في الواجهة

شريعة القوة..!

سليم يونس الزريعي شريعة القوة..!

تخبرنا التجربة التاريخية لمسار التطور البشري أن الإنسان الفرد، عاش في صراع مرير مع الطبيعة، وأيضا ضد أخيه الإنسان من أجل توفير مستلزمات حياته الأساسية، لينتقل هذا الصراع من أجل استمرار الحياة والاستحواذ على أكبر قدر من الخيرات المادية، في وقت لاحق من الإنسان الفرد إلى الجماعة والقبيلة في علاقاتهما مع الجماعات والقبائل الأخرى، ارتباطا بأن مبدأ القوة هو وسيلة إنشاء الحق وحمايته.
هذه العلاقة بين القوة والحق، انتقلت من الجماعة إلى الدولة، بأن عملت على فرض إرادتها على الجماعات الأخرى (الغير) اعتمادا على قانون القوة، وتجلى استخدام هذه القوة في الحروب التي كانت تدور رحاها بين الدول من أجل التوسع والكسب، وبقيت القوة تشكل مع الظروف الأخرى العامل المحرك للعلاقات الدولية(1)، في تلك الحقبة التاريخية من عمر البشرية.
فالقوة وإن تغير مفهومها من وقت إلى آخر عبر العصور المختلفة، إلا أنها كانت عاملا أساسيا من عوامل إثارة الحروب بين الدول، في ظل سيادة ثقافة أن الحرب معطى قانوني ومشروع، في الصراع بين الدول، كون الدول هي الشخص الوحيد على صعيد الروابط القانونية الذي يمكنه خوض الحرب من أجل الحصول على المكاسب، سواء الجغرافية أو البشرية (2)، ذلك أن الدولة قبل القرن العشرين لم تكن تعرف إلا وسيلة
واحدة لتأمين الحياة والحماية، وهي الحرب التي مثَّلت أساس العلاقات الدولية، ومن ثم
ـكانت المنازعات بين الدول، تسوى عبر الحرب على أساس أنها تحتوي الحق في التوسع والكسب وحق الدفاع المشروع عن النفس(1).
إن البشرية خلال تاريخها الطويل مرت في تجارب صراع مريرة على مدى قرون، وكانت تلك الصراعات تعبيرا عن حاجات ومصالح متناقضة للدول، ومع ظهور حركة التوسع الاستعماري في التاريخ الحديث بعد الثورة الصناعية في أوروبا، المصاحب لحركة تطور النظم السياسية، عملت الدول الأوروبية التوسعية على تنظيم نفسها سياسيا، على قواعد الدول الكبرى، فدخلت في نزاعات مع بعضها البعض من أجل السيطرة والتوسع، إلا أنها لم تلبث أن أدركت أنه لا يمكن لدولة واحدة بمفردها أن تسيطر على الأرض (2)، وأن يخضع لها الآخرون، حتى لو كانت هي القوة المهيمنة المطلقة.
وفي خضم هذا التنافس الاستعماري وصعود الرأسمالية الكاسح، بعد انهيار منظومة القيم الإقطاعية، فُتح الباب واسعا لنشوء علاقات السيطرة والتبعية بين الدول القوية والدول الضعيفة، وبروز ظاهرة تصنيف الدول إلى كبرى وأخرى صغرى، تأسيسا على حجم ترسانة الدولة العسكرية (3)، وقد دلت التجربة الإنسانية على أنه إذا ما تمكنت دولة ما من زيادة قوتها، فإن ذلك يعني تهديدا لحرية ونفوذ دول أخرى، وكذلك استقلالها، بما يعنيه ذلك من دفع الأمور في اتجاه مواجهة القوة بالقوة، وفي حال عجز بعض الدول عن القيام بذلك بمفردها، فإنها تلجا بالضرورة إلى التكتل في تجمعات، كي تكون قادرة على مجابهة ذلك التحدي، الذي يواجه مجموع تلك الدول.
هذا التطور في تاريخ العلاقات الدولية، حتم اللقاء والتجمع بين الدول، وهو أمر فرضه واقع الصراع بين الدول المختلفة، إلا أن ذلك لا يمكن أن يخفي أنه قد ترتب على اكتواء الدول والشعوب بويلات الحروب، بما حملته من دمار وخراب لم يسلم منه أي شعب من الشعوب، أن جعلها تأنس وتركن إلى أهمية الوقوف إلى جانب بعضها البعض في صورة اتحادية تنظيمية، علها بذلك تتلافى الصراعات الدموية البربرية (1)، التي يكتوي بنارها الجميع.
إلا أن الاستعمار الأوروبي من خلال سياسات الضم والإلحاق التي لم تتوقف، سعَّر الخلافات بين الدول الأوروبية الكبرى بسب تباين المصالح، كون الاستعمار في مظهره العام والأساسي كان أوروبيا، فشهدت أوروبا حروبا عديدة شاركت فيها معظم دول القارة، إلا أن مرارة تجربة تلك الحروب، دفعت بعض الدول إلى السعي من أجل تقنين هذا التعارض في المصالح، من ذلك أن هناك محاولة مبكرة جرت، اتفق بموجبها ملوك إسبانيا والبرتغال بمقتضى اتفاقية “تورد يسيلاس” Tordesilas، في عام 1494 على تقسيم المناطق التي يمكن لكل من الدولتين، أن توجه إليها جهودها لاكتشافها في أقاليم جديدة، وجعلوا من حق الاكتشاف لهذه الأقاليم الأساس في حق السيادة.
إلا أن مسببات الصراع لم تنتهي، كونها أدت في مرحلة لاحقة بعد انهيار الإمبراطورية الجرمانية وازدهار حياة القوى البروتستانتية إلى نشوب حرب الثلاثين عاما(1618-1648)، التي اشتركت فيها معظم دول القارة الأوروبية آنذاك، وبانتهاء الحرب أُبرمت معاهدة وستفاليا عام 1648 (1)، لكن توقيع المعاهدة لم يمنع عودة الصراع مجددا، وهذه المرة بين فرنسا وبريطانيا، ليعودا ويؤكدا في اتفاقية وايت هول عام 1686علی مبدأ مفاده، أن الصراعات حول الأقاليم المستعمرة يجب أن لا تؤثر على العلاقات السلمية في أوروبا (2).
واستقر الوضع في أوروبا على تلك الحال من العلاقات السلمية، إلى أن سعت فرنسا في عهد لويس الرابع عشر إلى توسيع ممتلكاتها على حساب الدول الأوروبية المجاورة، ليشكل ذلك التصرف، إخلالا بالمبدأ الذي كان قد أقره مؤتمر وستفاليا عام 1648، الذي تمثل في “مبدأ توازن القوى”، بما يعني ذلك من رفض التوسع على حساب الدول الأخرى، لكن إخلال فرنسا بذلك المبدأ، أدى إلى قيام تحالف بين الدول الأوروبية الأخرى ضد فرنسا، ومن ثم محاربتها.
وهي الحروب التي عصفت بالقارة الأوروبية وساهمت في خلق مناخات، من رحمها جاءت الثورة الفرنسية عام 1789، بكل ما حملته من مبادئ وأفكار، حول حق الأمم في اختيار النظام السياسي الذي يروق لها، ولا شك أن تلك الأحداث قد لعبت دورا مركزيا في تغيير الوضع الذي كانت عليه العلاقات الدولية في أوروبا في القرن الثامن عشر.
لكن الخشية من أفكار ومبادئ الثورة الفرنسية دفعت الدول الأوروبية الملكية آنذاك، إلى العمل ضد الثورة ومبادئها بالتكتل في مواجهتها للحد من؛ ومنع انتقال تلك الأفكار إلى شعوبها، إلا أن ذلك المد للثورة الفرنسية قلبه نابليون من فكرة لتحرير الشعوب الأوروبية إلى فكرة لاستعبادها، من خلال سعيه إلى خلق إمبراطورية بزعامة فرنسا عبر الحرب، عندما قام
باجتياح الدول الأوروبية، وهو الأمر الذي رفضته تلك الشعوب، وانحازت على ضوء ذلك باتجاه تأييد ودعم والوقوف مع ملوكها وأمرائها في حربهم ضد نابليون حتى تمت هزيمته (1)، لتطوى بذلك إحدى صفحات التاريخ الأوروبي الدامية.
إلا أن النهم الاستعماري الذي حكم سياسات الدول الأوروبية لم يقف عند حد، بعد أن تمكنت الدول الاستعمارية الأوروبية، من الاستيلاء على أراض تربو مساحتها بنحو 20 مرة أو 100 مرة قبل الحرب العالمية الأولى، من ذلك أن ألمانيا استحوذت على مستعمرات تزيد مساحتها عن 2 مليون كيلو متر مربع، وكانت الدول الأخرى تستحوذ حتى عام 1936 على مساحات شاسعة من المستعمرات، فبريطانيا بلغت مساحة مستعمراتها 34 مليون كيلو متر مربع، وتعادل مساحة بريطانيا التي تبلغ 245 ألف كيلومتر مربع، 140 مرة.
أما بلجيكا ومساحتها 30 ألف كيلو متر مربع، فكانت مساحة مستعمراتها، 2 مليون و400 ألف كيلو متر مربع، فيما بلغت مساحة مستعمرات هولندا التي لا تتجاوز مساحتها 34 ألف كيلو متر مربع، 2 مليون و20 ألف كيلو متر مربع، وكانت مساحة مستعمرات البرتغال التي تبلغ مساحتها 88 ألف كيلو متر مربع، 2 مليون و27 ألف كيلو متر مربع، أما فرنسا ومساحتها 451 ألف كيلو متربع مربع، فبلغت مساحة مستعمراتها 12 مليون و170 ألف كيلو متر مربع، أما مساحة مستعمرات إيطاليا فبلغت 2 مليون و19 ألف كيلو متر مربع، فيما مساحتها 312 ألف كيلو متر مربع(2).
أي أن تلك الدول الأوروبية الست المتنافسة، التي تبلغ مساحتها مليون و160 ألف كيلو متر مربع، كانت تستعمر دولا مساحتها 54 مليون 636 ألف كيلو متر مربع، وتعادل 47 ضعف مساحة الدول الاستعمارية الأوروبية الست.

ولذلك فإن عملية النهب والاستحواذ الاستعماري فاقمت من حدة الخلافات بين الدول الأوروبية الكبرى، إلا أن الخشية من دوامة الحروب على المسرح الأوروبي جعلت الدول الأوروبية تلجأ إلى سياسة توازن القوى عبر إبرام المعاهدات العسكرية، إلا أن نتائج تلك الاتفاقات جاءت عكسية، لأنها ساعدت على ازدياد العداوة بين الدول التي سارعت إلى عقد الاتفاقات الثانية مثل الاتفاق الإيطالي الفرنسي عام ۱۹۰۲ والاتفاق الفرنسي البريطاني عام 1904، والاتفاق الفرنسي الروسي عام ۱۹۰۷(1)، منشئة بذلك حالة من الاستقطاب بين الدول في مواجهة بعضها البعض.
وأي إطلالة على مسرح العمليات العسكرية في القارة الأوروبية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تمكننا من أن نستخلص، أن الحروب الدولية الكبرى؛ ولا سيما الحروب العالمية، وسواء کان کِبَر تلك الحروب يعود إلى اتساع رقعتها، أم بسبب تعدد الأطراف المشاركة فيها، فإن تلك الحروب في النتيجة كانت تخرج بتوزيع جديد للقوى المشاركة في العمليات العسكرية، الذي بدوره يفرز جماعة مسيطرة جديدة “نظام عالمي” جديد يجري ترسيخه في معاهدة دولية، وهو ما حصل في معاهدة وستفاليا عام 1648، وأوترخت عام۱۷۱۳، ومعاهدة فيينا عام ۱۸۱۵(1).
ومن ثم فقد كان لويلات الحروب التي اكتوت بنارها البشرية الأثر البالغ على حركة التنظيم الدولي وأسلوبه، لأن الإنسان منذ بداياته الأولى كان يسعى إلى التوسع والتملك، ليستمر ذلك معه عندما بدأت ظاهرة الدولة تنمو وتستشري ككيان يتجه غريزيا نحو السيطرة وبسط النفوذ، ومع ما طرأ على العالم من تطور علمي فاق حدود المتوقع وفق علاقات ذلك العصر، بدأت الدولة تضع في اعتبارها ذلك المستقبل المجهول والمدمر، إذا ما طرأت في مخيلتها فكرة الدخول في حرب مع الدول الأخرى، هذا التخوف الموضوعي جعلها تتنبه إلى أهمية إقامة علاقات تفاهم مع الدول الأخرى، من أجل الوصول إلى نتائج من شأنها أن ترضي كل الأطراف، وتجنب الجميع الدخول في الصراع والحرب (1)، بنتائجها وآثارها المدمرة.
وإذا كان التقدم العلمي في جوانبه المختلفة قد مكن البعض من زیادة قوته المادية، وكان سبيلا إلي كسب مزيد من الأقاليم عبر التوسع الاستعماري خارج القارة الأوروبية، فقد جرى تطور مواز كذلك في الأفكار، فبدا أن وجهات نظر نادي بها الفقه القانوني لتحديد مفهوم الحرب قد وجدت لها صدى، وذلك للتفرقة بين الحرب العدوانية، والحرب المشروعة، وسط مناخ فكري وسياسي تسود فيه مشروعية الحق في الحرب.
وأمام النتائج المدمرة التي لحقت بالبشرية جراء تلك الحروب، التي كانت تخدم في الأساس الطبقات الحاكمة، جرى التفرقة في الفقه بين الحرب العدوانية والحرب الدفاعية، عندما رأى فريق من الفقه أنه من الضروري التفرقة بين الحرب التي تمثل جريمة دولية والحرب الدفاعية التي تعتبر عملا مشروعا، وذلك في ظل افتقار المجتمع الدولي في حينها إلى سلطة عليا تعمل على حفظ الأمن وتمنع الاعتداء.
فيما اتجه جانب آخر من الفقه إلى تحريم الحرب مطلقا، والاستعاضة عن اللجوء إلى الحرب، بالتوجه نحو حل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية، وهذا التوجه نحو حل الخلافات سلميا أثمر عن توقيع عدة اتفاقات دوليه، تمنع اللجوء إلى الحرب كوسيلة لحل النزاعات أولا، وكانت البداية التعاهد الجرماني عام 1815، الذي تعهدت فيه الأطراف المتعاهدة بعدم اللجوء إلى القوة لحل النزاعات القائمة فيما بينها، إلا بعد عرض النزاع على محل التعاهد(۱)، ولتشكل تلك الخطوة، محطة مفصلية في تاريخ العلاقات الدولية.
هذا على صعيد المحاولات الأوروبية لإيجاد وسيلة لمنع وقوع الحروب، في ظل التنافس الاستعماري بينها طوال ما قبل القرن العشرين، إلا أن هناك في الجانب الغربي من الكرة الأرضية كان التوسع الأمريكي يتوجه بصورة أساسية إلى أمريكا اللاتينية بدعوى أنها منطقة نفوذ أمريكية خالصة، أكد وشرع ذلك مبدأ مونرو الذي يمكن تلخيصه في كلمتين “أمريكا للأمريكيين”، الذي هدف بشكل أساسي إلى منع القوى الأوروبية من التدخل المباشر في القارة الأمريكية(۲)، من أجل أن تبقى تلك القارة منطقة نفوذ وقفا على الولايات المتحدة الأمريكية دون غيرها.
وسياسة التدخل هذه مثلت سياسة مستمرة، مارسها الرؤساء الأمريكيين تحت شعار الدفاع عن المصالح الأمريكية الواسعة وغير المحدودة في مناطق أمريكا اللاتينية، التي لا يزكيها أي مبرر دستوري(1)، يشرعه الدستور الأمريكي نفسه، وهي هنا سياسة ممتدة في التاريخ الأمريكي، تجاه دول أمريكا اللاتينية مما دفع بالقائد الفنزويلي سیمون بوليفار إلى التعبير عن ذلك الواقع في 17/12/۱۸۳۰بقوله: “يبدو أن الولايات المتحدة قد عينتها السماء من أجل قهر أمريكا اللاتينية باسم الحرية”(1).
ونخلص إلى القول أن انفلات القوة من معاييرها القانونية والأخلاقية وأدلجة استخدام القوة في مواجهة الشعوب والدول، تحت مسمى الحق في الحرب، قد خلطت المفاهيم بين الحق في الدفاع عن النفس، بما فيه الحرب من أجل التحرر من الاستعمار وتقرير المصير، وبين الحرب التي تشن بهدف العدوان وخدمة مصالح الدول، هذا إضافة إلى أن حق الدفاع المشروع قد ارتبط بفكرة موازية، وهي حظر اللجوء إلى القوة، إلا أن تحريم اللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية، كان لا بد أن يقترن بوجود مرجعية دولية (تنظيم دولي)، مزود بنظام متكامل من وسائل القوة الكفيلة بتأمين قراراته والمحافظة على السلم العالمي(3)، وهو الذي لم يكن متوفرا في تلك القرون.
————————
المصادر
1- -د. مصطفى أحمد فؤاد، مصدر سبق ذكره، صفحة 8.
2- – د. محمد شوقي عبدالعال، الطبيعة الأيديولوجية للقانون الدولي العام، قضية لوكربي، ومستقبل النظام الدولي، منشورات مركز دراسات العالم الإسلامي، الطبعة الأولى 1992، صفحة 13.
1- -د. مصطفى أحمد فؤاد، مصدر سبق ذكره، صفحة 72.
1- د. عبدالسلام صالح عرفة، مصدر سبق ذكره، صفحة12.
2- مالك أبو زيد، الإرهاب الدولي بين الواقع والتشويه، المركز العربي للنشر والتوزيع والدراسات، باريس، الطبعة الأولى 1982، صفحة 88.
3- بروستر ك. ديني، ترجمة د.ودودة عبدالرحمن بدران، مصدر سبق ذكره، صفحة 56.
1- مالك أبو زيدـ، مصدر سبق ذكره، صفحة 88.
2- د. محمد عزيز شكري، مصدر سبق ذكره، صفحة 182.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى