عين العقل
عبدالله احمد التميمي
فنان وباحث
اذا كانت العيون هي نوافذ الروح والنفس، فأن العقل مستودع الذاكرة وجوهر القوى الادراكية التي تستخدم الطاقة العقلية في استدعاء الصور المخزنة وتخيل المشاهد بعين العقل، كما يتضمن العقل ايضاً مهارات التفكير ومعالجة الانفعالات والمشاعر الحسية، وردة الفعل اتجاه سيمائية الإنتاج التعبيري للأشكال والرموز المرئية بالعين المجردة، والغير مرئية من جوانب السياق الاجتماعي والتاريخي للإنسان، ليتم بعد ذلك صقل التجربة الانسانية في حل المشكلات واتخاذ القرارات. حيث كشفت الدراسات الحديثة ان الاشخاص الذين لديهم القدرة على تخيل الاحداث بوضوح، يمتلكون عصب بصري نشط بين شبكية العين والقشرة الدماغية المرتبطة بصنع القرار، ولديهم ايضاً مهارة الرسم ومحاكاة المشاهد المرئية بحرفية عالية. واذكر انه في بدايات تعلمي الرسم قبل ثلاثين عام على يد الدكتور الفاضل حسني أبو كريم اطال الله بعمره قال لي: “اذا استطعت ان تلتقط المشاهد البصرية بطريقة صحيحة يمكنك ان ترسم بشكل صحيح” له كل الاحترام والتقدير.
وفي دراسة لدكتورنا العزيز موفق السقار ادام الله عليه الخير والبركة، يرى أن عملية اعادة استدرار الذاكرة، للصور الايجابية ستعمل بالضرورة على إعادة صقل الصورة، بكل ما فيها من تشوهات سلوكية أو معرفية، من خلال المحاكاة للقيم والاخلاق في العالم الخارجي والضمير المتجسد بكنوز العالم الداخلي، كما يعتبر السقار ملكة التخيل من اهم سمات الانسان والتي تسمح في تكوين تصورات لمشاهد حياتية تزود العقل بمجموعة كبيرة من القيم والمواقف الشكلية، ما يعني ان تتصور شيء وترجمته ليتطابق مع رؤية عين العقل، هذا الموقف يثير فينا الدهشة في جزء من الزمن “الخيالي” المتلاعب به ذهنياً.
وبالتالي ان اكتشاف خاصية ارتباط الصور الذهنية المتخيلة بنشاط القشرة البصرية للدماغ، كان له اثر بارز على التعرف على طريقة معالجة المدركات الحسية بعين العقل. حيث تنتج ” الشاشة الدماغية” اشكالاً ضوئية تتوافق مع شكل العالم الخارجي. فإذا نظرنا إلى كيفية معالجة الكمبيوتر للشكل الافتراضي، سنجد أن هذا الجهاز الشبيه بالعقل يخزن كم هائل من البيانات تحاكي التمثيل الرمزي للإشكال، حيث يمكن إنشاء شكل من خلال تلك البيانات المشفرة والمحفوظة في ذاكرة الكمبيوتر على القرص الصلب. وعلى الرغم من ان الشاشة الدماغية تتكون من مجموعة من الخلايا العصبية مرتبة بطريقة منظمة، الا ان كل خلية تعمل على “نقطة” معينة في صياغة المشهد المتخيل، وتعتمد شدة نشاط تلك النقط على التركيز المكثف واحلام اليقظة “التخيل” وشدة الضوء في تلك المرحلة. فإذا كانت البقعة ساطعة جدًا تكون الخلية نشطة بقوة مما يقوض مستوى الالهام الإبداعي، وعلى النقيض في حالة عدم وجود ضوء يتوقف نشاط الخلية.
ومن الأمثلة على ذلك، ظاهرة الحشو المرتبطة بالبقع العمياء. حيث ترتبط الألياف العصبية بالعين، ويقوم العقل على تحفيز العين على مغادرة نقطة معينة من المشهد البصري، على الرغم من ان البقع العمياء لا توجد فيها ثقوب واضحة في رؤيتنا لها. الا ان هذا يدل على أن الدماغ يحاول ملء ما يجب أن يكون في النقطة العمياء بتكهنات متخيلة بناءً على الخبرة السابقة عن تلك الاشكال ذات البقع العمياء. أي ان الرؤية البصرية تقوم على الإيمان المطلق بحقيقية المشهد الصوري المتولد من التصور، ما يعني أنه عندما ترى شيئًا بعين العقل يجب أن تعتقد أنه موجود بالحقيقة ولكن ما تراه ليس بالضرورة ان يكون موجودًا، لكنك تعتقد ذلك. وفي كثير من الحالات يتطابق مع خصائص العالم المرئي وفي حالات أخرى قد يؤدي “الاعتقاد” الأعمى إلى أخطاء في الرؤية، ويمكن لدماغنا تقديم أفضل تفسير بناءً على الخبرة السابقة والمعلومات المحدودة الغامضة التي يقدمها العصب البصري من خلال شبكية العين. وهذه الألية التي تشابه عمل الواقع الافتراضي المعزز او ما اتفق على تسميته مؤخراً ب ” الميتافيرس”. وبصرف النظر عن كل بقعة صغيرة كانت او كبيرة، فلا يمكننا “إدراك” أي شيء الا كما يكونه الدماغ عن ذلك المشهد، لذلك لا يمكن أن يكون الدماغ مجرد مجموعة من الخلايا تشير فقط إلى المكان الذي توجد فيه شدة الضوء. بل يجب أن ينتج وصفًا لرمز المشهد ايضاً، بناءً على الخبرة السابقة المخزنة عن تلك المواقف الشكلية، بهدف العثور على أفضل تفسير للإشارات المرئية وبمجرد أن يتم ترميز الاشياء بشكل واضح، يمكن أن تصبح المعلومات بسهولة مفردات عامة يمكن استخدامه لمزيد من الإجراءات التي تحفز الالهام الابداعي.
ويمكن أن يحدث تفسيرنا للأحداث والأشكال في بعض الأحيان بشكل خاطئ، وهذا ما يسمى سوء الفهم. وللأسف لم أجد تفسير علمي لهذه الحالة، وكما قال “شكسبير كل الكلمات معرضه لسوء الفهم حتى الصمت قد يساء فهمه احياناً”، وشاع الاعتقاد أننا يمكننا رؤية كل شيء في مجال الرؤية البصرية بنفس الوضوح إذا تم التركيز على نقطة معينه وبقيت أعيننا بلا حراك لفترة قصيرة ما يسمح باستثارة ملكة التخيل، وفي حقيقة الامر قد يكون هذا خطأ في بعض الاحيان فعندما يكون الشخص قريبًا من مركز المشاهدة، يمكنه رؤية تفاصيل المشهد بوضوح، وكلما انحرفت أكثر عن المركز البصري، زادت القدرة على تمييز التفاصيل. وفي الطرف الخارجي من مجال الرؤية يكون من الصعب تمييز الشكل. واعتقد ان السبب وراء عدم وضوح ذلك في الحياة اليومية هو الاستمرار في تحريك أعيننا او ضعف بصري، مما يعزز الوهم الواضح للأشياء والمعلومات البصرية التي تقدمها العين البشرية عن نوع المشهد المرئي، والتي عادةً ما تكون فيها نوع من الغموض في المعلومات المقدمة، وتكون هذه البيانات غير كافية لتعطينا تفسيرًا واضحًا للمواقف والمشاهد المرئية في العالم الحقيقي، ومع ذلك لا ينبغي اعتبار هذا على أنه عيب خلقي، اعتقد إنها طريقة مختلفة لرؤية العالم بعين العقل.
عبدالله اجمد التميمي