أحوال عربيةأخبارأمن وإستراتيجيةدراسات و تحقيقات

الدين والجيش والسياسة .. في إسرائيل

أحمد فاروق عباس

الاضطرابات والقلاقل السياسية والاجتماعية والدينية تتواصل في إسرائيل ، آخذة معها الدولة العبرية إلى طريق مسدود ، توقعه لها كثيرون منذ إنشاء تلك الدولة غريبة الأطوار ..
فالفرق والأحزاب الدينية تريد السيطرة على الجهاز القضائي في إسرائيل ، ومن ثم صبغ الحياة كلها فى إسرائيل بصبغة دينية متزمتة ، ووراء الفرق والأحزاب الدينية نصف الشعب الإسرائيلى تقريبا !!
والفرق والأحزاب العلمانية تتصدى لتلك المحاولات ، وتتحدث عن الديموقراطية الإسرائيلية التى أصبحت على المحك !!
ووراء تلك الفرق والأحزاب العلمانية النصف الآخر من الشعب الإسرائيلى !!
فما هى أصول المشكلة في إسرائيل ؟!
اليهودية السياسية ( المعروفة بالصهيونية ) أحد منتجات الغرب فى الدمج بين الدين والسياسة ، وقد جربها في كل الأديان الكبرى .. اليهودية والمسيحية والإسلام ..
واليهودية السياسية ( أو الصهيونية ) هى استعادة لمجموعة من الخرافات القديمة ذات الطابع الدينى وإقامة دولة حديثة على أساسها ..
والدول القائمة على اساس دينى دول هشة بطبيعتها ، فهى قائمة على مجموعة من المطلقات والمقدسات غير القابلة للنقاش أو الجدال ، فالنقاش والجدال ممكن أن يمس الأسس التي قامت عليها الدولة ذاتها ..
والأديان لا تناقش ، ولا يتم الإختلاف حولها ، بل يتم الإيمان بها والتسليم لها ..
والدين هنا كما هو عامل وحدة هو أيضا عامل تفرق وتمزق ، فالاراء داخل الدين الواحد متعددة ، ومن الممكن أن تصبح الفرق الدينية فرق سياسية ، تأخذ خلافاتها الدولة الى التمزق أو الحرب الأهلية ..
هنا يكون الجيش – والجيش وحده – هو عامل الوحدة والتماسك في الدولة ، وخصوصا لو كان للدولة اعداء خارجيين يوجه إليهم الانتباه ، وإلى كراهيتهم فائض المشاعر ، وبالتالى يكون الصراع معهم عامل وحدة إضافية في بلد مقسم فى أسس حياته العميقة ..
وهو ما حدث ويحدث فى إسرائيل بالضبط ..
دين قديم تم إخراج بعض نصوصه من الكتب الصفراء القديمة ، والباسها ثوبا سياسيا حديثا ، ليجمع اليهود من أنحاء العالم فى منطقة شديدة الأهمية للغرب ، بحيث تكون الدولة الدينية اليهودية الجديدة أداة الغرب فى السيطرة علي تلك المنطقة وضبط تفاعلاتها ..
وجيش هو عامل الوحدة الوطنية فى بلد يمكن أن تأخذه الاختلافات الدينية والسياسية إلى التمزق والضياع ..
وكمظهر على التمزق الشديد فى الحياة الدينية والسياسية في إسرائيل ، فإن الدولة الصهيونية نظمت خمسة انتخابات منذ ٢٠١٩ .. أى خلال أربع سنوات فقط !!
ويبدو أن السادسة على الأبواب ..
وفى كل مرة لا تحل الإنتخابات المشكلة ، وينشأ عنها ائتلاف حكومى ضعيف !!
فالإنتخابات – والديموقراطية – لا تحل مشاكل الوجود للدول ، مثل دور الدين فى السياسة ، ومكانة الجيوش فى بنية الدول ..
لكن الشعوب – من المفروض – أن تحسم الأمور الكبرى فى حياتها قبل أن تذهب إلى الديموقراطية ..
فالديموقراطية وسيلة لتنظيم الجدل السياسى والاقتصادى في بلاد يتفق سكانها على أسس حياتها ، وليس هناك اختلاف فى هذه الأسس ذاتها ، فهنا من الممكن أن تصبح الديموقراطية أداة تمزق أو انقسام الدولة ..
وما حفظ وحدة إسرائيل – حتى الآن – في ظل كل عوامل التمزق والتفرق في بنية الدولة الإسرائيلية عاملان :
١ – الجيش الإسرائيلى .. ودوره في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في إسرائيل شديد الأهمية ، وسوف نتحدث عنه بالتفصيل ..
٢ – أمريكا وأوروبا .. فهم من أنشأ إسرائيل ، وهم من يمدها بكل أسباب البقاء والحياة ، والحياة السياسية في إسرائيل مربوطة بخيوط قوية بالغرب ..

وليس صحيحا أبدا أن الصهيونية أو اليهود هم من يحكمون أمريكا والغرب كما يروج لذلك كثيرون ، خاصة فى العالم العربى ، فالصهيونية أداة صغيرة من أدوات الغرب فى سياسته ، في منطقة واحدة من مناطق العالم ، هى منطقة الشرق الأوسط ..
وإسرائيل دولة وظيفية ، ليس لها حياة أو مستقبل بدون دعم الغرب المالى والتكنولوجي والعسكرى ..
إسرائيل تواجه أسئلة الوجود ، وهى أسئلة لا ينفع فيها نجدة الغرب لها كما يفعل دائما فى حروب إسرائيل وصراعاتها ..
ربما يؤخرها أو يؤجلها بعض الوقت ، لكن لا يلغيها ..
وربما سيكون ذلك هو مقتل إسرائيل ..
فما تفعله إسرائيل بنفسها – كدولة وظيفية مصطنعة – ربما يثبت أنه أكثر ضررا بمراحل من كل حروبها وصراعاتها مع العرب ..

سيطر العلمانيون على الحكم في إسرائيل منذ إنشاء الدولة العبرية فى مايو ١٩٤٨ ، وعلى الرغم من أن سبب ومبرر وجود الدولة كان دينيا ، إلا أن حكامها الأوائل كانوا شبه ملحدين ، وخاصة مؤسس الدولة وأول رئيس وزراءها ديفيد بن جوريون ..
وبعد عشرين سنة من إنشاء الدولة قوى الجناح الدينى في المجتمع والسلطة الإسرائيلية ، ووصل واحد من قادة هذا الجناح إلى السلطة وهو الارهابى المشهور – والحائز أيضا على جائزة نوبل للسلام !! – مناحم بيجن ..
وبدأ الصدع في بنية الدولة الإسرائيلية بين الأحزاب الدينية والأحزاب اليسارية والمدنية ..
كان الجيش الإسرائيلى هو الضامن لبقاء الدولة ، وبهذا الصفة كان دوره في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في إسرائيل مما يستحق الدراسة ..
وهو ما سوف نتناوله في النقاط التالية :
فى بداية التفكير في إنشاء المشروع الصهيوني ثم فى العقود التى تلت إنشاء الدولة تبنت إسرائيل نظاما اقتصاديا مركزيا شبه اشتراكى ، سادت فيه قناعة أن القطاع الخاص لن يتمكن من تعبئة الاستثمارات اللازمة لاحتياجات المشروع الاستعماري لإسرائيل ، واستيعاب الهجرة وتكلفة الأمن والبناء العسكرى لأنه قطاع حديث وضعيف ..
لذا كان البديل تطوير الاقتصاد من أعلى ، أى بتوجيه من الدولة ، فبعد قيام إسرائيل تم إنشاء كثير من المصانع والشركات والمزارع ، التى كانت تحت سيطرة ثلاث مجموعات رئيسية : حكومة إسرائيل ، الوكالة اليهودية ، نقابة العمال العامة ( الهستدروت ) ، بالإضافة إلى ملكية صغيرة للقطاع الخاص .
واستمر هذا الأمر حتى تغير جزئيا فى تسعينات القرن العشرين ..
فقد كانت الدولة – وفى القلب منها جيش الدفاع الإسرائيلى – هى الفاعل الأقوى والابرز في مجال الزراعة والصناعة والبنوك ..
وبالإضافة إلى تداخل الجيش مع النظام الاقتصادى فى إسرائيل ، إلا أن مجال نفوذه الأقوى كان فى المستعمرات العسكرية الإنتاجية ..
فما هى تلك المستعمرات العسكرية الإنتاجية ؟!
لم يكن المهاجرون القادمون إلى فلسطين يملكون ما يسمح لهم بالبدء بأى عمل ، ومن هنا كان لابد من إيجاد شكل جماعى يعمل على خلق ارتباط اليهودى المهاجر بالأرض ، وتشجيع المهاجرين الصهاينة على الزراعة ، بعد أن كانوا يعملون فى التجارة أو الحرف المختلفة في بلادهم الأصلية ..
وتواصلت هذه العملية من قبل إنشاء الدولة ثم بعد قيامها ، وبعد حرب ١٩٦٧ تم إقامة مئات المستعمرات العسكرية الإنتاجية فى كل عموم فلسطين ..
وكان دور الجيش الإسرائيلى فى هذه العملية أكثر من حاسم ..
فكان الجيش هو من يقوم بتحديد المناطق الملائمة للاستيطان ، وتحديد مكان كل مستعمرة وهيكلها وتركيبتها الإجتماعية ، وقد عين الجيش موظفين رفيعى المستوى كمسئولين عن الاستيطان وشئونه ..
وتشمل هذه التجمعات العسكرية الإنتاجية المؤسسات الثلاث الآتية :
أ – الكيبوتز .
ب – الناحال .
ج – الموشاف .

أولا – الكيبوتز :
تعد الكيبوتزات أهم هذه التجمعات العسكرية – الإنتاجية وأشهرها ، وهى بحكم طبيعتها معسكرات حربية ، ويختار الجيش الإسرائيلى لها المواقع التى تستطيع من خلالها أن تشرف على كل محيط الأرض من حولها ، ويعد العمود الفقري للجيش الإسرائيلى من أبناء أبناء هذه المزارع الجماعية ..
وكيبوتز كلمة عبرية تعنى تجمع ، وتشير إلى مستوطنة تعاونية ذات صبغة عسكرية ، تضم جماعة من المستوطنين الإسرائيليين يعيشون ويعملون سويا ، ويبلغ متوسط عددهم من ٤٥٠٠ – ٦٠٠٠ عضو .
وقد كانت هذه ” الزراعة المسلحة ” مرتبطة دائما بالعسكرية الإسرائيلية ..
وتخضع هذه المزارع الجماعية إلى إشراف مركزى صارم ، ويتم فيها تقييد حرية المستوطنين وعدم إتاحة الفرصة لهم لامتلاك وسائل الإنتاج والمساكن ، ولا يوجد في الكيبوتزات ملكية خاصة ، فالأرض وأدوات الإنتاج والمساكن والأثاث ملكية عامة ، حتى الطعام مشترك ..
ولا يقبل الكيبوتز في عضويته المرضى والمسنين ، لأن الهدف من إنشاءه هو العمل الزراعى الشاق وتربية الماشية ، وبعض الصناعات التى تقوم على الإنتاج الزراعى والحيواني ، إلى جانب حمل السلاح والقتال !!
وقبل قيام الدولة الإسرائيلية كان عدد العاملين في الكيبوتزات ٢٢٦٠٠ عام ١٩٣٩ ، ارتفع عددهم إلى ٥٤٢٢١ عام ١٩٤٨ ، وبلغت نسبة أعضاء الكيبوتز في النخبة الحاكمة فى إسرائيل سبعة أضعاف نسبتهم في المجتمع ( بن جوريون وموشيه دايان وشمعون بيريز وإيجال ألون وغيرهم من أبناء الكيبوتزات ) ..
وكان ثلث الوزراء الإسرائيليين من ١٩٤٩ إلى ١٩٦٧ من أعضاء الكيبوتز ، كما أن ٤٠ % من إنتاج إسرائيل الزراعى و ٧% من صادراتها و ٨% من إنتاجها الصناعي من إنتاج الكيبوتزات ..
والكيبوتزات لم تكن تدفع سوى إيجار زهيد للغاية للوكالة اليهودية ، ثم للدولة الإسرائيلية بعد قيامها ..
وتنال الكيبوتزات معاملة تفضيلية من حيث الإعفاء من الضرائب ، وتقديم الهبات والمساعدات المالية والقروض المعفاة من الفوائد أو بفوائد مخفضة ، وتوفر لها الدولة الوقود والأسمدة والكهرباء ..
والكيبوتز الآن لم يعد مقتصرا على الزراعة كما كان فى الماضى ، بل تحول إلى مؤسسات صناعية وانتاجية متنوعة ..
ثانيا : الناحال
وهو نظام شبه عسكرى ، الهدف منه خلق كوادر فنية متخصصة في المجالات الإنتاجية المختلفة ..
وكان الهدف من إنشاء مستعمرات الناحال الآتى :
١ – استزراع الأراضى فى المناطق النائية ، واستصلاح الأراضى البور .
٢ – احياء الصناعة فى المناطق النائية والمناطق غير الصالحة للزراعة .
٣ – الاستفادة من الأيدي العاملة المدربة في المجالات الصناعية والمهنية المختلفة .
٤ – العمل على جذب أكبر عدد من المدنيين للإقامة في المستعمرات ، والانخراط فى صفوف العمل الانتاجى والعسكرى ..

ويرأس الناحال – ويقصد بها شباب الطليعة المحارب – ضابط برتبة عقيد ، ويعمل أعضاء الناحال ما بين التدريب العسكرى والعمل الانتاجى والاستيطانى ، واعتبارا من أواخر الخمسينات تم التشديد على النشاط العسكرى فى الناحال ، فأنشأ سلاح المظلات فيها ، كما زيدت المناورات التى تقوم بها وحدات الناحال ..
وقد شاركت قوات الناحال فى حروب ١٩٥٦ ، ١٩٦٧ ، ١٩٧٣ ، وبعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ تقلصت الأعمال الاقتصادية والإنتاجية فى الناحال لصالح زيادة التأهيل العسكرى ، إلى جانب العمل الاستيطاني ..
والناحال الآن يشكل جزء من جيش الدفاع الإسرائيلى ..
ثالثا : الموشاف

وهو مصطلح عبرى يعنى قرية زراعية تكَّون فيها الأسر وحدات اقتصادية تدير قطعة خاصة بها من الأرض ، ويأخذ الموشاف شكلا تعاونيا ذو صبغة عسكرية ، وإذا وصل أحد أفراده إلى سن التقاعد يفصل لجذب عناصر شابة قادرة علي العمل الانتاجى والقتال ..
ومستعمرات الموشاف عدة أنواع :

  • موشاف شيتوفيم ( الموشاف التشاركى ) : وهى مستعمرات تعاونية لصغار الملاك ، والإنتاج في هذا الموشاف جماعى ، والملكية أيضا جماعية وفى كل شئ ، حتى فى البيوت التى يسكنها الأعضاء ، ويتم تسويق الإنتاج من خلال وحدة تعاونية مركزية ..
  • موشاف عوفيديم ( الموشاف العمالى ) : تجمع استيطاني عمالى ، تمتلك كل أسرة منزلها الخاص بها وقطعة أرض تعمل فيها بمفردها ، وقد أنشأت تلك المستعمرات على مبدأ التصرف الفردى بالأرض المستأجرة ، إلى جانب التخطيط الجماعى لعمليات الإنتاج والتسويق ..
  • موشاف عوليم ( وهى تجمعات خاصة بالمهاجرين الجدد إلى إسرائيل ) ..
    هذا عن المستعمرات العسكرية الإنتاجية التى تعمل تحت إشراف جيش الدفاع الإسرائيلى ، لكن ماذا عن الدور الاقتصادى والسياسى للجيش الإسرائيلى والعسكريين الإسرائيليين ؟!
    وهو ما يستحق حديثا آخر ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى