ثقافةدراسات و تحقيقات

(ساراتي بارتمان) قصة حياة فتاة من جنوب افريقيا

ساراتي بارتمان
قصة حياة فتاة من جنوب افريقيا
تعكس جذور العنصرية للأستعمار الاوربي

إعداد عزام محمد مكي
[email protected]

تعكس حياة هذه الفتاة التي لم تستغرق اكثر من ربع قرن من الزمن، تلاوين الاضطهاد التي عانت منها شعوب جنوب افريقيا، كما تعكس كذلك جذور العنصرية لأنظمة الاستعمار الغربي المتأصلة كذلك في اغلب اقسام مجتمعاتها.
ولدت (ساراتي بارتمان Saartjie Baatman)، وهو اسم هذه الفتاة، في عام 1789 في منطقة تقع على الحدود الشرقية لمستعمرة (الكاب). فقدت والدتها قبل بلوغها عامها الاول.
نشأت هذه الفتاة في اجواء من الرعب وسط القتال واصوات الرصاص من الحروب الاستعمارية للسيطرة على جنوب افريقيا.
عندما بلغت (ساراتي) 21 سنة من العمر تم خطفها او تهريبها الى بريطانيا، حيث تم استخدامها في استعراضات الكائنات والاشياء المألوفة التي كانت تستقطب المشاهدين في لندن. الشئ الذي جعلهم يفكرون في استخدامها في هذه العروض ، هو ما تمتع جسدها من صفات خاصة منها لون بشرها المميزة، والاهم هو كبر اردافها الملفت للمشاهد الاوربي، بلإضافة الى صفاة أخرى في اعضائها التناسلية. حيث كانت تظهر على المسرح عارية. لينتهي بها المطاف في باريس حيث تنتهي حياتها بين الدعارة والمخدرات.

طفولة ساراتي ونشأتها

تنتمي عائلة (ساراتي) الى قبيلة (خويسان-Khoisan). وكانت هذه القبيلة كثيرة النفوس وغنية بما تملكه من ابقار. ولكن مع العقود الاخيرة من القرن الثامن عشر كانت ثروتهم قد اندثرت تماما. (عندما وصلوا كان لدى الاوربيين الأناجيل، وكان لدى قبيلة (الخويسان) الارض. مع ولادة ( ساراتي)، امتلك (الخويسان) الاناجيل بينما امتلك الاوربيون معظم الاراضي. حدث هذا رغم 150 سنة من مقاومة (الخويسان) للغزاة.
لقد استطاع اهالي (الخويسان) من صد موجات الغزو من البرتغاليين والالمان والانكليز والهولنديين. وفي النهاية استطاعت شركة الهند الشرقية الهولندية من تأسيس اول مستوطنة دائمة في خليج (تابل-Table).
كانت عائلة (ساراتي) مثل بقية قومها، تعيش على رعي الماشية، ولكن تقلص اعداد المواشي تدريجيا جعل الناس يعتمدون تدريجيا على العمل المأجور لدى المزارع المجاورة لأراضيهم.
وبعد قرار الحكومة في عام 1778، تمت مصادرة اراضي شعب (الخويسان) من قبل مزارع هولندي (Hilgert Muller). قام هذا المزارع المستعمر بمعونة اتباعه بجرائم الاستيلاء على الاراضي، متجاهلا حقوق الرعي. كما قاموا بسرقة الابقار واحتلال القرى كذلك. وفوق كل ذلك اقترف هذا المستعمر ورجاله عمليات الاغتصاب، كما قاموا بأسر النساء والاطفال واجبارهم على تقديم الخدمات الجنسية.
ونتيجة لكل ذلك انقسم شعب (الخويسان) الى مجموعتين. احدى المجموعتين خضعت لهجمية الاستعمار الأوربي. بينما فضلت المجموعة الاخرى تنظيم انفسهم في وحدات مقاومة.
مع حلول ولادة (ساراتي)، اصبح الكثير من شعب (الخويسان) يعملون كخدم مستأجرين وعمال في المزارع لكسب قوتم يومهم وملابس مهلهلة. واذا صادفهم الحظ فسيحصلون على رؤوس البقر والغنم.
خلال طفولة (ساراتي) طغت على المنطقة اصوات اطلاق النيران والدخان والخوف. فقد تصاعدت الحروب المسمات بحروب (الباشمان)-(Bashman Wars) الى مستوى غير مسبوق من الضراوة. هذه الحروب كانت بين المستوطنين الهولنديين وسكان البلاد(الخويسان). فقد تعمقت حملات المستعمرين حجما وضراوةً. ان عمليات الاغتصاب والقبض على على الاطفال واجبارهم على العمل كخدم ادى الى ازدياد الصراع ضراوة. لقد ااكتنف الكثير من هذه الهجمات مجازر مرعبة تشمل تصفيات وقتل الرضع (حيث يصعب نقلهم من قبل المهاجمين لجعلهم عبيد). اما بالنسبة لأطفال (الخويسان) ، من الذين تمت محاصرتهم واصطيادهم، فقد تم بيعهم مقابل حصان او بندقية او حتى مقابل زوج من الاحذية.
ومن الامثلة الدالة على همجية المستعمرين هو استخدام اجزاء مقتطعة من اجساد الضحايا، مثل اثداء نساء (الخويسان) ليتم تحويلها الى هدايا تذكارية على شكل اكياس للتبغ ، لتحفظ من قبل الاوربيين لتُهدى كجوائز.
صادف بلوغ (ساراتي) عامها السادس، قدوم البريطانيين الى المنطقة. فقد تم اقناع الحكومة البريطانية من قبل امير هولندا المطاح به من قبل الحزب الجمهوري الهولندي، لحيازة مستعمرة (الكاب) لمنع سقوطها بأيدي الجمهوريين الفرنسيين. وبعد شهرين من القتال استسلم الحاكم الهولندي للبريطانيين في 1795.
بين عامي 1795 و1799 شن المتمردون من بقايا الهولنديين حربهم ضد البريطانيين مصممين على انشاء جمهورية (البور). لمجابهة الهولنديين قام البريطانيون بأقناع مقاتلي القبائل المحلية وعلى رأسهم (الخويسان) بالتحالف معهم ضد (البور)، مقابل وعود بأرجاع أراضيهم وماشيتهم وتحريرهم من الخدمة تحت ايدي المستوطنيين الهولنديين. وكان والد (ساراتي) احد هؤلاء المقاتلين ضد الهولنديين.
في 1997 استطاع تحالف (الخويسان) بإيقاع الهزيمة بالهولنديين ومباشرة بعدها تنكر تحالف البريطانيين لوعودهم، (كم سيكرر التاريخ هذه التجربة مع البريطانيين، ومع ذلك لازال من يعرض نفسه للتخادم). وانكروا حقوق الخويسان في الحكم الذاتي في اراضيه، مما جعل تحالف (الخويسان) ان يعيد ترتيب صفوفه في وحدات قتالية لدفع البريطانيين خارج الحدود الشرقية، واسترد التحالف اراضيه.
عند هذ النقطة توجه البريطانيون نحوالهولنديين، اعداء الأمس، من اجل المساعدة فكانت هذه الحرب الثالثة والأكثر دموية وكارثية خلال السنوات 1799-1802. حيث استطاع (الخويسان) مع حلفائهم ان يخوضوا حرب طويلة ضد السيطرة الاستعمارية على جنوب افريقيا.
هذه الاجواء المرعبة الدموية هي التي شابت بدايات حياة (ساراتي) وبقية اقرانها من قبيلة (الخويسان) وحلفائها.
وتوالت المآسي على (ساراتي)، حيث فقدت والدها عندما كان عمرها 17 سنة في عام 1810. فقد قتل والدها اثناء القتال مع المستعمرين. كذلك فقدت حبيبها في يوم خطوبتها اثناء هجوم شنته قوات تحالف المستوطنيين.
بعد ان اصبحت (ساراتي) يتيمة وبدون عائلتها وقومها، اصبحت تحت وصاية احد الصياديين التجار اسمه (بيتر سيزار)، وهو من السود الاحرارمن مدينة (الكاب). لايعرف كيف دخل (سيزار) في حياة (ساراتي). هل كان منقذها؟ ام كانت اسيرة لديه؟ هل كان من حسن حظها انها اصبحت تحت وصايته؟ لأنه قد يكون قد حافظ على حياتها من القتل او من ان يتم أسرها لتشبع الرغبات الجنسية للرجل الابيض. أم ان سوء حظها جعلها تحت يد (سيزار) الذي استرعت انتباهه، ففكر ان يستخدمها كخادمة في بيت اخيه لتكون بعد ذلك مرضعة للأولاده القادمين بالتبني . هل كان لدى(ساراتي( أي خيار؟ كان أخ (بيتر سيزار) (هندريك) يعمل خادم لدى (الكسندر دنلوب) وهو ضابط جراح في الجيش البريطاني.
رغم انها لم تكن مخيرة في العيش في بيت (هندريك) وزوجته، لكن الحياة معهم فتحت رحاب التعرف على اصدقاء، كذلك طبيعة الحياة في مدينة كبيرة مثل (الكاب). خلال ذلك ومن خلال الذهاب للكنيسة تعرفت على جندي شاب كان عازفا على الطبل في الحامية العسكرية. وكان العامل المشترك بينهما هو حبهما للموسيقى. وقد عاشت (ساراتي) اوقات سعيدة مع صديقها وحبيبها. وفي 1807 اكتشفت بانها حامل. وقد تحمل حبيبها الجندي مسؤولية رعايتها وطفلهما. ولم تستمر حياة (ساراتي )العائلية السعيدة لأكثر من عامين، حيث لم يهملها القدر كثيرا. فقد وقع طفلها مريضا قبل بلوغه عامه الثاني، فسرعان ما فارق الحياة. مرة أخرى فقدت (ساراتي) الحياة العائلية، فبعد فترة وجيزة اختفى حبيبها من حياتها لاسباب غير معروفة.
هكذا تتابعت المآسي في حياة (ساراتي)، بدأت بفقدان امها وهي طفلة، ثم فقدت اباها ثم أٌنتزعت من عائلتها وقومها لتفقد اخيرا طفلها وحبيبها.
(ساراتي) وهي بعمر 21 سنة لم تكن واثقة من مستقبلها.
في هذه الاثناء كان الضابط (دنلوب) قد فقد عمله في الجيش، وبالتالي اصبح (هندريك سيزار) بدون مورد. مرة أخرى اصبح مستقبل (ساراتي) معلق لأعتمادها، في قوت يومها، على الوضع المادي (لهندريك).
في ظل هذا الوضع المزري الذي تعانيه، كان (دنلوب) والاخوة (سيزار) يرسمون لخطة متهورة سترسم مستقبل (ساراتي).
في سعيه لايجاد مصدر عيش جديد، بعد ايقافه عن العمل في الجيش، استطاع (دنلوب) من اقناع الأخوين (سيزار) اللذين اصبحا بدون مورد رزق، بأمكانية الاستفادة من (ساراتي) لما تملكه من صفات في جسمها يثير الفضول العلمي في بريطانيا.
حيث بين (دنلوب) لهم، بان (ساراتي) بما تملكه من صفات جسدية، والتي ليست من الغير مألوف في السياق الافريقي، ستجذب عيون الاوربيين كصفات غير مألوفة، وستشبع صورتها المخيال الاوربي حول سكان افريقيا الجنوبية(الخويسان).
قد يكون (دنلوب) قد انجذب جنسيا نحو (ساراتي)، الشئ الذي جعله يفرض عليها علاقة جنسية مستخدما قوة تفوقه العرقي والاقتصادي. وقد بنى على قوة انجذابه الجنسي لها، الاعتقاد بأمكانية ان يجني ثروة من خلال المتاجرة بها في أوربا، بمثابة (إلهة الحب الافريقية-Hottentot Venus).
وهكذا اتفق الرجال الثلاثة على التآمر لإقناع (ساراتي) في الذهاب الى لندن للمشاركة في احتفالات استعراضية وفق عقود.
استطاع(دنلوب) بعد جهد ووقت ومن خلال علاقاته ان يحصل على تصاريح سفر للأخوة (سيزار) (ساراتي). وقد اشترى (دنلوب) جلد زرافة بالإضافة الى مستلزمات ضرورية ستساعد (ساراتي) في الاستعراض على شكل (إلهة الحب الأفريقية).

الوصول الى بريطانيا

في ربيع 1810 وصلت (ساراتي) لندن، واستطاع (دنلوب) تأمين سكن للمجموعة في منطقة يسهر فيها الاغنياء الراغبين في السهر والمقامرة، قرب ساحة (سانت جيمس) قرب (البيكادللي).
في البداية عرض (دنلوب) على مدير متحف (ليفربول) شراء جلد الزرافة الذي جلبه من جنوب افريقيا، وكذلك عرض عليه شراءعقد لمدة سنتين مع (ساراتي) تؤدي وفقه استعراضاتها. وقد رفض مدير المتحف شراء العقد مبينا بأنه يدير متحف وليس مكان لأستعراض الأشياء الغير مألوفة.
بعد تعثر محاولات (دنلوب) في العثور على ممول لإستعراضات (ساراتي)، قرر مع الأخوة (سيزار)ان يقوموا بانفسهم بإدارة استعراض (ساراتي). لقد استطاع (دنلوب) بالمبلغ الذي حصل عليه مقابل بيعه جلد الزرافة من تأمين مكان مناسب في (البيكاديللي) مجاورا لعدد من قاعات الاستعراض والمتاحف، وقد تخصصت بعض هذه القاعات في عرض نماذج حية من الكائنات الغريبة وكذلك نماذج حية بشرية تشمل تشوهات ولادية. أٌستخدمت هذه النماذج للترفيه عن رواد هذه الاستعراضات. ومن هذه النماذج البشرية تؤام سيامية، أطفال مهق (فاقدين لون البشرة)، اطلقوا عليهم تسمية (زنوج بيض). كما تم عرض طفل من غرب الهند تم اعلانه (الصبي الأبقع).
بعد تأمين المكان المناسب للأستعراض، بدأ (دنلوب) بالتخطيط للأعلان عن الاستعراض وكيفية تطوير استعراض (ساراتي). لقد كان في رؤياهم بان لايتم الاكتفاء بالجاذبية الجنسية لجسد (ساراتي) في أذهان المشاهدين وان عليها ان لاتكتفي فقط بالتحرك والرقص وهز جسمها على المسرح من اجل اغواء جمهور لندن البائس ليشتري بطاقة الدخول(2 شلن). فكان المطلوب من (ساراتي) ان تستخدم مهاراتها الموسيقية وتقوم بأداء ما تحفظه من الأغاني الافريقية الفولكلورية، مستخدمة الادوات الموسيقية التي جلبتها معها. كما كان عليها ان ترقص كذلك.

أستعراضات “إلهة الحب الأفريقية”

ان الاستعراض الذي يمتد 4 ساعات يوميا وستة ايام في الاسبوع، يتطلب من (ساراتي) ان تبذل جهدا كبيرا لتصنع روتين بارع وجذاب وعلى التحمل في تكراره طوال فترة بعد الظهر. المفترض بالأستعراض ان يلبي مخيال البريطانيين عن نساء جنوب افريقيا وشكل اجسادهن الغير طبيعي بالنسبة لهم. وان يتجسد هذا الخيال على ارض المسرح من خلال جسد (ساراتي) ولون بشرتها واردافها الغير طبيعية بالنسبة لهم.
بعد اول استعراض اكتسحت شهرة (ساراتي) خيال الناس في لندن، فبعد قرون من الاساطير والقصص التي ينقلها الرحالة، وجد اهل لندن في طريقة رقص وغناء “إلهة الحب الافريقية” ما يثبت ما سمعوه.
فخلال اسبوع تحولت (ساراتي) من لاجئة بشكل غير قانوني الى واحدة شغل اسمها احاديث الناس. وامتلأت الساحات والجدران بصورها الملونة.
ان النجاح الكبير لاستعراضات (ساراتي) ادى لأن يبدأ (دنلوب) بتقديم عروض خاصة لها مسائية بعدد محدد من المشاهدين لا يتجاوز 12 شخص فقط على ان يتم الحجز قبل 24 ساعة.

ان نجاح الاستعراض يرجع بشكل اساس لظاهرة بسيطة مرتبطة بشكل جسدها بالدرجة الولى وطريقتها بالرقص الاهتزازي وتحريكها لمؤخرتها الذي ادى الى ان ينجذب اليه الجمهور البريطاني للعصر الجورجي المتاخر، هذا بالأضافة الى ادائها الموسيقي.

استعراضات خاصة بالنخب الغنية

سرعان ماجذب اشتهار إستعراضاتها فضول نخب العاصمة فكانوا يطلبون عروض خاصة في بيوتهم للترفيه عن ضيوفهم في سهرات الاكل والشرب.
واحدة من هذه الحفلات الخاصة كانت بدعوة من قبل دوق (كوينزبري الرابع)، والذي كا يُعرف ب(Old Q)، وكان من مشاهير الاغنياء المليونيرية في وقته ويمارس القمار. كان من المعتاد بالنسبة لهذا الدوق ان يقضي وقتا في قصره الفخم في البيكادلليحيث كان يستحم يوميا في حوض فضي فضي ملئ بالحليب.
قبل شهر من وفاته طُلب من (ساراتي) ان تحيي استعراضها امام هذا الدوق وفي قصره . وقد ذكرت الصحف بان (ساراتي) وبعد ان انهت استعراضها طلب منها ان تستحم في الحوض الفضي للدوق.
إمرأة حرة ام مُستعبدة
في احد الايام وبعد اسبوعين من الاستعراض، أُصيبت (ساراتي) بالأنفلونزا، ورغم الاعراض الشديدة لمرضها، تم اجبارها على اداء الاستعراض. وحدث ان سخر منها احد المتفرجين اثناء العرض بشكل وقح، مما ادى بها ان ترد عليه، مدفوعة بمرضها واحساسها بالعبودية، والهجوم عليه. فقامت بالجلوس فوقه محاولة منها لضربه بآلتها الموسيقية.
مع تكرار مثل هذه المشاهد في استعراضاتها اللاحقة، استرعت (ساراتي) الحملات المعادية للعبودية. فتمت إثارة وضع (ساراتي) في الصحافة. واهم مسألتين تمت اثارتهما هما: ماهي ظروف سفرها من جنوب افريقيا، وهل كان سفرها قانونيا، هل كانت مستعبدة. والمسألة الثانية: هل ان قيامها بهذه الاستعراضات هو بمحض ارادتها ام هي مجبرة وتقوم بها كونها مستعبدة.
قام (دنلوب) بالرد على هذه التساؤلات في الصحافة بكتابة رسالة بتوقيع (سيزار) يبين بها بان (ساراتي كانت تعمل خادمة عنده وليست مُستعبدة وان مجيئها معه كان بأرادتها الحرة. كما ان سفرهم من مدينة (الكاب) كان بترخيص من حكومة (الكاب). كذلك الحال بالنسبة لقيامها بالاستعراضات التي ستجلب الفائدة لعائلتيهما.
ان (دنلوب)، عندما كتب الرسالة، كان يعلم بان قانون انهاء العبودية ينطبق فقط على المسافرين مع عبيدهم وليس مع خدمهم.
وبقى (سيزار) مصرا بانه لم يقم بجلب (ساراتي) الى بريطانيا بالقوة ورغما عن ارادتها.
(ساراتي)، وهي محور الصراع، بقيت بدون صوت يعبر عن موقفها ومشاعرها، وكأنما هي اراضي متنازع عليها. انها الآن على وشك ان تكون في مركز النقاش القانوني في المحكمة حول عدم قانونية العبودية منذ الغائها.

قضية قضائية “إلهة الحب الأفريقية”

كانت الجلسة الاولى للمحكمة التي نظرت بقضية (ساراتي)، في 24/11/1810. اكثر من جهة تبنت قضية (ساراتي). لقد تركزت دوافع رافعي الدعوة على اثبات بان (ساراتي) كانت مرغمة على اداء الاستعراض، اي انها كانت مُستعبدة لإداء هذه العروض. ولقد اكدوا في الافادةعلى العلاقة بين الملابس التي ترتديهااثناء الاستعراض والغرض الذي استهدفه المسؤولون عن الاستعراض. لقد كانت ملابسها من الضيق لدرجة ان تقاسيم جسدها العليا والسفلى واردافها الضخمة كانت واضحة المعالم، وكأن هذه الأنثى كانت عارية، خاصة وان لون الملابس كانت بنفس لون بشرتها وكأنما كانت بدون ملابس. وكان يتم دعوة النظارة للصعودللمسرح وتلمس ارداف (ساراتي) والطلب منها للإستدارة حتى يتمكن النظارة من التمعن في جسدها الغير طبيعي لهم. لقد كان يتم التعامل معها مثل حيوان وحشي في قفص.
استطاع (دنلوب) و(سيزار) بالاموال التي جنوها من الاستعراضات من إستئجار محامي للدفاع عنهم. وقد وجههم المحامي لتأمين عقد عمل مع (ساراتي)، وان يتم اقناع المحكمة بان سيزار قد تم ابعاده من الاستعراضات. وتمكن (دنلوب)من اصدار عقد عمل بينه وبين (ساراتي) تمت ترجمته الى اللغة الهولندية لتتم قرائته على (ساراتي) لتعلن موافقتها عليه. مع العلم بان النص يؤكد بان العقد قد تم بأثر رجعي الى 20 آذار/مارس 1810 وهو التاريخ الذي استلم فيه (دنلوب) موافقة حكومة (الكاب) بالسماح له ولخادمه مغادرة جنوب افريقيا. ومما تضمنه العقد قبول (ساراتي) لخدمة سيدها في المنزل ومواققتها ان تقوم بعرض جسمها للجمهور في أيرلنده وانكلترة، وان (دنلوب) تعهد بدفع جميع التكاليف المتعلقة بصحتها وتكاليف الادوية. كما تعهد بإعادتها لبلدها في حال طلبت ذلك. كما ستتقاسم الارباح الناجمة من الاستعراضات.
وتحت اشراف قاضي تحقيق تم اجراء مقابلة مع (ساراتي) بحضور ممثلي الادعاء ومترجمين اثنين للغة (الافريكانية). في هذه المقابلة اكدت (ساراتي) على ما تضمنه العقد، حيث انها وُعدت بنصف الارباح الناجمة، وكذلك وُعدت بدفع تكاليف عودتها لبلدها. مع ذلك فقد اكدت تفضيلها البقاء في انكلترة. كما ادعت بعدم تعرضها لاي تهديد او عنف.
في الجلسة التالية للمحكمة قدم محامي (دنلوب) للأدعاء العام وثائق عقد (ساراتي) وكذلك التحقيق الذي حصل معها . وهكذا خسر اصحاب الدعوى المُقامة ضد (دنلوب) و(سيزار) القضية.
ظهور المحاكمة في الاعلام، ادى الى تأمين نجاح استعراض “إلهة الحب الأفريقية” طوال فترة الشتاء.

بين خيارين أحلاهما مرٌ

وهكذا ربح (دنلوب) و(سيزار) القضية. ولكن ماذا عن (ساراتي)؟ هل فكرت مع نفسها حول النتيجة الافضل التي يمكن ان تخرج بها المحكمة، بالنسبة لها. عندما كانت اجابتها في التحقيق بانها راغبة في البقاء في انكلترة، هل كانت هذ الاجابة ضد رغبتها الحقيقية، كسجينة تحت التهديد؟ بالتاكيد كان لديها غموض حول دوافع الذين اخذوا مشغليها للمحاكمة. من الممكن انها كانت تفكر في انه في حالة تحررها من الاستعراض الاجباري، سيتم ترحيلها الى بلدها، ولكن ماذا عن امكانية ان يتم الانتقام منها من قبل (دنلوب) و(سيزار)؟
في آيار/ابريل 1811 بدأ الاستعراض جولته في بريطانيا لمدة ثلاث سنوات حتى صيف 1814. وقد قدمت (ساراتي) في 1812 عروضا لمدة 5 أيام في ايرلندة ولكن لم يحضرها سوى عدد قليل جدا. وظهرت في (بورتسموث) صيف 1812 ولكن (دنلوب) توفي في 18 تموز/يوليو 1812 لاسباب غير معروفة. بوفاته فقدت (ساراتي) الضامن القانوني الذي بواسطته كان يمكن ان ترجع لبلادها.
واختفت (ساراتي) من تموز/يوليو1812 بدون اثر، لتظهر مرة ثانية للعلن من خلال حملة دعائية نارية، ومن ذلك الحين ستكون (ساراتي) باقية في نظر الجمهور لقرنين من الزمن!
(ساراتي) تغادر بريطانيا الى باريس
في 30 آذار/مارس 1814 غادرت (ساراتي) مع (هندريك سيزار)، الذي سافر تحت اسم (هنري تايلر). في الوقت الذي وصلا فيه فرنسا كانت العبودية وتجارتها لازالت تُعتبر قانونية.
في الفترة التي سبقت وصول (ساراتي) باريس والفترة اللاحقة كانت باريس كما بقية أوربا، قد شهدت نقاش واسع بين علماء الطبيعة يتعلق بالعرق والانواع البشرية. ومن المسائل التي شابت هذه النقاشات المحتدم مرتبطة بتفوق العرق الابيض ونظريات حول الحياة الطبيعية والحياة المنحرفة، والاخيرة تُنسب الى الاجناس الدنيا(المنحطة). وقد طغى على الخطاب العلمي والطبي مسألتا تصنيف ومراقبة الافراد.
وتحت ضوء ما سبق سرعان ما اصبحت (ساراتي) في بؤرة النقاش حول العرق والانواع البشرية الذي كان محتدما.

فبعد فترة من الزمن استرعت (ساراتي) انتباه بعض هؤلاء العلماء، الذين رغبوا بشدة لفحصها عن قرب. كما جذبت (ساراتي) شخص يُدعى (ريو-Reaux)، الذي كان يعمل كمدرب للحيوانات وكذلك كانت له ارتباطات مع بعض المتاحف لعلاج الحيوانات.

(ساراتي) في سوق النخاسة

في بداية كانون الثاني/يناير 1815 وقعت (ساراتي) طريحة الفراش بسبب اصابتها بالأنفلونزا. انتهز (ريو) هذه الحالة وعرض على (سيزار) ان يشتري منه (ساراتي)، وهذا ما حصل فعلاً.
تعود (ساراتي) الى الاستعراض في 22/01/1815 رغم استمرار معاناتها من المرض. لقد اجبرها (ريو) على العمل في الاستعراضات لمدة 12 ساعة يوميا. لقد كانت تؤدي استعراضها من داخل قفص كبير خاص بالحيوانات، تقريبا عارية. كما كان يُسمح للمتفرجين بالإقتراب من ها ولمسها في اكثر مناطق جسمها حساسية.
في هذا الوقت بدأت (ساراتي) بأداء عروضها في صالونات النخب الاجتماعية. هنا انتبه (ريو) الى اهتمام بعض العلماء وانجذابهم لفحص (ساراتي)، فتفتق ذهنه عن خطة مروعة. فقد رتب (ريو)، وبدون موافقة (ساراتي)، الطريق لاستعراض سيجني من ورائه ثروة طائلة، وستكلف (ساراتي) حياتها.
بعد مغادرة (سيزار) الى جنوب افريقيا فقدت (ساراتي) تواصلها مع ماضيها واصطدمت بواقع انها لن تعود ابدا الى وطنها. وهكذا بدأت صحتها بالتدهور، واتضحت اكثر حالة اليأس عندها حيث لم يبقى لديها شئ لتفقده.
تنفيذ خطة (ريو)
في بداية ربيع 1815 وبترتيب من (ريو) مع مجلس علماء متحف التاريخ الطبيعي في باريس، دخلت (ساراتي) المتحف لتكون نموذج حي تتم دراسته وفحصه من قبل لجنة من العلماء والفنانين. على رأس هؤلاء المختصين (جورج كوفييه-George Cuvier)، بروفيسور علم التشريح المقارن في المتحف وفي مؤسسات أكاديمية أخرى .
وكان هذا البروفيسور قد سأل (ريو) سابقا ان يرتب له لقاء مع (ساراتي) بعد انتهاء احدى الاستعراضات التي حضرها. وقد ابدى البروفيسور استمتاعه من لقائه بها. وقد لاحظ افراطها بشرب الكحول.

لقد استمرت اجراءات فحص ودراسة جسد (ساراتي) مدة ثلاثة ايام متواصلة. في اول يوم قدمت (ساراتي) بملابسها الاستعراضية. رغم ان ملابسها الاستعراضية كانت ضيقة وبنفس لون بشرتها، مما يظهرها وكأنها عارية، إلا ان ذلك لم يكن ليرضي الرجال المتحلقين حولها. الذين قدموا وفي مخيلتهم ان يروها عارية تماما حتى من (ورقة التوت). في هذه اللحظة نشبت معركة حاولت (ساراتي) فيها ان تتشبث بموقفها. لقد جادلتهم ورفضت مطالبهم بخلع حتى ولو قطعة واحدة من طاقم ملابسها.
لقد جهد احد اعضاء اللجنة بان يكون واضحا (لساراتي) حول هدف العمل الذي جاؤا من اجله. ان هدفهم ليس للتعرف على شخصيتها ومهاراتها. ولم يكن اوضح من ذلك لها، سوى نظرات الازدراء التي شملوها بها.
ما كان يثير اهتمام هؤلاء القادمين لتفحص جسد (ساراتي)، هو امكانية الحصول على نظرة قريبة متفحصة للسمات الجسدية الاسطورية لنموذج من نساء (الخويسان)، وخاصة فيما يتعلق ببعض اجزاء جهازها التناسلية. لقد كان لديهم تصور يعكس بما يتحدث به الرحالة، الشئ الذي ولد لديهم قناعة حول طبيعة النشاط الجنسي لنساء (الخويسان). حيث أُلصقت بهم صفة الشبق الجنسي التلقائي.
واخيرا استطاع (كوفييه) من اقناع (ساراتي) من عرض نفسها عارية امام انظار هؤلاء العلماء، الذين كانوا يرموا الى اثبات هذا الاعتقاد وبالتالي دونية الزنوج. فكان جسد هذه المرأة ساحة صراع لإثبات التفوق، ولكنها اصرت على تغطية كرامتها بمنديل يد (ورقة التوت).
لقد كان (كوفييه) وزميله مهوسين بفكرة فحص اعضاء(ساراتي) التناسلية. وكان كلا من اعضائها التناسلية ومؤخرتها موضوع الفحص والتحليل والنقاش. وهدفهما من ذلك هو لاثبات قناعاتهم المسبقة حول دونية الزنوج بلإضافة الى دونية المرأة من خلال تسجيل الاختلاف في حجم الجمجمة.
بعد وفاتها في 1816/1817، قام كل من (كوفييه)بتشريج الجثة وكان هذا لمقارنة انثى الزنوج كأدنى انسان مع اكثر القرود تطورا.

موت (ساراتي)

لم تتعافى (ساراتي) ابدا من مرضها الشديد الذي الم بها في شتاء 1814. وبسبب ارهاق العمل وادمانها على الكحول وفقدانها الامل، اصبحت اضعف واوهن مما أثر على إدائها الاستعراضات، مما حولها سريعا من ايقنة استعراض الى نجم يحتضر.
اقتصرت استعراضاتها على حفلات خاصة للترفيه، لعدد محدود من الاشخاص تؤديها ليلا. وتدهورت صحتها سريعا واصبحت بحاجة اكثر لشرب الكحول. وهناك من يذكر بانها اصبحت بائعة هوى بترتيب من مالكها (ريو).
بعد ظهور (ساراتي) كنموذج امام لجنة العلماء، ابدى هؤلاء اهتمامهم وبتكتم امام (ريو)، بانه في حالة موت (ساراتي)، فأنهم مسرورون ومستعدون لدفع مبلغا من المال مقابل الحصول على جثمانها وذلك لاجل الدراسة التشريحية والبحث العلمي المفصل.
ان هذا الاهتمام والعرض الذي قدمه العلماء، قد جعل (ريو) يفكر بان ساراتي الميتة ستكون اكثرُ ثمنا من كونها على قيد الحياة. صحيح انه استطاع ان يجمع ثروة كبيرة من استعراضاتها، ولكن مع الوضع الصحي المتردي لها، فأنه قادر على ان يحصل على ثروة اكبر من خلال موتها.
في 29 كانون اول/ديسمبر 1815 توفيت (ساراتي) بعد اصاباتها المتكررة بالانفلونزا التي تطورت الى التهابات في القصبات الهوائية مع عدم وجود الرعاية الصحية اللازمة لها وتضاعف هذا المرض مع ادمانها الكحول. وكان الكحول في نظر (ريو) هو المسكن الملائم (لساراتي).
عندما توفيت (ساراتي)، لم يذهب (ريو) الى رجل دين، او الى السلطات ليبلغ عن وفاتها، بل مباشرة ذهب وتحت جنح الظلام الى سكن العالم (كوفييه) ليبلغه الامر.
فخلال ساعات وقبل بزوغ فجر اليوم الذي توفيت فيه (ساراتي)، استطاع (كوفييه) بمساعدة زميله من ترتيب الاجراءات اللازمة مع السلطات البلدية وكذلك وزارة الشرطة والتي مكنته الحصول على موافقة نقل الجثمان الى مختبر التشريح في متحف التاريخ الطبيعي.
وفي اقل من 24 ساعة تم نقل جثمان (ساراتي) الى المختبر. واخيرا اصبح جسد (ساراتي) العاري تماماعلى دكة التشريح مستسلما ودون مقاومة تحت عين ومشرط تشريح (كوفييه)، فتحققت رغباته اخيرا.
وقد تضمنت اعمال (كوفييه) التشريحية على جثمان (ساراتي) هو عمل قالب لجسدها؛ استخراج اعضائها الداخلية ومن ضمنها دماغها واعضائها التناسلية. كما صنع قوالب لكل هذه الاعضاء. وكان ما كان يهتم به (كوفييه) هو اعضائها التناسلية واردافها. وبعد ذلك تفرغ (كوفييه) على الاشراف على تفكيك الهيكل العظمي ليعيد تشكيله بعد الاجراءات اللازمة. كما قام كذلك بتحنيط جسدها بعد افراغها من جميع احشائها ليتم عرضها مع هيكلها العظمي. كما تم عرض اعظائها الداخلية من دماغ واعضاء تناسلية في دوارق زجاجية خاصة.
في البداية تم عرض محنط (ساراتي) وهيكلها العظمي بالاضافة الى اعضائها الداخلية في شقة (كوفييه) في متحف التاريخ الطبيعي. وقد ضم المتحف كذلك 1599 هيكل عظمي آخر منها 41 هيكل آدمي من مختلف الاجناس.
كيف دعم علماء الطبيعة وجهة نظر نظام اوربا الأستعماري
ان جوهر ايديولوجية انظمة الاستعمار الاوربي هو الأستعلاء العنصري على الشعوب الاخرى، وخاصة تلك الشعوب التي يستهدفون الاستحواذ عليها وعلى مقدراتها. وشعوب القارة الافريقية هي الاكثر حضوة بهذا الاستهداف. لقد كان للأبحاث التي أُجريت من قبل مجتمع علماء التاريخ الطبيعي في أوربا الدور الداعم والمبرر لهذه الايديلوجية.
وقد اصبحت (مؤخرة/أرداف) (ساراتي) احدى اهم الموضعات المهمة على طاولة ابحاث علماء التاريخ الطبيعي في القرن التاسع عشر. لقد تم الاحتفاظ بها كأسطورة كاريكاتورية وصورة نمطية عنصرية.
وعلى هذه الخلفية كان بعض العلماء ومنهم داروين مهووسين بالأهمية العنصرية والجنسية لمؤخرة السود عموما. لقد جسد داروين وجهة النظر الاوربية السائدة بان مؤخرة مايسمى (بنساء (Hottentot) قد قدمت علامة كوميدية على الطبيعة البدائية والغير عادية للنشاط الجنسي للمرأة السوداء).
وقد كان متداولا بين هذه الاوساط العلمية نظريات مهينة حول مؤخرات نساء (الخويسان)، ( لقد حاولت هذه النظريات الادعاء بان هذه المؤخرات الكبيرة ليست حالة فيسيولوجية طبيعية وانما حالة صحية/طبية تم تصنيفها على انها تجمع شحمي).
واخيرا هل كان بمقدور هؤلاء العلماء الذين جعلوا من مؤخرة (ساراتي) موضوعتهم، ان يتصوروا بانه بعد قرابة قرنين من الزمن، سيقوم احفادهم المهنيين بأجراء عمليات جراحية على نساء يشكَون من نقص في عضلات مؤخراتهم (إليتهم) ولأجل اعادة تشكيلها لتكون على صورة “إلهة الحب الأفريقية”.

عودة (ساراتي) الى موطنها

لقد أخذ من (ساراتي) ثلاثة أشهر للوصول الى بريطانيا، وقرنين من الزمن لترجع الى موطنها.
في تاريخ غير معروف بعد 1822 سمح متحف التاريخ الطبيعي في باريس بعرض بقايا جثمان (ساراتي) للجمهور. وقد تضمنت هذه البقايا محنط لجسمها وهيكلها العظمي بالأضافة الى دماغها واعضائها التناسلية المحفوظة في دوارق زجاجية مملؤة بمواد حافظة. وقد بقيت هذه البقايا في المتحف لأكثر من قرن من الزمن.
بعد استحداث (متحف الانسان) في 1937، تم نقل بقايا (ساراتي) الى قاعة عرض 33 في المتحف. وفي محاولة لوضع هذه البقايا في سياقها، تم وضع صورتين واحدة لرجل والأخرى لمرأة من شعب (الخوسيان) فوق جسد (ساراتي). وقد بقيت بقاياها في هذا المتحف حتى 1970 لتظهر بعد ذلك في متحف( كواي أورساي-Musse du quai d’Orsay)، كجزء من معرض القرن التاسع عشر للنحت الإثنوغرافي. ولكن بسبب النقد المتزايد تم نقل هذه البقايا الى المخازن.
في عام 1994برزت قضية عودة (ساراتي) الى موطنها، على السطح وكانت مثار خلاف كبير بين حكومتي فرنسا وجنوب أفريقيا. وكان اول من أثار هذه القضية هو رئيس تجمع (المنحدرين) من شعب ( الخويسان)، حيث قال في كلمة امام مؤتمر حول علم الآثار: (بان عرض مؤخرتها واعضائها التناسلية لأجل متعة الناس الذين بدون قلب، هو اهانة وعدم احترام لشعبها).
وفي 1994 وبعد نجاح المؤتمر الوطني الافريقي بقيادة (نيلسن مانديلا) في انهاء نظام الفصل العنصري، أثار (مانديلا) قضية (ساراتي) مع الرءيس الفرنسي (ميتراند) اثناء زيارة الاخير لجنوب افريقيا. وقد أكد (مانديلا) وبشكل حاسم حق دولة جنوب افريقيا بالنيابة عن الشعب في جنوب افريقيا، بأستعادة رفات (ساراتي). وقد اصبحت (ساراتي) جزء مهم من عملية التحول التحرري، كما اعلن (مانديلا) الالتزام الكامل لتكريم (ساراتي) كبطلة.
وعلى الجانب الآخر، كان هناك استياء في اوساط المثقفين ومنهم مؤسس (متحف الانسان) الذي اعتبر رفاة (ساراتي) ذو اهمية تاريخية وعلمية كبيرة، وعلى هذا كانت هنالك ممانعة من اعادة رفاتها الى جنوب افريقيا ليتم تكريمها ودفنها بطريقة محترمة، كما نادى بذلك وزير جنوب افريقيا للعلوم والثقافة والفن.
وقد عبر عن اهمية اعادة رفات (ساراتي) ما قاله رئيس مفاوضي جنوب افريقيا مع فرنسا، بروفيسور توبياس، باعتبار حالة (ساراتي) فريدة من نوعها وليست سابقة لطلبات مماثلة لاعادة آلاف الجماجم والهياكل العظمية الموجودة في متاحف اوربا وشمال امريكاوالتي تم تحويلها خلال الحقبة الاستعمارية. ان (ساراتي) حسب ما يعرفها البروفيسور، اصبحت رمز عالمي للتجاوزات الامبريالية والاستعمارية.
وللغرابة ابدى مدير (متحف الانسان)، ورئيس وفد المفاوضيين الفرنسين، في بداية ممانعته، مدعيا بغطرسة بان رفات (ساراتي) ستكون اكثر امانا واكثر اعتزازا في بلد الحرية والاخوة والمساوات(هكذا)، من انتقالها الى جنوب افريقيا.
في 29 كانون ثاني/يناير 2002 وافق مجلس الشيوخ على اخراج رفات (ساراتي) من (متحف الأنسان). وفي 29 نيسان/ابريل قامت الحكومة الفرنسية بتسليم رفات (ساراتي) في سفارة جمهورية جنوب افريقيا.
وفي 3 آيار/مايو 2002 وصل رفات (ساراتي) الى ارض الوطن بعد 187 سنة من مغادرتها.

وفي 9 آب/اغسطس 2002 أُقيمت مراسيم الجنازة الرسمية (لساراتي) بحضور رئيس جنوب افريقيا ( تابو مبيكي). وهكذا دخل رفات (ساراتي) ارض ميلادها على ضفاف نهر (كاستو)، واعلن رئيس جنوب افريقيا اعتبار قبرها كنصب وطني، واعتبار الاحتفال بمراسيم دفنها كجزء من مراسيم الاحتفال بيوم المرأة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى