تعاليقرأي

مقابر و منازل

خليل قانصوه
طبيب متقاعد

تشكل دراسة المقابر جانبا هاما في العلوم الإنسانية و الإجتماعية ، تحت عنوان الإنتروبولوجيا التي تجتذب بعض الأطباء . ولكننا لا ندّعي الإلمام بهذا الإختصاص ، فما نحن بصدده في هذا الفصل هو أقرب إلى الشهادة عيانا ،عن تحولات و متغيرات طرأت على قرية في لبنان في منطقة جبل عامل من خلال مقارنة بين المقبرة فيها كما كانت حتى سنوات 1960 و كما هي اليوم .
من المعروف أن المقبرة تعتبر مصدرا للمعلومات عن الحياة الإجتماعية بمفهومها الشامل للنواحي الثقافية و الماديةو السياسية و الدينية والصحية ، إلى حد أن بعض الباحثين يرون فيها تجسيدا للتوازن في فترة معينة بين سلطة الدولة و سلطة الدين و تأثير الفكر في المجتمع .
نكتفي بهذه التوطئة لنرتجع ما علق في الذاكرة عن مقبرة القرية :
ـ كانت المقبرة تحتل مساحة محدودة ، محاذية لساحة القرية، حيث كانت القبور ترابية أو مبنية من حجر أو من اسمنت ، بنسب متقاربة . فلا نبالغ في القول أنها كانت ” مساحة خضراء ” في وسط القرية ،فيها عدد من الأشجار الوارفة ، يلتقي فيها الأولاد للعب ، ولم يكن مستغربا أن يُطوّل فلاح لدابتها فيها .
ينطبق في الواقع ، على المقبرة في القرية العاملية مصطلح المجمّع . بدليل وجود ناد “حسينى ” على ارضها ، تقام فيه مراسم الصلاة على المتوفي و مجالس العزاء ، بالإضافة إلى الندوات الحزبية العائلية . يحسن التذكير أن مجتمع القرية كان منقسما آنذاك إلى فريقين عائليين ، لكل منهما رايته التي يخرج خلفها في المناسبات إلى قصر الزعيم تعبيرا عن الولاء له ، و لكن كان هناك راية موحدة ترفع عندما يكون الفريقان متوافقين على موقف مشترك ، يخترق حدود الحزبية العائلية . ما يتوجب قوله أن هذه الرايات الثلاث كانت توضع معا في إحدى زوايا النادي الحسيني ، الذي كانت أبوابه مفتوحة دائما للجميع في وقت واحد أو مداورة في المناسبات الحزبية ، و كان الأولاد بلعبون في فصل الشتاء في بهوه .
الجدير بالملاحظة أيضا أن المجمّع كان يحتوي على بئر ، تسمّى ” بئر الحمير ” كانت ترمي فيها الحيوانات النافقة ، ثم تقفل شقوق غطائها بإحكام بواسطة الطين . هنا لا بد من القول أن القرية كانت نظيفة ، نتيجة نظام عيش مشترك ، فلاحي ، يتيح تدوير جميع الفضلات دون استثناء (الفضلات البشرية والحيوانية : الماشية و الحمير و الدواجن ) .
نصل الآن في هذه الشهادة العيانية إلى و صف القبر . لمحنا إلى أن القبور كانت ما تزال في غالبيتها ترابية أو حجرية يمكن تفكيكها و إعادة أستخدامها أما القبور الإسمنتية فكانت قليلة ومتواضعة في أغلب الأحيان .
ما أن كان المنادي يعلن نبأ وفاة أحد سكان القرية ، حتى يتجمع عدد من الفلاحين في المقبرة ، بعد أن يكونوا قد أخرجوا أدوات الحفر المودعة هي الأخرى ، في النادي الحسيني ، ليختاروا مكانا مناسبا لدفن المتوفي ( بالقرب من أقربائه و ابناء عائلته . تحسن الملاحظة إلى أن درب مشاة تفصل مربعي الجبانة الفوقانية و الجبانة التحتانية ، حيث كان لكل لمربع موتاه على اساس الحسب و النسب ، نزولا عن رغبة ذوي المتوفي ) .
الجدير بالذكر أن الذين يحفرون القبر كانوا يجدون غالبا في الحفرة بقايا عظام بشرية ، مجهولة الهوية ، دليلا على قِدم السكن في القرية ، و على غياب وثائق تبين ذلك ، ناهيك من إفتقاد دولة مدنية تعنى بالأحوال الشخصية و بإعداد و حفظ مدوناتها . أما عن السلطة الدينية فحدث عن فشلها الذي لا يضاهيها فيه إلا دولة سلطان العسكر .
من المعروف في هذا السياق أن المتوفي المسلم يُنزل متلففا بثوب عتيق ، إلى مثواه الأخير . و هذا كان عبارة عن تجويف متوازي المستطيلات ، ارضه ترابية و جدرانه و سطحه مغطاة بصفائح حجرية تحمي دون إحكام ، الجثة المددة في داخله من التراب المُهال فوقها .
هذا عن المقبرة كما كانت حتى سنوات 1960 .


لقد تحولت و تغيرت مقبرة القرية ، بل أكاد أقول أنها تنكرت لأصلها فتبدو صلة الوصل المعروفة ، بين القرية و المقبرة ، مضطربة يعتريها الغموض ، فكأن القرية قحلت و ان المقبرة أرض مبوّرة تتسع باستمرار ، حيث صارت تغمر اربعة اضعاف مساحة المقبرة ما قبل الطوفان . بكلام آخر تحولت إلى مقبرة توسعية بلاحدود ، مثل الكثير من أوجه العيش و مظاهره التي باتت ميزتها الرئيسية في هذا الزمان ، المبالغة غير المحدودة و اللامنطق ، و الغرابة .
يصعب على المرء أن يتخيّل المساحة التي من المحتمل أن يغمرها ” طوفان مقبرة ” القرية في الخمسين سنة القادمة . فتمددها متواصل دون توقف ، إلى حد أنها اقتربت من البيوت في قلب القرية القديمة ، الأصليبة و باتت تهدد حواكيرها . رُصّت القبور الرخامية رصا فلم تُترك بقعة للعشب او لشجر السرو و الكينا ، ناهيك من أن بعض الفراغات بين القبور رصفت هي أيضا بالبلاط .طبعا ردمت بئر الحمير ، فلقد خلت القرية تقريبا من الماشية و غيرها من الحيوانات الأليفة.
تبدل القبر شكلا و باطنا ، حيث استبدل الحجر الصخري بالحجر اللإسمنتي في بناء تجويف المدفن و بالتالي ضاقت الشقوق في سطحه و جدرانه عما قبل .
و اللافت للإنتباه أيضا في مقاربة هذه المتغيرات التي طرأت على مخطط المقبرة ، أو ما أسميناه ” المجمّع ” ، هو تشييد نادِِ حسيني ثانِِ ، . أ غلب الظن أن ذلك تحقق بمساهمات مالية و عينية ( مواد بناء ) قدمها اشخاص أثرياء و مؤسسات إجتماعية و تجارية و سياسية ، ليس من سكان القرية و حسب وإنما من خارجها أيضا ، على عكس النادي الأول الذي تحمّل كلفة بنائه السكان العاديون ، الفلاحون و صغار الموظفين ، بالعملة الوطنية .
تجدر الملاحظة في هذا السياق ، انه ليس مستغربا ، منذ سنوات 1980 ، توازيا مع تراجع قوات الإحتلال و انسحابها ، أن يرى المرء صورة ” الزعيم ” معلقة على الحائط في صدر النادي ، فوق المنبر و فوق رأس المتكلم في مناسبة دينية أو غير دينية ، خصوصا و أن التماهي بين السلطة الدينية و سلطة الحكم بلغ منذ ذلك التاريح أقصى درجاته . تحسن الإشارة أيضا إلى أن قوات الغزو دخلت قرى جبل عامل و نواديها و أعتقلت أبناءها في معسكر التجميع الذي أقامته على ارض بلدة إنصار ، و هدمت في كل قرية تقريبا ، عددا من المنازل إرهابا .
نصل بعد استعراض هذا المشهد ، بين اليوم و الأمس ، إلى تحديد الإشكالية التي قادت إليه و إلى تلمس انعكاساته على مجتمع القرية نفسها التي ألمحنا إلى أنها قحِطت ، شأنها في ذلك شأن البلاد عموما . و لكن كما نبهنا أعلاه إلى أننا لا ندعي الإلمام بعلوم لا نلم بها ، و أن ما نحن بصدده هو مقاربة ” مواطنية ” إذا جاز التعبير ، انطلاقا من فرضية أن ما نثيره من تساؤلات تعني المواطن عموما ، ينبني عليه أن دراستنا لا تعدو كونها مقدمة للنقاش و الحوار . فنحن لا ندعي أن أراءنا علمية مثبتة و مؤكدة.
يحق لنا إذن أن نتساءل أين سيتوقف تمدد المقبرة ، فهل يعقل أن تسير الأمور على هذا المنوال دون البحث عن حل عقلاني ؟ السؤال الثاني هو عما إذا كان يوجد حجة أو مبرر للإستغناء عن الشجر و عن الحجر الصخري في هيكلة السرداب الداخلي للقبر ، يشمل السؤال أيضا رصف الممرات بالبلاط ؟ و هذه كلها عوامل تطيل مدة احتباس الرطوبة و العفن في التربة . و هناك سؤال ثالث ذو صلة ، بخصوص النادي الحسيني الثاني الذي تظهر عليه ، دون شك في ذلك ، معالم فخامة السلطة الدينية ، أضف إلى التبرعات جاءت في أغلب الظن من جهات بعضها ” لا يُعرف من اين لها هذا “
خلاصة القول في هده النقطة ، أن مسألة المقبرة هي في الوقت نفسه مسألة مؤهلات لتولي الإدارة و التنطيم . أما فيما يتعلق بالناديين ، فإنهما يعبران عن الإزدواجية المعروفة ، الموروثة ، عائلتان ، حزبان ، سلطتان ، و عن ميل معروف أيضا إلى طلب المساعدة من أية جهة بصرف النظر عن أصلها و فصلها و عن مصادر لأموالها ، وعدم الإعتماد على النفس .
يمكننا توازيا مع المتغيرات و المتبدلات التي استوقفتنا في هذا البحث ، أن نلاحظ انعكاساتها في خطط البناء و التنطيم المدني . فاللافت للنظر أن السكان يهجرون القرية القديمة الأصلية و يطلبون السكن في منازل جديدة مبنية على الأراضي الزراعية ، و أحيانا على أراض كانت مشاعا ، مخصصة لرعي الماشية . مجمل القول أن منازل الأحياء تقام على الارض الزراعية في حين أن حواكير البيوت القديمة تركت للموتى .
تتوجب الإشارة هنا إلى أن الكثير من المنازل تبدو من الخارج جميلة و فخمة ، ولكنها لا تكون احيانا متناسقة مع المهنة التي يمارسها المالك . بعضها يشبه القبور الرخامية ، المزركشة ، خصوصا تلك التي يحيط بها سور عال تضيئه ليل نهار عشرات المصابيح الكهربائية التي يغذيها مولد خاص ، بينما بيوت الناس من حوله غارقة في ظلام دامس .
و في مختلف الأحوال ، فإن إحتلال الأراضي الزراعية و مراعي الماشية ، حفّض الإنتاج الزراعي إلى أدنى مستوى ، أضف إلى أن سوء توزيع مياه الشفة ، شجع ،كما هو الحال في مسألة الطاقة الكهربائية ، القبضايات على استخراج المياه الجوفية ، و هي بالقطع ملوثة ، و بيعها للناس .
نحن لا نملك معلومات بيانية موضوعية عن الوضع الصحي ، و لكن على الأرجح ان المتوسط العمري في البلاد تراجع ، بسبب المواد الإستهلاكية العديمة الجودة ، يتجسد ذلك بازدياد الأصابة بالاورام الخبيثة و بامراض الشرايين ، ناهيك من تأثير تلوث البيئة على الصحة نتيجة عدم معالجة النفايات ، وخصخصة الكهرباء والمياه ، لصالح اصحاب الصهاريج و المولدات .(انتهى)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى