فلادمير ماياكوفسكي
فلاديمير ماياكوفسكي
فلاديمير فلاديميريوفيتش ماياكوفسكي (بالروسية: Владимир Маяковский) (19 يوليو 1893-14 أبريل
1930)، كاتب وشاعر روسي ولد في بلدة سميت باسمه فيما بعد. والده روسي من أصول تتريه، وأمه من أصول
أوكرانية، أتقن اللغتين الجورجية (بحكم الدراسة)، والروسية الأصلية (بحكم العائلة)، انتقل مع أمه وأختيه إلى
العاصمة موسكو عام 1906، بعد وفاة والده، وفصل من الدراسة عام 1908 لصعوبة تدبر مصاريف تعليمه. ولكنه
التحق فيما بعد بكلية الفنون الجميلة عام 1911. تعرف في موسكو على الفكر الماركسي، وشارك في نشاطات حزب
العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي، بالرغم من صغر سنه، حيث كان يبلغ من العمر 15 عاماً. كتب العديد من
المسرحيات والقصائد من أهمها قصيدة غيمة في سروال، انتحر ماياكوفسكي في 14 أبريل عام 1930 بعد فشله في
حياته العاطفية، وعدم تحقيق الثورة طموحاته وأحلامه.
ولد ماياكوفسكي، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر:، وتحديداً، في عام 1893. الزمن الذي كانت فيه البلدان
والشعوب التي تهيمن عليها الإمبراطورية الروسية تئن تحت نير الاستبداد والعبودية، وفي الوقت ذاته كان الثوريون من
مثقفين وعمّال وفلاحين وتنظيمات ثورية سرية وعلنية تقود المقاومة ضد النظام القيصري. ولد فلاديمير
ماياكوفسكي، شاعر المستقبل، في قرية بغدادي؛ من أعمال جورجيا، في تلك القرية النائية، قضى طفولته الأولى. كان
أبوه يعمل حارساً أو مشرفاً على الغابات. وكانت أمه، ابنة عسكري، تهوى الشعر والرسم.
كان الأب رجلاً كريماً مضيافاً؛ فمن النادر أن يمضي يوم من غير أن يستقبل أبوه في بيته الضيوف. وفي البيت
المضياف، سمع الصغير فلاديمير اللغات المختلفة من الضيوف المنتمين إلى قوميات مختلفة متعددة
عندما بلغ فلاديمير الثامنة من عمره، حملته أمه إلى بلدة كوتايسي، إذ لم يكن في قريته بغدادي مدرسة بعد. في سنين
تعليمه الأولى أحسّ الصغير فلاديمير بالاغتراب، واصطدم بالفوارق الطبقية بينه وبين زملائه، أبناء الموظفين الروس
المتعجرفين، ومن يومها أحس بالاضطهاد الطبقي، وفي عام 1905 بدأ فلاديمير وهو في بداية سن المراهقة التعرف إلى
الكتابات الثورية العلنية والسرية، والتي كانت تأتي بها أخته (لودميلا) من موسكو حيث كانت تدرس. وبشكل تلقائي
وطبيعي، وجد نفسه منضماً إلى الحلقة الماركسية في (المدرسة العليا) في بلدة كوتايسي اشترك مايكوفسكي في تشرين
الأول عام 1905 في أول مظاهرة سياسية، نظمت في كوتايسي) بمناسبة الجنازة التي أقيمت في موسكو للبلشفي (نيقولا
باومان) الذي اغتالته جماعة المئة السود الرجعية، وفي العام التالي، أي في عام 1906 توفي والده بشكل مفاجئ.
بوفاة والده، انقلبت حياة الأسرة رأساً على عقب. وبقيت الأسرة، دون أي مصدر رزق يذكر، سوى عشرة روبلات ـ
تقاعد الأب ـ فاضطرت الأم للرحيل إلى موسكو. ومنذ تلك اللحظة أحس فلاديمير ذو الثلاثة عشر عاماً بالمسؤولية
الكبيرة، كونه «رجل» الأسرة الوحيد. عاشت الأسرة في موسكو الفقر المدقع. كتب الشاعر فيما بعد في مذكراته: «عشنا
في فقر. عشرة روبلات لا تكفي. أنا وأختاي في المدرسة، فاضطرت الأم لتأجير غرفة، والذهاب للعمل، كانت روسيا هي
حلم حياتي، ولم يمثل أي شيء آخر لدي مثل هذه الجاذبية المرعبة».
التحق فلاديمير في موسكو بالمدرسة الثانوية، وهناك انضم إلى حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي
الروسي وجناح البلاشفة(الحزب الشيوعي الروسي)، وشارك بقوة في الدعاية السياسية بين عمال موسكو، وهذا كان سبب
اعتقاله للمرة الأولى في 29 آذار 1908، في مبنى المطبعة السرية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، لكن صغر سنه شفع
له هذه المرة، فأفرجوا عنه ليوضع تحت رقابة الشرطة. بعدها التحق بكلية الفنون التطبيقية، وعلى الرغم من الرقابة
الصارمة، بقي ناشطاً، يقوم بتوزيع المنشورات السياسية، فاعتقل شتاء 1909 للمرة الثانية، لمدة أربعين يوماً، أيضاً، شفع
له صغر سنه، فأطلقوا سراحه. ولكن بعد ستة أشهر، أي في صيف 1909 اُعتقل للمرة الثالثة، حين اشترك في عملية
تهريب ثلاث عشرة سجينة سياسية من سجن نوفنسكايا لكن هذه المرة سجن قرابة العام، في زنزانة منفردة، كما يتذكر في
الزنزانة (103). ويصدر الحكم بحق الفتى، بنفيه لمدة ثلاث سنوات، لكن استعطاف أمه واسترحامها من جهة، وصغر
سنه من جهة ثانية؛ إذ لم يكن قد بلغ الثامنة عشرة، ومن أجل رعاية أمه وأختيه أفرج عنه. في السجن، كتب قصائده
الأولى، وهناك قرأ بايرون، وشكسبير وقرأ الأدب الروسي؛ بوشكين، وليرمنتوف، ودوستويفسكي.
بعد خروجه من السجن، أعلن ماياكوفسكي: «أريد أن أصنع فناً اشتراكيا». فانتسب مجدداً إلى مدرسة موسكو للرسم.
هناك تعرف إلى جماعة المستقبليين. في البداية، أعجب ماياكوفسكي بأفكار المستقبليين، الذين أعلنوا التمرد على الماضي،
ونادوا بالإطاحة بالتراث الكلاسيكي ودعوا إلى تحرير الشعر من كل قيد. ونبذوا كل ما يمت إلى الأصالة الشعرية بصلة.
ولم يكتفوا بذلك، بل كان سلوكهم الاجتماعي فيه شيء من الغرابة، فأخذوا يرتدون الثياب ذات الألوان الفاقعة، ويربطون
المناديل في أعناقهم، بالإضافة إلى استخدام كلمات بذيئة في أثناء المناقشات الأدبية. لم يستمر ماياكوفسكي طويلاً مع
جماعة المستقبليين، فأدار لهم ظهره، واتجه بكليته إلى الفن الواقعي، لكنه حافظ بقوة على التجديد الشعري المؤسس على
تقاليد الشعر الروسي العريق.
3
ومن قصائده قبل الثورة، قصيدة هامة بعنوان: غيمة في سروال. وتعد هذه القصيدة من أهم قصائد ماياكوفسكي وأنضجها،
قبيل الثورة، بدأها عام 1914، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة. كان عنوان القصيدة في البداية: «الحواري الثالث
عشر». لكن الرقابة لم توافق على هذا العنوان، فاضطر لتغييره إلى: غيمة في سروال قاصداً التهكم على الرقابة
والسخرية منها، من ناحية، ومن الناس الرخوين من ناحية ثانية. حدّد ماياكوفسكي نفسه مغزى القصيدة، ومضمونها
فكتب: (فليسقط حبكم. فليسقط فنّكم. فليسقط نظامكم. فلتسقط ديانتكم) أربع صرخات لأربعة مقاطع. خرج ماياكوفسكي،
عن المألوف، فحطّم الوزن والقافية، وحافظ على الإيقاع، مستفزاً مشاعر الجماهير محرضاَ لها.
في أثناء تجوال مجموعة من الشعراء في أرجاء روسيا، يلقون قصائدهم الثورية. فجأة وقع ماياكوفسكي في
مدينة أوديسا بحب صبية جميلة، ـ ماريا ألكسيفنا دينيسوفاـ وهذه الفتاة بالإضافة إلى جمالها، كانت فتاة مثقفة، وذكية،
وتهتم بكل جديد، ومعاصر، ويبدو أن الشاعر المتميز المجدد قد جذبها، وكانت علاقة حب بينهما. ولكن لم يستمر هذا
الحب طويلاً، فالحبيبة التي وقع الشاعر في غرامها تخلت عنه بسرعة لتتزوج من رجل ثري». وهذا ما جعل الشاعر ينقم
أكثر على المجتمع البرجوازي، وقيمه المزيفة وعلاقاته التجارية، إذ يعتبر أن (الثراء) والمجتمع البرجوازي، هما اللذان
حرماه من حبيبته، وانتزعاها منه، وفي رأيه أنه لا يمكن أن تقوم علاقة إنسانية متكافئة في أحضان المجتمع البرجوازى.
تنبأ ماياكوفسكي في قصيدته غيمة في سروال بالثورة التي ستنتصر عام 1916، لكنها تأخرت لعام 1917، وتنتصر
الثورة التي بشّر بها، ونذر نفسه لها، وتنبأ بها، بعد عام على تنبئه، في عام 1917، لتكون أول ثورة اشتراكية، دولة
الكادحين من عمال وفلاحين ومثقفين ثوريين، ولتصبح أمل ملايين الملايين في أرجاء المعمورة، وتكون هذه الثورة
منعطفاً حاسماً ليس في روسيا فحسب، بل في العالم كله، وتبدأ مرحلة جديدة في البلاد، وفي حياة ماياكوفسكي الإبداعية
والاجتماعية ويعلن على الملأ: «إنها ثورتي».
فجّر ماياكوفسكي كل طاقاته ومواهبه، وعمل في كل الاتجاهات، من أجل ترسيخ مبادئ الثورة الاشتراكية الفتية، فشارك
في كل نشاطات الحزب، وألقى القصائد الحماسية في منظمات الشباب والعمال والفلاحين، ويضمن قصائده شعارات
الثورة التي لم يألفها الشعر الروسي من قبل، ويدافع عنها بقوة وحزم، مبرراً ذلك بأن الفن يجب أن يكون في خدمة
المجتمع والشعب، مستجيباً لمتطلبات المرحلة وقضايا جماهير الكادحين العادلة والمصيرية. وتضيق به
حلبات موسكو على اتساعها، فينطلق إلى أرجاء روسيا ومدنها الكبيرة إلى المعامل، والمزارع، وكل التجمعات البشرية
ليلقي قصائده الثورية، محرضاً من أجل ترسيخ مبادئ الاشتراكية، ولم يكتف بذلك، بل كتب المسرحيات والسيناريوهات
للسينما، ومثّل فيها أيضاً، وعمل في كل مجال له علاقة بالجماهير العريضة، حتى كتب الشعارات الثورية واللافتات في
الشوارع، وعلقها بيديه.
سافر ماياكوفسكي إلى ألمانيا وفرنسا عام 1922، وتعرف إلى أوروبا، وكرَّر زياراته إلى هذين البلدين، كما سافر
إلى المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، وهناك أعلن: «جئت لأدهش، لا لكي أندهش». لم يعجب كثيراً بحضارة
الغرب، وخاصة، أمريكا.
وفي كل العواصم التي زارها، كان ماياكوفسكي يلقي قصائده، ومحاضرات عن ثورة أكتوبر العظمى، وعن الاشتراكية،
وعن الأدب الروسي، وكان يلتقي الشخصيات الأدبية المشهورة. وأحب ماياكوفسكي باريس، وطاب له المقام فيها وقال:
«باريس جميلة، ظاهرة مدهشة، متناقضة ومعقدة، لكن باريس لم تعط الإنسان السعادة بعد». تعرف
في باريس عام 1928 على تتيانا ياكوفلوفا من أصل روسي، وأحبته وأحبها، ووعدها بالزواج، لكنه غادرها، ولم يستطع
العودة إليها، وحبيبته تانيا هذه لم تنتظره. فتزوجت من غيره، وهذا ما آلمه. كان ماياكوفسكي يعود من الغرب وكله إيمان
ببشاعة الرأسمالية، ويزيد من ذلك حبه لوطنه الاشتراكي، وتتجدد حماسته، لترسيخ قيم الحب والخير والجمال والعدل، في
الوطن الذي طالما حلم به وناضل من أجله، ولكن اصطدم الشاعر بالمتسللين إلى الحزب وبالمتسلقين، وبالانتهازيين
وبالبيروقراطيين، الذين استلموا مناصب في جهاز الحزب والحكومة. كان ماياكوفسكي قد ناضل وكافح وضحّى من أجل
الثورة ضد البرجوازية والقياصرة، فإنه بعد انتصار الثورة صار يناضل ضد كل أشكال البيروقراطية، والانتهازية، التي
بدأت تتفشى في الحزب والدولة. وقد استغل بعض المقربين من لينين، رأي قائد الثورة في جماعة المستقبليين، بشكل عام،
وفي شعر ماياكوفسكي بشكل خاص، وأخذوا يهاجمون ماياكوفسكي ويحاربونه علناً. وكان لينين قد أعرب أكثر من مرة
عن عدم ارتياحه لشعر المستقبليين وفوضويتهم، وهذيانهم. وكان يعد مايكوفسكي منهم ولينين نفسه لام لوناتشارسكي لوماً
شديداً، كيف سمح بطباعة خمسة آلاف نسخة من قصيدة مايكوفسكي (150.000.000 ـ مئة وخمسون مليون
هذا هو مطلع قصيدة 150.000.000 التي لم تعجب لينين قائد الثورة، والتي حطم فيها مايكوفسكي القافية والوزن،
وحافظ على الإيقاع، ولينين اعتاد الشعر الكلاسيكي لكن الجدير بالذكر، أن الشاعر لم يقف الموقف ذاته من لينين، ولم
يعتب عليه، ولم يحقد لرأيه في شعره، فعندما مات لينين ـ 1924، كتب ماياكوفسكي قصيدته ـ الملحمة ـفلاديمير إيلتش
لينين. ويُعد النقاد هذه الملحمة من روائع ماياكوفسكي على الرغم من أنه تخلى كثيراً عن فنية القصيدة على حساب
المضمون السياسي
لقد آلم ماياكوفسكي. وهو شاعر الثورة، التي ضحّى من أجلها بكل شيء، أن يرى نفسه محاصراً من الجهات المسؤولة
في الحزب والدولة، وآلمه أكثر أن بعض أصدقائه سكتوا عن المهازل التي ترتكب بحق شاعر الثورة. فمن جهته،
كشاعر، وثوري، وشيوعي، وإنسان، لم يستطع مهادنة الانتهازيين، وذوي المنافع الشخصية، فكتب مسرحياته الناقدة
اللاذعة، وقصائده التي تفضح هؤلاء البيروقراطيين، الذين كرسوا الروتين القاتل الذي يشل العقل والتفكير، فكتب
قصيدته مجنون الاجتماعات، أثنى عليها لينين قائد الثورة وأحبها، لأنها فضحت أولئك الذين يخرجون من اجتماع
4
ويدخلون في آخر، فثمة مواطن يأتي إلى مؤسسة رسمية مراجعاً، منذ الفجر الأول وحتى غياب الشمس، لا يجد مسؤولاً
واحداً، أين هو؟ في اجتماع ثقافي، في اجتماع شبيبي، في اجتماع إنتاجي، في اجتماع.. إلخ. فماياكوفسكي، ولينين لم يحبذا
كثرة الاجتماعات وهدر الوقت في الثرثرة، والكلام الفارغ دون جدوى، في حين عشرات الآلاف من العمال خلف الآلات،
ومن ثم كتب قصيدته الرائعة فظائع الأوراق التي يفضح فيها الروتين الظالم والبيروقراطية، كما استهل قصيدته عن
الهوية السوفيتية: «لو كنت ذئباً لقضمت البيروقراطية» لكن البيروقراطيين، كانوا له بالمرصاد، فشددوا الحصار عليه،
وتوجه النقاد المتزمتون ضيقو الأفق، بالسخرية والتهكم منه ومن أشعاره، وراحوا يشنون الحرب عليه علناً، شاركهم بذلك
أساتذة الجامعات والمعاهد الذين طالبوا بعدم خروج الشعر الروسي عن المألوف، ومع كل هجوم جديد كانت شعبية
ماياكوفسكي تزداد، على الرغم من الحملات المسعورة المنظمة ضد هذا الثائر على الشكل والمضمون ليس في الشعر
فحسب، بل على كل مظاهر الفساد في أجهزة الدولة وفي صفوف الحزب، والتي كانت في رأيه تخون الطبقة العاملة باسم
الطبقة العاملة. ولم يكتفوا بالنقد اللاذع والتهكم المرير، وإلصاق التهم الخرقاء بالشاعر، بل سحبوا مؤلفاته من المكتبات،
ورفضوا طباعة أعماله الجديدة.
الانتحار
وهكذا، حوصر الشاعر من كل الجهات، فحاول الرحيل إلى باريس، حيث تقيم حبيبته تانيا ياكلوفلوفا، فمنعوه من الخروج
بكل الطرق. وعندما عرفت (تانيا) بذلك، تزوجت من الفيسكونت دوبليه، مما زاد ذلك عذابه وآلامه، عدم السماح له
بالسفر أولاً، وثانياً فقدان الحبيبة، وذلك، سرّع في يأسه وإحباطه، وأحكموا الطوق حوله، وشددّوا الرقابة أكثر، وأحسّ أنه
محاصر من كل الجهات. فلم يبق أمامه أي مخرج، كما قال في رسالته الأخيرة التي كانت بمثابة وصية، وأنهى حياته بيده
في 14 نيسان 1930. في ذلك اليوم المشؤوم، وجدوا جثته ورسالته الأخيرة، وبيده التي خط بها عشرات الآلاف من
القصائد والمسرحيات، والسيناريوهات، كتب الأسطر التالية، من غير أن ترتجف يده، ثم أطلق النار على نفسه بمسدس
كان بحوزته:
” إلى الجميع
لا تتهموا أحداً في موتي، وأرجو أن لا تنمّوا. فالراحل لم يكن يطيق ذلك.
ماما، أخواتي ورفاقي، سامحوني – هذه ليست الطريقة الصحيحة (و لا أنصح غيري بها)، ولكن لم يبق باليد حيلة.
ليلا – أحبيني.
أيها الرفيق– الحكومة: عائلتي هي ليلا بريك، ماما، أخواتي وفيرونيكا فيلتودوفنا بولونسكايا.
إذا دبّرت لهم حياة مقبولة – فشكراً.
أعطوا هذه القصيدة التي ابتدأتُها إلى آل بريك، وهم سيفهمون.
كما يقال – ” trop poivre` “،
و قارب الحب تحطم على صخرة الحياة.
لقد تحاسبت مع الدنيا
و لا فائدة من تعداد
الآلام المتبادلة
المصائب
والإهانات.
أتمنى لكم السعادة في البقاء.
فلاديمير ماياكوفسكي 12 نيسان 1930 “
أعمال ماياكوفسكي الأدبية
5
عد ديوان «صفعة علي وجه الرأي العام» -وهو ديوان يتبني أفكار التيار المستقبلي- أول أعمال ماياكوفسكي الشعرية
ويتضمن قصائد مثل «صباح» و«ليل» تنتقد في مجملها الأوضاع السياسية لروسيا ما قبل الثورة. تتسبب آرائه السياسية
المتبلورة في أعماله في فصله من مدرسة موسكو للفن في عام 1914 وتشهد تلك الفترة تحولاً ملحوظاً في أسلوب
ماياكوفسكي الأدبي فيتخلي عن ميوله المستقبلية ليتجه إلي السرد الواقعي. يصف أغلب النقاد الأعمال التي نشرها في
الفترة التي سبقت ثورة أكتوبر بأنها أهم أعمال ماياكوفسكي وأكثرها تأثيراً.
نشرت قصيدة ماياكوفسكي الأشهر -غيمة في سروال- عام 1915 وتميزت عن سابقاتها بطولها النسبي وبإثارتها للرأي
العام حيث تناولت العديد من المواضيع الساخنة مثل الأديان والفنون وخاصة الحب فقد عكست القصيدة حالة الرفض التي
كان يشعر بها الشاعر نتيجة لإخفاقه في تجربته العاطفية. حدّد ماياكوفسكي نفسه مغزى القصيدة، ومضمونها فكتب:
(فليسقط حبكم. فليسقط فنّكم. فليسقط نظامكم. فلتسقط ديانتكم) أربع صرخات لأربعة مقاطع. جدير بالذكر أن عنوان
القصيدة كان في البداية: الحواري الثالث عشر. لكن الرقابة لم توافق على هذا العنوان، فاضطر بعد لأي، لتغييره إلى:
«غيمة في سروال» قاصداً التهكم على الرقابة والسخرية منها، من ناحية، ومن الناس الرخوين من ناحية ثانية. من سمات
اللغة التي كتبت بها القصيدة أنها كانت تشبه «لغة الشوارع» فقد أراد ماياكوفسكي -من خلالها- التهكم
علىالمفاهيم الرومنطيقية والمثالية للشعر التي كانت منتشرة آنذاك.
بعد نشر “سحابة في سروال” دخل ماياكوفسكي في علاقة عاطفية مع ليليا بريك زوجة ناشر قصائده أوسيب بريك. وقد
كانت تلك العلاقة العاطفية بجوار الحرب العالمية الأولي المؤثر الأبرز على كل أعماله لتلك المرحلة فأتت قصيدة الحرب
والحياة -1916″ لتبرز خواطره عن الإنسان والحرب وقصيدة “إنسان -1917” لتجسد مخاوفه العاطفية. بعد رفضه
كمتطوعاً في صفوف الجيش إبان الحرب العالمية الأولى، عمل ماياكوفسكي رساماً في القوات السيارة للجيش
في بيتروجراد (سانت بطرسبرغ حالياً) وهناك شهد الثورة الروسية التي كتب عنها «إلى اليسار در! من أجل جنود
البحرية – 1918» والتي ألقاها في المسارح البحرية أمام جماهير من البحارة. بعد عودته إلي موسكو، قام ماياكوفسكي
بنشر أول مجموعة من القصائد بعنوان “الأعمال المجمعة 1919″-1909” ورسخت تلك الأعمال شعبيته كمناضل
مستقبلي يساري وأصبح واحد من الأدباء السوفييتين القلائل المسموح لهم بالسفر بحرية وبالفعل أسفرت رحلاته المتعددة
إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولاتفيا وبريطانيا وألمانيا والمكسيك وكوبا عن أعمال أدبية مثل “اكتشافي لأمريكا –
1925″ في إحدي جولاته بالولايات المتحدة، تعرف ماياكوفسكي على إيلي جونز وارتبط معها في علاقة سرية وأنجبت
له ابنته الوحيدة وفي العام 1928 ارتبط بتاتيانا ياكوفليفا وكتب لها قصيدة بعنوان «رسالة إلى تاتيانا ياكوفليفا». آخر
عامين في حياته كانا عامي التمهيد للانتحار، فيهما اصطدم بواقعه الحياتي حيث لا حب له يدوم وبالواقع الثوري حيث
سرق الرأسماليون والمتسلقون والبيروقراطيون الثورة التي أفنى فيها ومن أجلها عمره. عبّر ماياكوفسكي عن حالة اليأس
التي تملكته بأعمال هجائية حادة الأسلوب مثل البق -1929 والحمام -1930″.
ماياكوفسكي لغته ثورته موته
مؤية الثورة الروسية : البدايات 1917 ـــ 1927
” كانت الذّئاب تتسلّل إلى حدّ البيت. تتحرّك في قطعان كبيرة وتطلق عواءً رهيباً. وكان عواؤها كريهاً ومخيفاً إلى أبعد
حدّ. هناك سمعتُ للمرّة الأولى ذلك العواء الثّاقب المتوحّش. لم يكن الأطفال يستطيعون النوم ليلاً وكنتُ أطمْئنهم قائلة:
«لا تجزعوا، لدينا كلابٌ قويّة سوف تمنعهم من الاقتراب ” .
هكذا وَصفتْ والدة ماياكوفسكي الغابة في جيورجيا الروسيّة حيث نشأ فلاديمير وأخواته. والغرض من إثبات الوصف هنا
هو التّذكير منذ البداية بأنّ العالم الّذي وُلد فيه ماياكوفسكي كان شديد الاختلاف عن عالمنا.
عندما ينتحر رجلٌ يتمتّع بصحّةٍ جيّدة، فالسّبب في ذلك – في التّحليل الأخير – أنّه لم يعُد يجد مَن يفهمه. وغالباً ما يستمرّ
عدم الفهم هذا بعد الوفاة. لأنّ الأحياء يصرّون على تفسير قصّة المنتحر وعلى استخدامها بما يتلاءم وأغراضهم هم. هكذا
يطْبق الصمت على هذا الاحتجاج الأخير ضدّ انعدام الفهم. إنّ اكتناه معنى ظاهرة ماياكوفسكي – وهي ظاهرة مركزيّة
لأيّ تأمّل في العلاقة بين السياسة الثوريّة والشّعر – يتطلّب أن نعالج ذاك المعنى بصفته متجسّداً في آن معاً في شعره، كما
في مسار حياته وموته.
اللغة أوّلاً
لنبدأ بدايةً بسيطة. إنّ ماياكوفسكي معروفٌ خارج بلاده بصفته أسطورةً رومانسيّة سياسيّة أكثر ممّا هو معروفٌ كشاعر.
والسّبب أنّ شعره قد أثبت حتّى الآن استعصاءه الكبير على الترجمة. وقد شجّع ذلك الاستعصاءُ العديد من القرّاء على
إحياء تلك الحقيقة المجزوءة القديمة التي تقول إنّ الشّعر غير قابلٍ للتّرجمة. وهكذا فسيرة ماياكوفسكي – حياته في الحركة
المستقبليّة، التزامه بثورة ١٩١٧، تماهيه الكامل كشاعر مع الدولة السوفياتيّة، دوره خلال عقدٍ من الزّمن كشاعرٍ منبريّ
وكمبشّر، وما بدا أنّه يأسُه المفاجئ الّذي دفعه إلى الانتحار وهو بعدُ في السّابعة والثّلاثين من العمر – تسمّى كلّها مادّة
مسيّرة لأنّ مادّة شعره، التي كانت عند ماياكوفسكي سيرة حياته ذاتها، غائبة عنها.
الحقيقة أنّ كلّ شيءٍ عند ماياكوفسكي يبدأ باللغة التي كان يستخدمها، وهذا ما يترتّب علينا تقديره حقّ قدره حتّى لو كنّا لا
نجيد اللغة الروسيّة. فسيرة ماياكوفسكي، كما مأساتُه، محكومتان بالعلاقة التاريخيّة المميّزة بينه وبين تلك اللغة. وهذا لا
يعني البتّة إفراغ ظاهرة ماياكوفسكي من مضمونها السياسيّ وإنّما الاعتراف تحديداً بما يميّز ذلك المضمون.
6
ثلاث نقاط بصدد اللغة الرّوسيّة:
- خلال القرن التّاسع عشر، كان التّمايز بين الروسيّة المحكيّة والروسيّة المكتوبة أقلّ نفوراً ممّا كانه في أيّ بلدٍ من
بلدان أوروبا الغربيّة. وعلى الرّغم من أنّ أكثريّة الشعب كانت أمّيّة، فإنّ اللغة الروسيّة لم تكن قد صادرتْها بعدُ الطّبقةُ
الحاكمة وسخّرتها للتّعبير عن مصالحها وأذواقها دون سواها. على أنّ نهاية القرن شهدتْ بداية التّمايز بين لغة الشّعب
ولغة الطّبقة الوسطى المدينيّة الجديدة. وكان ماياكوفسكي من بين الذين جهروا بمعارضتهم لعمليّة «إخصاء اللغة» هذه.
ومع ذلك، كان لا يزال ممكناً، بل طبيعيّاً، لشاعرٍ روسيٍّ أن يعتقد أنّه وريث لغةٍ شعبيّةٍ حيّة. فلم تكن الكبرياء الشّخصيّة
وحدها هي التي دفعتْ ماياكوفسكي إلى الاعتقاد أنّه يستطيع النّطق بلسان روسيّة. وعندما قارن نفسه ببوشكين، لم يفعل
ذلك من أجل أن يعلن فرادة عبقريّين معزولين، وإنّما من أجل أن يميّز شاعرَين للغةٍ كانت لا تزال قابلة لأن تكون ملكاً
لأمّةٍ بأسرها. - لأنّ اللغة الروسيّة لغة منبّرة ومتغيّرة الدّرجات الصوتيّة، تجدها غنيّة غنىً خاصّاً بالقوافي والإيقاعات. وهذا ما
يساعد على تفسير ظاهرة حفظ الشعر عن ظهر قلب عند الرّوس. فالشعر الروسيّ، وبخاصّة شعر ماياكوفسكي، أقرب
إلى موسيقى «الرّوك» منه إلى شعر ميلتون. اسمعْ ماياكوفسكي نفسَه يحدّثنا عن الأمر:
«من أين يأتي هذا الهدير البدائيّ الأصمّ للإيقاع؟ في الأمر لغزٌ من الألغاز، لكنّ مصدره عندي كلّ أنواع التّكرار في
ذهني لأصواتٍ وحركاتٍ موقّعةٍ، بل هو أيّة ظاهرة أستطيع أن أنسب إليها صوتاً معيّناً. فهدير البحر الذي يتكرّر إلى ما لا
نهاية قد يكون مصدراً للإيقاع، أو خادمٌ يصفق الباب كلّ صباح، صوت يتكرّر ويدور على نفسه فيكون له رجعٌ في
خلدي، أو حتّى دوران الأرض الذي هو في تجربتي، كما في متجر يعجّ بالأدوات البصريّة، ينذر بصفير ريحٍ عاتية
ويمتزج به».
على أنّ هذه المميّزات الإيقاعيّة ومنشّطات الذّاكرة للغة ماياكوفسكي الروسيّة لا تأتي على حساب المضمون. قد تختلط
الإيقاعات إلّا أّن معانيها تتمايز بدقّةٍ استثنائيّة. وفيما انتظام الصوت يطمْئن، إذا بالمعنى الحادّ والفجائيّ يصدم. فالروسيّة
لغة تطاوع على اشتقاق الكلمات الجديدة ذات المعاني شديدة الوضوح، من خلال إضافة البادئات واللاحقات. إنّها مجال
لتجلّي طاقة الشاعر على البراعة والابتكار: الشاعر الموسيقيّ والشاعر البهلوان. ذلك أنّ شاعراً ماهراً على أرجوحة
البهلوان قد يكون أقدر على استدرار دموعك من ممثّلٍ تراجيديّ.
الثورة تضاعف عدد القرّاء - عقب انتصار الثّورة، وبسبب من حملة محو الأمّيّة الحكوميّة واسعة النّطاق، بات كلّ كاتبٍ روسيٍّ مدركاً إلى هذا
الحدّ أو ذاك، أنّ جمهوراً واسعاً من القرّاء هو الآن قيد التّكوّن. أضف إلى ذلك أنّ التّصنيع أخذ يزيد من حجم
البروليتاريا، وبعد تحويل البروليتاريّين الجدد إلى فئة من القرّاء «الأبكار» الذين لم تفسدْهم القراءة التجاريّة. فخطر في
بال أولئك القرّاء، دونما تكلّف، أنّ الطبقة الثوريّة تطالب بالكلمة الثوريّة وباستخدامها لها كحقٍّ من حقوقها الثوريّة. وهكذا
فولادة بروليتاريا تجيد القراءة والكتابة كانت تبشّر بإغناء وتوسيع نطاق الأدب المكتوب في الاتحاد السوفياتيّ، بدلاً من أن
تؤدّي إلى إفقاره كما كانت الحال في الغرب في ظلّ السّيادة الرّأسماليّة.
وكان هذا الاقتناع بمثابة فعل إيمانٍ عند ماياكوفسكي بعد ثورة أكتوبر. وقد سوّلت له نفسه أنّ التجديدات الشّكليّة في شعره
إنّما هي لونٌ من ألوان النشاط السياسيّ. فعندما كان يبتكر الشعارات لوكالة الدعاية الحكوميّة – الروستا ROSTA – أو
يجول في أنحاء الاتّحاد السوفياتيّ طولاً وعرضاً عاقداً النّدوات الشعريّة أمام جماهيرٍ غفيرةٍ من العمّال، كان موقناً بأنّه،
بواسطة كلماته، سوف يُدخل استعاراتٍ جديدة، وبالتالي مفاهيم جديدة، إلى لغة الطبقة العاملة. ومع أنّ تلك الجولات
أوهنتْ صحّته على مرّ السّنين، إلّا أنّها كانت من المناسبات القليلة التي بدا فيها أنّ الحياة ذاتها تؤكّد صحّة ذلك الدَّور الذي
انتدب نفسه للعبه، كان الجمهور يفهم كلماته. ربّما كان المعنى الكامن وراء تلك الكلمات يغيب عن أذهانه، غير أنّه لم يكن
ليأبه بذلك «هناك» حيث كان يُلقي وهم يُنصتون، مثلما كان يأبه له في المساجلات اللامتناهية التي كان مضطرّاً إلى
الخوض فيها «هنا» مع الناشرين والمسؤولين الحزبيّين عن مجال الأدب. فهناك كان الجمهور، أو القسم الأكبر منه،
يحدس أنّ فرادة ماياكوفسكي إنّما تنتمي إلى فرادة الثورة ذاتها. فقد كان معظم الشعراء الروس يُلقون الشعر وكأنّه مناحة،
في حين كان ماياكوفسكي يلقيه مثل بحّارٍ يصيح عبر مكبّرٍ للصّوت باتّجاه سفينةٍ أخرى عبر بحرٍ هائج.
هكذا كانت حال اللغة الروسيّة في تلك اللحظة التاريخيّة. والقول إنّها كانت لغةً تستدعي الشعر استدعاءً ليس استعارةً
لغويّة مبالِغة إنّما هي محاولةٌ لاختصار لحظةٍ تاريخيّة في عددٍ محدودٍ من الكلمات.
ولكنْ، ماذا بشأن الطرَف الآخر في تلك العلاقة – ماياكوفسكي الشاعر؟ أيَّ نوعٍ من الشعراء كان؟ يبقى ماياكوفسكي على
قدرٍ من التّفرّد بحيث يتعذّر تصنيفه بالمقارنة مع شعراء آخرين. ولعلّنا نبدأ تصنيفه كشاعر بتفحّص نظرته إلى الشّعر،
ولو انطوى الأمر على قدرٍ من الفجاجة، آخذين بالاعتبار أنّ هذا التّعريف متجرّد من الضّغوط التي كان الشاعر عرضةً
لها طوال حياته وهي ضغوط يتعذّر علينا أن نميّز فيها العوامل الذّاتيّة عن العوامل التاريخيّة.
هكذا يصف ماياكوفسكي طريقه إلى الشعر، في الملاحظات نحو سيرته الذاتيّة:
«اليوم كتبتُ قصيدة. أو بالأحرى: مقاطع من قصيدة. إنّها سيّئة. لا تصلح للنّشر. «ليل» جادّة ستريتنسكي. قرأتُ القصيدة
لبورليوك. وأضفتُ: إنّها من نظْم صديق. جمد دافيد ونظر إليّ: «أنت نفسُك كاتبُها!» ثمّ صاح: «إنّك لعبقريّ!». فرحتُ
لهذا الإطراء الرائع الذي لا أستحقّه… فانكببْت على الشّعر. في تلك الليلة، أمسيتُني شاعراً على نحوٍ فجائيّ تماماً».
7
تلبية الطلب الاجتماعي
اللهجة ملتبسة. لكنّ المهمّ قوله إنّه صار شاعراً لأنّه استدعي لتلك المهمّة استدعاءً. طبعاً، كانت طاقته العبقريّة كامنةً
أصلاً. والأرجح أنّها كانت ستتفجّر عاجلاً أو آجلاً. إلّا أنّ مزاجه قضى بأن يأتي تفجّر تلك الطاقة تلبيةً لطلبٍ معيّن.
فيما بعد، سوف يواصل الإشارة إلى الشعر بصفته أمراً يجب أن يقابله بالضرورة «طلبٌ اجتماعيٌّ» معيّن، تأتي القصيدة
تلبيةً مباشرةً له. والجامع المشترك بين شعره المتوقّد في فترته المستقبلية وشعره السياسيّ اللاحق هو تحديداً شكل
المخاطبة. ونعني بذلك نمط مواجهة الشاعر للـ«أنت» الذي يخاطب. قد يكون هذا الـ«أنت» امرأةً أو الله أو المسؤول
الحزبيّ، إلّا أنّ تغيّراً لا يطرأ على شكل تقديم الشاعر لحياته إلى الذين يخاطبهم. عبَثاً تبحث عن الـ«أنت» في حياة
الـ«أنا»، ذلك أنّ الشعر هو عمليّة إضفاء معنى شاعريّ على حياة الشاعر الموضوعة في تصرّف الآخر. قد يقول قائلٌ
إنّ ذلك القول ينطبق، إلى هذا الحدّ أو ذاك، على الشعر إطلاقاً، غير أنّ الفكرة القائلة إنّ الشعر نمطٌ من التبادل يفعل فعله
بين حياة الشاعر وبين الطلَبات التي تضعها عليه حيواتٌ أخرى، فكرة متبلورة بنوع خاصّ في الظاهرة الماياكوفسكيّة.
إنّها تنطوي على المبدأ القائل إنّ الشعر يلقى تبريره أو لا يلقاه بحسب نمط استقبال النّاس له. هنا نلامس صراعاً هامّاً من
الصراعات التي كانت تخترم حياة الشاعر. فالمبتدى هنا هو اللغة بما هي المُعطى الأساس. على أنّ المنتهى هو حكم
الآخرين على كيفيّة استخدامه لتلك اللّغة في ظروف معيّنة. فقد تعاطى ماياكوفسكي مع اللغة وكأنّها جسده ذاته، وترك
للآخرين أن يقرّروا ما إذا كان لذاك الجسد الحقّ في الحياة أم لا.
كانت المقارنة بين إنتاج الشّعر والإنتاج الصّناعيّ واحدة من المقارنات الأثيرة لدى ماياكوفسكي. غير أنّ اختزال تفسير
تلك الاستعارة بإعجابه المستقبليّ بالتكنولوجيا الحديثة يجانب الحقيقة. فالشعر بالنسبة إلى ماياكوفسكي تصنيعٌ للتجربة
الشخصيّة وتحويل. وهو يتحدّث عن تجربة الشاعر بما هي المادّة الخام للشعر، في حين أنّ القصيدة هي المنتوج النهائيّ
الذي يلبّي الطلب الاجتماعيّ:
«وحده جهد تمهيديّ قد نال نصيبه الوافي من الاختمار يوفّر لي الوقت اللازم لإتمام نصٍّ معيّن، ذلك أنّ متوسّط إنتاجي
اليوميّ يتراوح بين ثمانية وعشرة أسطر».
«إنّ الشاعر هو ذلك الكائن الذي يرى إلى كلّ اجتماعٍ أو إشارة مرور أو كلّ حدثٍ من الأحداث، في أيّ ظرفٍ من
الظروف، على أنّه مادّة قابلة للصّياغة في كلمات».
والذي كان يعنيه بالجهد التمهيديّ هو تأليف القوافي والصوَر والأبيات الشعريّة واختزانها من أجل استخدامها اللاحق.
فـ«صناعة» القصيدة تمرّ بأطوارٍ عديدة، كما يقول بصراحةٍ نادرة في مقاله «كيف تصنع الأشعار؟». يأتي في المقام
الجهد التمهيديّ الذي يقوم على سكب التجربة في كلماتٍ واختزان تلك المقاطع الكلامية الموجزة نسبيّاً.
«حوالي العام ١٩١٣ كنت عائداً من ساراتوف إلى موسكو، ولكي أثبت إخلاصي لامرأةٍ كانت ترافقني، قلت لها: «ما أنا
ببشر، إنّما أنا غمامةٌ ترتدي سروالاً». وما إن تفوّهتُ بتلك العبارة حتّى لمَع في خاطري أنّها قابلة للاستعمال في قصيدة.
بعد مضيّ سنتين على الحادثة، استخدمتُ «غمامة في سروال» عنواناً لقصيدة جاهزة كانت تبحث عن عنوان».
بعد ذلك يأتي إدراك الشاعر بأنّ ثمّة «طلباً اجتماعيّاً» لقصيدةٍ حول موضوعٍ معيّن، فيجهد لكي يتفهّم الحاجة الكامنة وراء
ذلك الطّلب بأشمل ما يمكن. وأخيراً، تأتي عمليّة نظم القصيدة بما يتلاءم وتلك الحاجة. هنا يحاول الشاعر أن يفيد الإفادة
القصوى ممّا قد سكبه سابقاً في كلمات. إلّا أنّ هذه العمليّة تتطلّب الاختبار تلو الاختبار. وعندما يستوي النّظر أخيراً، إذ
ذاك تكتسب القصيدة طاقتها التفجيريّة:
أيّها الرفيق جابي الضرائب
أقسم بشرفي
أنّ قافيةً
لا تكلّف الشاعر
أكثر من فلس أو فلسين
اسمحْ لي بهذه الاستعارة:
القافية
عبوة
عبوة ديناميت
وبيت الشعر هو الفتيل
يحترق الفتيل
فتنفجر العبوة
ويتناثر حطام المدينة في الجوّ:
تلك هي القصيدة
فما هي الضريبة
على القوافي
التي تصيب الهدف؟
وتقتل على الفور؟
8
لو أنّه
لم يبقَ على هذه البسيطة
غير خمس قوافٍ متوارية
ولو أنّها في مجاهل فنزويلّا
لاقتفيتُ أثرها
غيرَ آبهٍ بقيظٍ أو صقيع
ولغصْتُ بحثًاً عنها
مثقلاً بجلاميد التسليفات والقروض
فيا أيّها المواطن،
ادّخرْ ثمن بطاقة السّفَر!
فالشعر – كلّ الشعر! –
رحلةٌ في المجهول!
الشعر
مثل التّنقيب عن الرّاديوم
أوقيّة واحدة من المنتوج
مقابلَ عامٍ من العمل.
في سبيل إنتاج كلمةٍ واحدة
عليكَ أن تصنّع
آلاف الأطنان
من خام الكلام
ولكن، قارن قدح شرار
تلك الكلمة
بالاحتراق البطيء
للكلمات الخام!
فتلك الكلمة
تقطّر ألوف السنين
وتهزّ أفئدة الملايين!
الشعر عمليّة تبادل
ما إن ينتهي نظم القصيدة حتّى تتطلّب أن يقرأها القرّاء أو أن يلقيها الشاعر نفسه إلقاءً. في ندواته الشعريّة العامّة، كان
ماياكوفسكي، مثل سائق سيّارة سباق أو طيّارٍ تجريبيّ، يستعرض ميزات منتجاته، مع فارق أنّ معرض القصائد لم يكن
على الأرض ولا في الجوّ إنّما في أذهان مستمعيه.
ومهما يكن من أمر لا يجوز أن تخدعنا رغبة ماياكوفسكي في عقلنة عمليّة إنتاج الشعر، فنحسبها خلوّاً من الأسرار. فقد
كانت رؤياه الشعريّة مترعة بشغفٍ تزعزعه أبداً رغبة الشاعر.
يغفو الكون
وأذنه الجبّارة
المحشوًة ببراغي
- هي النجوم –
ملقاة على كتفه
مع ذلك، كان ماياكوفسكي يرى إلى الشعر بصفته عمليّة تبادل، بل عمليّة ترجمةٍ تهدف إلى جعل تجربة الشاعر قابلةً
للاستخدام من قبل الآخرين. كان يؤمن بكيمياء اللغة. ففي فعل الكتابة نفسه يحدث التحوّل العجائبيّ. وعندما كتب عن
انتحار الشاعر ييسينين عام ١٩٢٥، عجز عن تقديم حجّةٍ واحدةٍ مقنعةٍ لماذا كان على الشاعر أن يبقى على قيد الحياة،
وإن يكن اعتبر أنّ هذا ما يمليه عليه الطّلَب الاجتماعيّ. إنّ المقاطع الأولى من الرّثاء هي بيت القصيد: لو كان في غرفة
ييسينين في الفندق مجرّد دواة حبر، لما قطع شرايين رسغه وشنق نفسه. لو كان في مقدوره فقط أن يكتب، لربّما بقي على
قيد الحياة. فأن تكتب يعني أن تختلي بنفسك وأن تنضمّ إلى الآخرين في آنٍ معاً.
يتحدّث ماياكوفسكي في القصيدة ذاتها عن الشعب الروسيّ الذي «تعيش فيه لغتنا وتتنفّس»، ويهاجم كلّ استخدام خجول أو
أكاديميّ للّغة (مردفاً أنّه لو قدّر لييسينين أن يستمع إلى الخطباء التقليديّين في تأبينه، لدعاهم أن يدسّوا مراثيهم في إستهم).
إلّا أنّه يعترف، في المقابل، بأنّ وقْع الأزمة شديد الوطأة على الكتّاب، مع أنّه يتساءل: ولكن أيّ زمنٍ لم يكن شديد الوطأة
عليهم؟ ثمّ يقول:
إنّما الكلمات
هي طلائع
البشريّة الزّاحفة
9
تقدّموا!
خلفُنا
الزّمن
يتفجّر مثل ألغامٍ أرضيّة!
لن نترك
للماضي
غير ضفائر
شعورنا
المتشابكة بالرّيح
بين ماياكوفسكي وريتسوس
توضيحاً لفكرتنا، قد يساعد أن نقارن ماياكوفسكي بكاتبٍ آخر هو الشاعر اليونانيّ المعاصر بانيس ريتسوس الذي هو،
مثله كمثل ماياكوفسكي، شاعرٌ سياسيٌّ وشيوعيّ. لكنْ على الرّغم من الالتزام المشترك لشاعرَينا، يقع ريتسوس في الضفّة
الأخرى من الشعر بالمقارنة مع ماياكوفسكي. إذ لا تولد الأشعار عند ريتسوس من فعل كتابةٍ ولا من تصنيعٍ للكلمات.
يولد الشعر عنده كمحصّلة لقرار أساسيّ لا علاقة له بالشّعر. وبدلاً من أن تكون الأشعار المنتوج النهائي لعمليّةٍ إنتاجيّةٍ
شديدة التّعقيد، تبدو كمنتوج فرعيّ من منتجاتها. فيساورُك الانطباع بأنّ أشعار ريتسوس تأتيه قبل تراكمها في كلمات: إذ
إنّها ترسّبٌ من ترسّبات موقفٍ أو قرارٍ مسبق. ليس بقصائده يؤكّد ريتسوس تضامنه السياسيّ. بل بالعكس من ذلك، بسببٍ
من موقفه السياسيّ، تتلبّس بعض الأحداث لديه لبوساً شعريّاً:
يوم السبت، الساعة الحاديةَ عشرة قبل الظّهر
النسوة يجمعن الثّياب
من على حبل الغسيل.
صاحبة الدّار واقفة عند عتبة
الفناء
رجلٌ يحمل حقيبة.
وآخر يعتمر قبّعةً سوداء
الموتى لا يدفعون الإيجار
قطعوا خطّ الهاتف عن إيلين.
بائع الكعك ينادي عمداً:
«كعك، سخن، يا كعك»
عازف الكمان الشابّ على النّافذة
«سخن وطيّب الكعك»
يقول.
يرمي كمانه على الرّصيف
الببغاء تراقب من فوق كتف الخبّاز.
صاحبة الدّار تخشخش بمفاتيحها.
النسوة الثّلاث يدخلْن البيت
ويصفقْن الباب.
ليس القصد الاستشهاد بريتسوس في مواجهة ماياكوفسكي، أو العكس. إنّهما نمَطان مختلفان من الشعراء يكتبان في
ظروفٍ هي نفسها متغايرة. فشعر ريتسوس (بسببٍ من عبقريّته الشعريّة) منتوج فرعيٌّ من منتجات خياره الذي هو خيار
معارضة ومقاومة. فيما يرى ماياكوفسكي أنّ الواجب السياسيّ يُملي عليه أن يمجّد وأن يؤكّد. الشكل الشعريّ عند
واحدهما علنيّ، سرّيّ عند الثّاني. وعلى عكس ما قد يبدو ظاهريّاً، فالأوّل أشدّ عزلةً من الثاني.
تغيّرتْ لغة الثورة
لنعدْ الآن إلى ماياكوفسكي. يمكننا القول إنّ اللغة الروسيّة كانت تستدعي شعراً جماهيريّاً، وتنقّب عن شعرائها الوطنيّين
قبل الثورة وخلال سنواتها الأولى. ومع أنّه يستحيل الحسم في مسألة ما إذا كانت عبقريّة ماياكوفسكي قد ظهرت بفعل ذلك
الاستدعاء أم أنّها ترعرعت فقط في كنفه، فإنّ هذا التّزامن بين عبقريّته وبين حالة اللغة في عصره كان عنصراً حاسماً
في نتاج الشاعر على امتداد حياته وربّما أيضاً في موته، لكنّه تزامنٌ لم يعمّر طويلاً.
منذ افتتاح «السياسة الاقتصاديّة الجديدة» (الـ«نيب» NEP) أخذتْ لغة الثورة نفسها تتغيّر، كان التّغيّر خفيّاً، أول الأمر،
إلّا أّنه لم يكن ليَخفى على شاعرٍ منبريّ مثل ماياكوفسكي. ومع الوقت، لم تعد الكلمات تعني تماماً ما تقوله. (إنّ تصميم
لينين على القول الصّدق كان خارقاً. فإذا وفاتُه منعطفٌ حاسم في هذا المضمار كما في سواه). تدريجيّاً، أخذَت الكلمات
تحجب من المعاني بقدْر ما تفصح عنها. صار للكلمة وجهان: وجهٌ للنّظريّة ووجهٌ للممارسة. فمثلاً، صارت كلمة
10
«سوفيات» صفة ملازمة للوطنيّة ومصدراً للاعتزاز الوطنيّ. ولم تعدْ تدلّ – إلّا في النظريّة – على نمط معيّن من
الديمقراطيّة البروليتاريّة. هكذا أمسى جمهور القرّاء «الأبكار»، إلى حدٍّ بعيدٍ، جمهوراً من المخدوعين.
مات ماياكوفسكي قبل أن تستفحل ظاهرة خفْض قيمة اللغة الروسيّة. لكنّه في سنوات حياته الأخيرة، ازدادت رؤياه سخريةً
كما نتبيّن من أعمال «الخير» و«البقّ» و«الحمّام»، وقد لقيَتْ جميعها استقبالاً سلبيّاً. فقد أضحت كلماته مشحونة بمَعانٍ
فقَدَت الصحّة والصّدق. فلنستمعْ إلى المخرج في الفصل الثّالث من «الحمّام»:
«حسناً! الآن جميع الرّجال على المسرح. اركعوا على ركبةٍ واحدة، احنُوا الظهور وطأطئوا الرّؤوس. يجب أن تبدوا
مستعبَدين، تمام؟ انهالوا بمعاولكم الوهميّة على الفحم الحجريّ الوهميّ. أشدّ بؤساً، أنت هناك، يجب أن تبدو أشدّ بؤساً،
فإنّ القوى الظلّامةَ تقهرك.
«وأنت هناك! أنت تمثّل «رأس المال». قفْ هناك، أيّها الرفيق، «رأس المال». سوف تؤدّي لنا رقصةً قصيرة تمثّل
«القهر الطّبقيّ»…
«النساء على المسرح الآن. أنتِ سوف تكونين «الحرّيّة». أخلاقك الحميدة تخوّلكِ ذلك. وأنت تستطيعين لعب دور
«المساواة»، ليس مهمّاً من يمثّل هذا الدّور، أليس كذلك؟ وأنتِ، يا عزيزتي، ستمثّلين دور «الأخوّة»، فلستِ تستثيرين من
المشاعر إلّا هذا الشّعور! جميعكنّ مستعدّات؟ هيّا! انفثن الجماهير الوهميّة بحماستكنّ الوهميّة! حسناً! حسناً!».
ما الذي كان يحلّ بماياكوفسكي في تلك الأثناء؟ امرأة يحبّها تتركه. وإنتاجه يتعرّض لنقدٍ متزايد الحدّة، على اعتبار أنّ
«نَفَسَه» بعيدٌ عن الطبقة العاملة. أبلغَه الأطبّاء بأنّه أعطب أوتاره الصوتيّة بلا أمل في شفاء، لأنّه يرهق صوته عند تلاوة
الشعر. وهو، من جهته، أعلن حلّ رابطته الأدبيّة الطّليعيّة («ليف» LEF وقد أعيدت تسميتها «نيف» NEF) وأعلن
انضمامه إلى رابطة الكتّاب «الأكثريّين» الرسميّة («الرّاب» RAPP) التي كانت دوماً سلبيّة تجاهه. والنتيجة أنّه بات
معزولاً في الرابطة الجديدة، فيما أصدقاؤه السابقون يصنّفونه في عداد المرتدّين. من جهةٍ أخرى، المعرضُ الاسترجاعيُّ
لنتاجه – من أشعارٍ ومسرحيّاتٍ وملصقاتٍ وأفلامٍ – لم يحرز النجاح الذي كان يتوقّعه له. كان في السابعة والثّلاثين من
العمر – كان بوشكين في السنّ ذاتها عندما قُتل. غير أنّ بوشكين كان مؤسّس اللغة الحديثة للشعر الروسيّ بلا منازع. فما
الذي سيحلّ بلغة الشعر الروسيّ الثوريّ التي آمن بها ماياكوفسكي ذاتَ يوم؟
إذا كان الكاتب يرى إلى حياته على أنّها مادّة خامٌ تنتظر دخول اللغة، وإذا كان مشغولاً على الدّوام بتصنيع تجربته
الشخصيّة، ويرى إلى الشعر على أنّه عمليّة تبادل في المقام الأوّل، ينجم عن ذلك خطرُ أن يستنتج ذاك الكاتب أنّ حياته
ذاتها مستنفدة عندما يُحرم من جمهوره المباشر. فلن يرى بعد الآن إلى تلك الحياة إلّا كشذرات منشورة على امتداد السنين.
فكأنّما نجحت الذّئاب، بالرّغم من كلّ شيء، في تمزيق جسمه إرباً:
«لا تجزعوا، لدينا كلابٌ قويّة سوف تمنعهم من الاقتراب». ثمّة من أخلف بالوعد. فقد هجَمَت الذّئاب.