشخصية)، لنتفحص تركيبة وعينا الكلي، ألبرت أينشتاين لم يقرأ كتب الفلسفة والفيزياء الممنهج في المدارس، ونيوتن طرد من المدرسة، وكذلك اديسون، كلهم لم يتلقوا التعليم التحفيظي لكي يكونوا علماء، لماذا أنتم تصرون على مناهج التعليم الجزئي كما اسميناها اي التحفيظ؟
انت قصة البشرية! نعم انت تاريخ البشرية التي بدأت قبل 3,5 مليون سنة، تعلم كيفية قراءته.. المخ البشري الذي يخزن تاريخ 3,5 مليون سنة لا يضاهيه ذاكرة كل حاسبات الدنيا مجتمعة، بدأ كحيوان ونشأ مع الخوف وعصبية الحيوانات (وهي لا تزال في وعينا ووجداننا الى الان)، وَعيُنا تحتوي كل الغرائز الحيوانية.. تركنا كل تلك الإمكانيات في عقولنا التي تختزل هذه الملايين من السنين، لنتدرب اليوم على استخدام جزء من دماغنا حول مواضيع تحفيظيه رتيبة كتبها اخرون ونتجمد عندها، وتخصصات مهنية مختلفة، مهندس، مدرس، ضابط او طبيب وغيرها.. والاجزاء الاخرى من الدماغ تركت بدون تعليم! هل بالإمكان زرع الجانب النفسي ليمضيا معا؟ انت قصة البشرية، لأنك عانيت الكثير لتصبح انسانا.. هل يمكنك قراءة كتاب قصة الحضارة الذي هو انت؟ يفترض ان لا يتم توجيهك بالتعليم الى اتجاه واحد بل تعليمك بانك كل قصص البشرية، بكل خبرته واحزانه ومعاناته، هل يمكنك قراءته مثلما تقرأ كتابا عاديا دون الاعتماد على الاخرين وعلى الإرث الموروث؟ القراءة بنفسك بدون تشويه (بدون التأثر بالمرافقات الفكرية في الذاكرة)! بإمكان اي منا ان نقرا بدون تشويه. انت تواجه مرآة، هل هناك مرآة يعكس كل شيء بدقة وتفصيل! لنفترض بأن دماغي مشوه (عقيدتي وديني وتربيتي ووطنيتي وخبرتي..) فسوف تكون قراءتي صعبة.
ان البرمجة الطبيعية لما يحيطنا من كائنات وفق رؤية المَصدَر، الذي برمج الحياة بدقة، يستحق التأمل والتفكير للارتقاء والتحديث المستمر وصولاً الى كمال التشريع. فلا تنتظر رسولا يأتي بقيم السماء ليغير سلوكنا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى