رأي

وعي الإنسان المظلوم

 
مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب
حوار أجراه فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن مع مصعب قاسم عزاوي.
فريق دار الأكاديمية: ما هو الحدث الأهم في حياتك والذي تعتقد أنه قد ساهم في تشكيل نهجك الفكري ومنظارك لمقاربة العالم؟
مصعب قاسم عزاوي: الإنسان وخاصة الدماغ البشري منظومة معقدة ومتداخلة وغير ناجزة تقوم بتعديل منظارها وآلية تفسيرها للعالم والأحداث التي تجري معها بشكل مستمر بالاستناد إلى آليات تصنيفية معقدة يشترك فيها كل أجزاء الدماغ القديم الذي يشترك به البشر مع كل أسلافهم من الحيوانات، بالتعاضد مع الدماغ الجديد الذي يتفوق بقشرته الدماغية المتطورة بنيوياً ووظيفياً البشر عن أسلافهم من الحيوانات الأخرى بشكل كبير.
وتمثل اللوزة والحصين في الدماغ القديم لبني البشر مخزن الذكريات ومستودع تسجيل الرضوض النفسية في محاولة من الدماغ لعدم الوقوع بها مرة أخرى، وهو ما يستدعي دوام تفعيل تينك البنيتين التشريحيتين من الدماغ بشكل دائم في حال كان الرض النفسي شديداً، كما لو أن الدماغ يريد من صاحبه عدم نسيان الرض النفسي العنيف الذي تعرض له لكي يبقى متيقظاً ومتنبهاً دائماً لمحاولة تجنب الأسباب التي أدت لتشكل ذلك الرض النفسي في الأساس.
وللأسف فإن تلك الآليات الدفاعية الدماغية لا تفلح في الكثير من أحياز حيواتنا المعاصرة التي يصعب على الإنسان المقهور فيها التحكم بمفاصل ومآلات حياته والمسارب التي سوف تسري فيها، وهو ما ينتج عنه شيوع وقوع اضطرابات الشدة ما بعد الرض Post Traumatic Stress Disorders (PTSD) لدى الكثير من البشر بأشكال ودرجات مختلفة تتراوح بين الطفيفة التي يمكن لصاحبها التكيف معها، وبين الشديدة المعقدة التي تحول حياة الإنسان إلى كابوس مقيم لا يستطيع الخروج منه في ليله أو نهاره. وقد يستقيم القول بأن كل المقهورين المظلومين المستضعفين في العالم العربي الذين خبروا معنى تغول الدولة الأمنية وآلياتها على كل مفاصل حيواتهم قوتاً وعملاً وأحلاماً ومستقبلاً لا بد أن يعانوا بدرجة ما من متلازمة الشدة ما بعد الرض PTSD حتى لو تكيفوا معها واستبطنوها واعتبروها جزءاً عضوياً من طبائع الأمور وعلائق حياة القهر والاستبداد والاستعباد التي يعيشونها.
وعلى المستوى الشخصي فإن تجربتي لا تختلف كثيراً عن أي مقهور مستضعف مظلوم في العالم العربي خبر على جلده معنى عسف الأنظمة الشمولية وأجهزتها الأمنية بشكل عميق من الصعب إمحاء ندباته مع مرور السنين والعقود. وأظن أن ملمة اعتقال والدي في مطلع ثمانينات القرن المنصرم، وأنا طفل لم أكمل العام الحادي عشر من عمري في أعتى فروع الاستخبارات العسكرية لنظام الاستبداد الأسدي في سورية الصغرى، والذي أرغمني على التحول بين عشية وضحاها إلى رجل بقوة الضرورة مسؤول عن تأمين متطلبات حياة أخوته بعد أن انفض كل الأقربين والأبعدين خوفاً على أنفسهم من الاقتراب من عائلة معتقل سياسي قد يعني الاقتراب منه تواطؤاً مضمراً أو مشهراً أعقابه الويل والثبور في القاموس الأمني لدولة الاستبداد والاستعباد. وأظن أن تلك المعاناة لم تختلف عن معاناة كل المظلومين في سورية بعد انقلاب البعثيين الأول في العام 1967، وانقلاب حافظ الأسد على رفاقه من البعثيين لاحقاً في العام 1970 وتأسيسه لدولة شمولية أقرب ما تكون إلى ملكية مطلقة لعائلة الأسد على طريقة الملكيات المطلقة في العصور الوسطى. وتلك المعاناة التي كابدتها في طفولتي توطدت في وجداني عبر ما من تعرضت له لاحقاً من اعتقالات وتحقيقات متكررة على امتداد حياتي في «مملكة النظام الأسدي» مررت فيها على سلسلة طويلة من أفرع الاستخبارات العسكرية و الأمن السياسي وأمن الدولة وحتى الأمن الجوي التي كان عددها يفوق أعداد المشافي و المدارس في سورية الصغرى؛ متهماً بأي من التهم الجاهزة لتكميم الأفواه و العقول من قبيل شتم رئيس الدولة، واستشراب الأفكار اليمينية العفنة، والنيل من هيبة الدولة، ومقاومة النظام الاشتراكي، وإضعاف الثقة بالاقتصاد القومي، ووهن عزيمة الأمة، و جميعها معد للاستخدام الآلي في منظومات الدول الأمنية الفاشية مع كل من لم ينظر إليه بأنه «شاة لا تهش و لا تنش» من قطيع العبيد المقهورين الذين لا خيار لهم سوى بالتسبيح بحمد «القائد المفدى»، و الانخراط في حزبه البعثي «التلفيقي» المفرغ من كل مضامين شعاراته الرنانة، و هو الحزب «قائد الدولة و المجتمع» الذي أصبح الانضمام إليه بمثابة الشرط اللازم للانخراط في عديد قطيع «الشياه البشرية» التي لا خيار لها «سوى المشي بجانب الحائط و الدعوة بالستر»، و الذي كان يعني عملياً الدعاء بتأخر دورهم في الحضور إلى مسالخ الدولة الأمنية وسراديب قمعها وأدوات تعذيبها الذي لا حدود لوحشيته، و هو الشرط الذي لم أخضع له مدفوعاً بشكل من «الكبرياء الدونكيشوتية» التي دفعت ثمنها غالياً بلحمي ودمي و صحتي في الدهاليز و المعتقلات الأمنية، و هو الثمن الذي كان لا بد من دفعه بعد أن أصبحت «شاة شاردة ضالة» في أوقات متعددة من حياتي الدراسية في سورية «الأسدية» خاصة حينما أصبحت الطالب الوحيد في المدرسة الثانوية، و الطالب الوحيد في كلية الطب التي كنت أدرس بها، و الذي لم يكن عضواً في حزب البعث العربي الاشتراكي، و الذي لم يكن من اشتراكية فيه سوى مبدأ التشارك بنفس المستوى من الاستبداد و القهر و الإذلال بين كل «المواطنين الشياه» الخاضعين لسلطته و دولته الأمنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى