تعاليقرأي

الزيادة كالنقصان

ضرغام الدباغ


هذا المثل / الحكمة، العربية الرائعة، وفي السياسة يقابلها التطرف (وقد كتبنا عن مخاطر الانزلاق
للتطرف في مجال السياسة)، والزيادة مبالغة والمبالغة مأزق لا يقل ضررا بل ويصل لدرجة الخطورة
وسوف أشرح ذلك.
إذا أردنا أن نصل بسرعة فائقة لبيان جوهر أمر ما نقصده، يمكن أن نضرب مثلاً بنوع من الأدوية التي
تسمى “المنقذة للحياة”، ” life-saving medicines ” وتحدد الوصفات التي تحتوي على الاستخدام
الدقيق جداً للدواء، فقرة تنص، أن المريض وفق درجة حالته، عليه أن يأخذ نصف حبة، أو ربع حبة، أو
نصف حية، أو حبة، أو حبة ونصف أو حبتين، وحين يأخذ نصف حبة يجب أن تقسم الحبة إلى نصفين
متساويين بدقة تامة، وأي زيادة ولو بالمليغرام الواحد قد تكون مميتة ..!
وكمثال أقرب أن هناك من أنواع الدواء ذا فعالية شديدة، ما أن يتناوله المريض يكون فعالاً في الشفاء،
ولكن حبتان أو أكثر قد تؤدي إلى وفاته ..! وكم سمعنا وقرأنا من المشاهير انتحروا بتناول كميات كبيرة
من حبوب العلاج …!
إذا كان المثالان أعلاه واضحان بدرجة حاسمة، فإن الزيادة والنقصان في التعامل الإنساني يقترب أيضاً
من الحسم بهذه الدرجة. وسأضرب بعض الأمثلة. فألتهام كمية كبيرة من الطعام اللذيذ سيؤدي للتخمة،
ومراجعة المستشفى، وربما بحالة خطرة، كذلك فأن المحبة المفرطة وتدليل الطفل هي أفضل طريقة
لإفساده وتدميره، والأم وأحيانا الأب يفعلان ذلك بدوافع المحبة الزائدة .. ولكنهما لا يدركان فضاعة ما
يفعلان وغالبا بسبب الجهل.
بوسعي أن أضرب الكثير من الأمثلة المدهشة، الاجتماعية والصحية والتربوية. ولكنني أريد هنا أن
أتوجه للموضوعات السياسية، فأقول، أن الزيادة في السياسة هي المبالغة، والمبالغة في الشيئ تعني
التطرف فيه، وقد نصل إلى ذات النتائج العكسية كما في العملية الاجتماعية والتربوية. فالتطرف
اليساري، يؤدي إلى موقف يميني، والتطرف في اليمين، يقود إلى الرجعية، والقبول بالبراغماتية كدليل
نجاح أسليب العمل، سيؤدي إلى التنازل عن المبادئ، واليساري حين يصبح براغماتياً، يحلل لنفسه ما
يتناقض مع الآيديولوجيا. فبحر السياسة فيه تيارات ودوامات مغرقة مهلكة.
أريد القول، أن على الذي يتعرض لموقف مهم وحاسم، عليه أن يقيم توازناُ بين الواقع الموضوعي
ومعطياته، وبين المصالح العليا التي يريد السياسي تحقيقها ومعضلاتها. وإذا كان تحقيق المصالح العليا
هي الهدف الاستراتيجي العام، فعلى السياسي أن يضع خططه، بحيث لا يتعرض موقفه إلى مأزق،
بحيث يضطره التنازل عن جزء (غير معروف حجمه)، ولكي تكون خطواته موزونة مدروسة بعمق،
(والسياسي المتمكن من مهنته)، عليه أن يدرس ردود فعل الطرف المقابل/ الأطراف، وحتى ردود
الفعل المحتملة، وتفاصيل الموقف برمته بكافة عناصره.
وإذا كنت تمتلك عناصر القوة، فلا تبالغ في أستخدامها، ولا تظهر التطرف والغلو، ولا تميل إلى إطلاق
التصريحات السخية فكلمة لا داع لها قد تتسبب لك بمشكلة، أنتق عبارت حديثك، وتأمل دائماً موقف
خصمك، وضع نفسك مكانه، ودع له فرصة ليجلس على طاولة المفاوضات، والخصومة حالة مؤقتة،
والأفضل أن تتمكن من أن تحيلها إلى تعاون ومراعاة مصالح الطرفين.

استخدام القوة ستكون سببا مؤكداً أن تستخدم القوة ضدك وربما بقوة مضاعفة، وعليك أن تعلم أن لا أحد
يسلم بحقوقه، ويتنازل عنها بالقوة، وحتى الأتفاقات تحت الإرغام هي اتفاقات لا أمد طويل لها، وضعت
بكم ظروف سياسية، وسيعاد النظر بها في ظروف سياسية، بل وقد تخسر أكثر منها …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى