شركات تسيطر على الزراعة و صناعة الغذاء العالمية
الطاهر المعز
يضطر يومِيًّا نحو 180 ألف شخص إلى مغادرة أراضيهم التي يزرعونها في أرياف العالم، والذّهاب، بشكل مُؤقت أو دائم، إلى المُدُن بحثًا عن عمل، لأنهم لم يعودوا قادرين على إعالة أنفسهم وعائلاتهم من العمل بقطاع الفلاحة الذي أصبحت تهيمن عليه الشركات العابرة للقارات، والتي تستخدم التكنولوجيا والمُبيدات والزراعات المُعدَّلَة جينِيًّا، مُتسبِّبَةً في القضاء على الغابات وعلى الزراعات العضوية التّقليدية، التي تُحافظ على خصوبة التربة، وتُقاوم الآفات مقاومة طبيعية…
تمكّنت الشركات العابرة للقارات، خلال أقل من عِقْدَيْن (من 2001 إلى 2018) من الإستيلاء على نحو 765 مليون هكتارا من الأراضي الزراعية بهدف إنتاج المحاصيل الزراعية (حبوب وخضروات وفواكه ومنتجات الألبان واللحوم والزيوت) وأعلاف الحيوانات، والوقود الحيوي، وتقع نسبة حوالي 40% من هذه الأراضي بقارة إفريقيا، واشترت هذه الشركات نصف المساحات الصالحة للزراعة بجزيرة مدغشقر، وحوالي سبعة ملايين هكتار بالسّودان، أو ما يُعادل نسبة 10% من مجمل الأراضي التي اشتراها مستثمرون أجانب بالعالم، حتى سنة 2016، ومساحات شاسعة من أراضي الحبشة وتنزانيا ومالي والكونغو (كينشاسا) وغيرها، فضلا عن استحواذ هذه الشركات على أراضي زراعية بآسيا وبأمريكا الجنوبية، لإنتاج أغذية مُعَدّة للتّصدير، بتكلفة رخيصة، تُباع في أسواق الدول الرأسمالية المتطورة بأسعار مرتفعة، وتوقّع الشركات عُقُودَ إيجارات طويلة الأجل، تتراوح بين 25 و 99 سنة.
نشر موقع “سينتفيك أمريكان” (بنهاية سنة 2016)، دراسة تُفيد أن الشركات العابرة للقارات ذات المَنْشَأ الأمريكي، هي أكثر الشركات استحواذًا على أراضي بلدان آسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا، وحتى أوروبا الشرقية، مُتَقَدِّمَةً على الشركات الصينية والبريطانية، وأنشأت بعض هذه الشركات الأمريكية فُروعًا لها بإفريقيا (أو مناطق أخرى من العالم)، تبدو من عناوينها وكأنها شركات محلية إفريقية، منها “شركة النّيل للتجارة والتّنمية”، ومقرها تكساس، أشرفت على شراء ملايين الهكتارات، ضِمْنَها مساحات شاسعة في السُّودان الذي يحتل المرتبة الرابعة عالميا، بعد الكونغو الديمقراطية وأندونيسيا والفلبين، في مجال التّفريط في الأراضي الزراعية، وطَرْدِ صغار المُزارعين منها، وتم بَيْعُ نسبة 23% من مساحة الأراضي الزراعية بالسّودان، بواسطة عُملاء (وُكلاء) مَحلِّيِّين…
أصْدَر مركز الدراسات الإستراتيجية العالمية ( CSIS )، دراسة تُشير إلى الضّغُوط التي مارستها الولايات المتحدة على السودان، قبل توقيع اتفاقية انفصال الجنوب (وٌقِّعت الإتفاقية سنة 2005، ليتم الإنفصال الفعلي سنة 2011) لكي يُقِرَّ قانونًا يسمح بِبَيْع الأراضي الزراعية إلى الشركات والدّول الأجنبية، وأقرّت الحكومة تشريعًا أصبح ساري المفعول، سنة 2013 بذريعة تشجيع الإستثمارات الأجنبية، وفرضت الدّول الإمبريالية ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من المنظمات، خروج هذه الأراضي، التي تبيعُها أو تُؤَجِّرُها البلدان الفقيرة، عن سيطرة الدّولة المَحَلِّيّة، لتصبح خاصعة لقوانين دولة منشأ الشركات، وكأنها مُستَوْطَنات استعمارية، أو سفارات فَرْعِية تتمتع بالحصانة الإقتصادية والسياسية، كما تجلب معظم الشركات مُهندسين وفَنِّيِّين أجانب، لتقتصر مهام أصحاب الأرض الشرعيين على العمل الزّراعي، في أسفل درجات السّلّم، مع مخاطر التّعَرُّض للإصابة بالأمراض الخطيرة، منها بعض أخْطَر أنواع السرطان، جَرّاء التعامل المستمر مع مُبيدات الأعشاب والحَشرات…
قدّرت منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية والزراعة (الأمم المتحدة) قيمة سوق المبيدات العالمي بحوالي 500 مليار دولار سنويا، وحجم المبيدات المُخزّنة (سنة 2017) بحوالي خمسمائة ألف طنا في العالم، لكن اللجوء لاستخدام المبيدات الزراعية في البلاد النامية ليس خيار صغار المزارعين، بل هو خيار الشركات العابرة للقارات التي تستغل الأرض والموارد، وكذلك الإنسان، بالبلدان الفقيرة، بهدف تحقيق الحدّ الأقصى من الرِّبْح، ويُشكل استخدام المبيدات خطراً على السكان والطبيعة، وبحسب المنظمات البيئية والإنسانية، تُؤَدِّي عملية الإستحواذ على الأراضي وتغيير نوع الزراعات وأشكال الإستغلال المُكثّف، واستخدام المُبيدات، إلى “تهديد الأمن الغذائي العالمي” والإستهتار بصحة العاملين والسّكّان، والبيئة والمحيط، بذريعة تحسين نوعية وحجم المحاصيل، وتُهمل الشركات إعلام العاملين والسّكّان بمخاطر ومَضارّ مُكَوّنات المبيدات من السُّمُوم، ولا تُوفِّرُ لهم معدات الحماية من أقنعة للوجه وقفازات لليدين، ولا تُخصّصُ لهم دَورات تدريبية بخصوص طُرُق تخزين واستخدام المواد الكيميائية، والتخلص من الأوعية الفارغة، بحسب منظمة “السلام الأخضر” (غرين بيس) التي أشارت تقاريرُها إلى ارتفاع عدد المستخدمين الأمِّيين لهذه المبيدات الخطيرة، فهم لا يستطيعون قراءة التعليمات وفهمها، لحماية أنفُسِهم، إن توفّرت لهم وسائل الوقاية…
أفادت الأبحاث الإستقصائية التي نشرتها منظمة “عين الجمهور” ( Public Eye ) أن الشركات المُسَجَّلَة بسويسرا (أي عنوانها القانوني بسويسرا) تمتلك أكثر من 550 مزرعة تغطي أكثر من 2,7 مليون هكتار في أنحاء مختلفة من العالم، سنة 2017، أو ما يُعادل ستة أضعاف مساحة الأراضي الصالحة للزراعة المتاحة في سويسرا، وتُتاجر هذه الشركات بمواد غذائية ينتجها عُمّال زراعيون فُقراء في إفريقيا (أوغندا والكونغو مثلاً) وآسيا (إندونيسا وكمبوديا) وأمريكا الجنوبية (البرازيل وهندوراس)، منها البُن والحمضيات وفول الصّويا والسكر وزيت النخيل والموز والأرز، ومنتوجات أخرى، تستخدم للإستلاك البشري أو الحيواني (أعلاف)، أو لاستخراج الوقود الحيوي، وتختار الشركات العابرة للقارات أنواعًا من الزراعات التي تجلب أرباحًا كبيرة، باستخدام عدد قليل من العاملين، ما يُخفّض من الإنفاق ومن احتمال الإضرابات، احتجاجًا على الإنتهاكات العديدة لحقوق العاملين،التي تَتراوح بين الافتقار إلى العُقُود وللرواتب المُجزية، وفَرْض العمل القسري وعمالة الأطفال، وتعريض جميع العاملين لمخاطر صحية، في غياب شُرُوط السّلامة بمكان العمل، فيما تُعتبر ممارسات الفساد والتهرب من الضرائب وتهريب الأموال، أُمورًا شائعة لدى هذه الشركات العابرة للقارات التي تتخذ العديد منها سويسرا مقرًّا لها، بفضل التسهيلات الضريبية والمصْرِفِية، وتختار شركات المضاربة بالأغذية سويسرا مقرًّا لها، لأن ما لا يقل عن 50% من تجارة الحبوب العالمية و 40% من تجارة السكر وما لا يقل عن 30% من تجارة الكاكاو المتداول عالمياً، وما لا يقل عن 33% من تجارة القهوة، وأكثر من 25% من تجارة القطن، تمر عبر سويسرا، فيما يسمى بتجارة العبور، بحيث لا تظهر البضائع المتداولة عبر سويسرا في إحصاءات الاستيراد والتصدير، بحسب منظمة “عين الجمهور” التي أفاد تقريرها أن العديد من تجار المنتجات الزراعية المقيمين بسويسرا، يُعتَبَرُون “مديرين عالميين لسلسلة قيمة عالمية.”
أشارت منظمات عديدة، منذ حوالي ثلاثة عُقُود، إلى التهديد الذي تُمثّله الشركات العابرة للقارات للتنوع البيولوجي، ما قد يُؤدّي إلى اختفاء البذور التقليدية التي تكَيّفت مع المناخات المحلية، ومما يُقوّض الأمن الغذائي للعديد من البُلدان الفقيرة، وأشارت بعض منظمات المُزارعين بأمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا إلى أهمية البذور في النظام الغذائي اليومي، فيُشكّل الأرز والقمح والذّرة حوالي نصف الإحتياجات الغذائية لإجمالي سكان العالم، لكن سياسات الشركات العابرة للقارات أدت إلى القضاء على التّنوع البيولوجي للنباتات والحيوانات التي كانت الأجيال السابقة، حتى منتصف القرن العشرين، تستخدم منها حوالي عشرة آلاف نوعًا، لينخفض العدد فأصبحت نسبة 90% من الغِـذاء العالمي تعتمد على نحو 15 نوعا فحَسْب من البذور، بسبب “الإستعمار الزراعي” الذي يعتمد على إنتاج وترويج المنتجات المُعدّلة وراثيا والمُعالَجة بالمُبيدات الخطيرة، في مزارع كُبْرى، لا تُنتج لتلبية حاجيات السُّكّان المحليين في البلدان الفقيرة، بل لتصدير الإنتاج إلى أسواق الدول الغنية، وبيعه بأسعار مرتفعة، ما يُهدّد الأمن الغذائي العالمي، وتُسيطر عَشْرُ مجموعات تجارية على نحو 70% من الإنتاج العالمي للبذور، وعلى تجارة الإنتاج الزراعي، مع التركيز على الزراعات الغذائية الأكثر إنتاجا ورِبحا، وهي الزراعات التي تتطلّـب كميات كبيرة من مياه الريّ ومن الأسمِـدة الكيماوية ومن المُـبيدات الحشرية…
في المُستعمَرة البرتغالية السابقة “غينيا بيساو” (غربي إفريقيا، قريبا من جنوب السينغال) استحوذت شركة عابرة للقارات (بدعم وتواطؤ من الحكومة المَحَلِّيّة) على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، وشرّدت صغار المزارعين التقليديين المُستقرين هناك منذ أجيال، دون أن تكون لهم عُقود تملّك، لأن الأرض مِلْكٌ مشاع، وأصبحت غينيا بيساو محطة انطلاق لبرامج السطو على الأراضي الزراعية في منطقة غربي إفريقيا، ولحِرمان التجمّعات الريفية في إفريقيا من آلاف الهكتارات من الأراضي الخصبة، ويحدث نفس الأمر بمدغشقر وكينيا، ما يُؤَدِّي إلى طرد صغار الفلاحين الذين كانوا يُحافظون على البذور ويُؤمّنون نحو 80% من غذاء السكان بتكاليف منخفضة.
في الهند، تُسيْطِرُ شركتان عالميتان على سوق بُذُور القُطْن، ما جعلها تُسيطر على نحو 90% من الإنتاج الإجمالي للقُـطن، فتمكّنت بذلك الشركتان من فَرْض شُروطهما على المُـزارعين الذين أجْبِروا على اعتماد تقنية الزراعة المكثّفة وعلى اختِـيار الأصناف الزراعية، التي تحتاج إلى كميات وفيرة من مياه الريّ ومن الأسمدة ومن الكيماويات الزراعية الأخرى، من أجل تحقيق زيادة الإنتاج، أملاً بمواجهة الإرتفاع المستمر في أسعار البذور، واضطر العديد من المزارعين إلى الإقتراض، وأُجْبِرَ بعضهم على بيع مزارعهم، أي مصدر عيشهم، ما دَفَعَ نحو عشرين ألف مزارع إلى الإنتحار، كل سنة…
بيل غيتس واصطياد الفُرَص:
يُعْتَبَرُ “بيل غيتس”، أحد أثْرَى أَثْرِياء العالم، ليس بفضل الإستثمار الفلاحي، ولكن بفضل الإستثمار في مجال التكنولوجيا الحديثة، فهو مؤسس شركة “مايكروسوفت”، وهو من أخطر الديماغوجيين في العالم الذيُتْقِنُون فنون الإتصال والإعلام المُضَلِّل، حيث تَمَكَّنَ من نشر خطاب “إنساني” (صدّقه العشرات وربما المئات من الملايين)، وادّعى أن وَهَبَ كل ثروته للمنظمات الإنسانية وللأعمال الخيرية، وهو في الحقيقة مُستثمر خبيث يكدّس الأرباح بقناع إنساني، فاستثمر في قطاع الصحة، مع أكبر الشركات العابرة للقارات، واستثمر في قطاع الزراعة، وهو موضوع هذه الفَقْرَة، إذ لم يُمارس بيل غيتس قط مهنة الفلاحة، ولكنه مُستثمِرُ ماهر يَميل حيث تكون الأرباح مرتفعة، ويعتبر الأراضي الزراعية أُصُولاً تدر عليه ثروة طائلة، ففي سنة 2017، اشترى 61 عقارًا زراعيا في كندا، بقيمة نصف مليار دولار، واشترى سنة 2018 أراضي السّكّان الأصليين لأمريكا الشمالية، بمنطقة قريبة من واشنطن، وأراضي أخرى صالحة للزراعة، انتقلت ملكيتها من مجموعة أخرى من السّكّان الأصليين، إلى بيل غيتس، تعادل مساحتها ضِعْفَي مساحة جزيرة هونغ كونغ، بحسب صحيفة “غارديان” (15 نيسان/ابريل 2021)، وبذلك يُواصل “بيل غيتس” ممارسة السياسات الإستعمارية التي طَبّقَها المُستعمِرُون المُستوطنُون الأوروبيون الأوائل بأمريكا، مع تغييرات في الشّكل تُلائم العَصْر، حيث لا يرتكب المجازر الجماعية لِإبادة من بقي حيًّا من أحفاد السكان الأصليين، لكنه يسلبهم ما تبقّى من أرضهم، بأسعار رمزية، مقارنة بقيمة الأرض الحقيقية التي يُدْرِكُها بيل غيتس وشركاؤه في مجموعته الإستثمارية “كسكاد إنفستمنت”، والشركات الأخرى التي يمتلك بها أَسْهُمًا، في مجالات البروتين النباتي وتصنيع المُعدّات الفلاحية، ويدّعي بيل غيتس أنه يستثمر في الأراضي الزراعية كمساهمة منه في خفض انبعاثات الغازات، كما أن الإستثمار في الزراعة استثمار مُستدام ويُساهم في زيادة الإنتاجية الزراعية والإيرادات.
وَرَدَ في بداية الفَقْرَة أن بيل غيتس أحد أثرى أثرياء العالم، وبحسب دراسة نشرتها منظمة “أوكسفام” لعام 2020 أن أغنى 1% في العالم يتسببون في انبعاثات تُعادل ضعفي انبعاثات الكربون التي يتسبب بها أفقر 50% من البشر، ووفقا لمجلة “فوربس”، شهد أثرياء العالم ارتفاع ثرواتهم بمقدار 1,9 تريليون دولارا خلال سنة 2020، سنة انتشار وباء “كوفيد -19″، فيما فَقَدَ حوالي 200 مليون عامل وعاملة وظائفهم، منهم حوالي 10% من العُمال بالولايات المتحدة (معظمهم من النساء)، سنة 2020، سنة انتشر وباء كورونا، وسنة الحجر الصحي والحبس المنزلي…
هيمن أصحاب الثروات على المصارف وشركات الخَدَمات، وعلى الشركات الصناعية والتكنولوجية، وأصبح أثرى أثرياء العالم يحتكرون الأراضي الزراعية، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وخاصة منذ 2007/2008، حيث تحولت ملكية المزارع الصغيرة إلى شركات الزراعات الصناعية، فأصبحت نسبة 1% من الشركات الزراعية الإحتكارية العالمية (العابرة للقارات) تسيطر على 70% من الأراضي الزراعية في العالم، ويُعْتَبَرُ بيل غيتس أحد هؤلاء المُحْتَكِرِين للأرض الزراعية في العالم، فضلا عن احتكار صناعة الأدوية واللقاحات، وغيرها من القطاعات الإستراتيجية، التي لا تهتم بالأمن الغذائي ولا بمستقبل الأجيال القادمة ولا بالبيئة…
استخلاصات:
نشر المعهد الدولى لبحوث برامج الغذاء ( IFPRI ) في تشرين الأول/اكتوبر 2009، دراسة تُشير إلى مخاطر استحواذ الدول الغنية وشركاتها العابرة للقارات على الأراضى الزراعية فى الدول الفقيرة، وهي الظّاهرة التي تفاقمت بعد أزمة 2007/2008 (أزمة غذاء متبوعة بأزمة مالية واقتصادية )، حيث ارتفعت أسعار المنتجات الزراعية والسلع الغذائية الأساسية، واستغلت هذه الشركات الوضع لتستثمر في القطاع الزراعى، ما زاد من الإستيلاء على الأراضي الزراعية بالبلدان الفقيرة، بتواطؤ مع البرجوازيات الكُمْبْرادُورِيّة الحاكمة، وتستغل هذه الأراضي والظروف المناخية المعتدلة وانخفاض الرواتب، لإنتاج سلع يتم تصديرها بالكامل، وهي سلع تُنْهكُ الموارد المحلّيّة من تربة ومياه عذبة، وتنهك العاملين، فضلا عن استخدام جزء من الإنتاج الفلاحي لاستخراج الطاقة، في حين ازداد حجم واردات الغذاء بالعملات الأجنبية في بُلدان قادرة على تحقيق الأمن الغذائي من الإنتاج المحلّي، وتحقيق السيادة الغذائية، لو توفرت الإرادة السياسية، ومن هذه البلدان التي لم تستفد حتى من تشغيل بضعة آلاف من العاملين، الفلبين والسودان وموزمبيق ومدغشقر، حيث تستجلب الشركات الصينية عُمّالا من الصين التي تستحوذ شركاتها على مساحات كبيرة في آسيا (الفلبين) وفي إفريقيا (زيمباوى والكونغو الديمقراطية وزامبيا والكاميرون…)، كما استأجرت أراضي في أوكرانيا، منذ 2008، ولا يقتصر هذا الإجتياح على الصين، بل تُؤجِّرُ الشركات اليابانية أراضي زراعية بالخارج، منذ أكثر من قَرْن، فيما تُؤَجِّرُ بريطانيا والسويد والدنمارك وكوريا الجنوبية أراضي في البلدان الفقيرة، لزراعة منتجات تُستخدم في إنتاج الوقود الحيوى…
تدّعي الشركات العابرة للقارات أن التكنولوجيا الحيوية، والمنتجات الزراعية المُعَدّلَة وراثيا هي الحلّ الأمثَل وربما الوحيد “لزيادة الإنتاجية ولتحسين المحاصيل” (بقطع النّظر عن القيمة الغذائية المنخفضة جدًّا لهذا الإنتاج)، وتُساندها في ذلك الشركات المنتجة للمُبيدات التي تدّعي إنها تُقدّم “خدمةً للإنسانية، لأن استخدام المبيدات يُمكن من زيادة إنتاج الأغذية لتلبية حاجة الأعداد المُـتزايدة من السكان، ويُمَكِّنُ من مقاومة الآفات والحشرات الضّارّة…”
في الواقع يندرج هذا الإستثمار ضمن استغلال الدول الغنية لأراضى الدول الفقيرة، فتستفيد الدول الإستعمارية من عائدات الاستثمار الزراعى، فيما يتم حرمان سُكّان البلدان الفقيرة من إنتاجها الغذائي، ما يَحُولُ دون تحقيق الأمن الغذائي، فضلا عن عدد هام من المخاطر الأخرى مثل القضاء على التنوع البيولوجي، إذ يتطلب استمرار التنوّع البيولوجي، إعادة الإعتبار لجهود المُزارعين في الحفاظ على البذور وتنميَـتها وتبادُلها، بدلا من تشجيع هيْمنة الشركات متعدِّدة الجنسيات التي تتلاعب بحياة المُزارعين وبمستقبل الإنسانية، وعلى سبيل المثال فقد حافظ بعض المُزارعين في غينيا بيساو على صنف من البذور المحلية للأرز الذي تأقْلَمَ مع المناخ المَحَلِّي، فأصبح له نوع من السّعَف الذي يخيف الطّيور، لأنه حادّ وقد يتسبب بجروح لها، ما يُبعِدُها عنه، وتُظهر التجارب في النظم الغذائية المستدامة أن الزراعة يمكن أن تقدم حلولاً لإطعام البشرية، مع حماية موارد الكوكب والمياه والتربة والهواء والتنوع البيولوجي، لكن الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات لا تهتم بهذه المواضيع التي لا تُعَظِّمُ أرباحها…