تقنيةسياحة و سفرفي الواجهة

زيارة الى ناسا ..وكالة الفضاء الامريكية

  • ناسا – زيارة الى وكالة الفضاء الامريكية

اسماعيل شاكر الرفاعي

زيارة الى ناسا : وكالة الفضاء الامريكية

لم توجه الدعوة اليَّ جهة رسمية او غير رسمية للقيام بهذه الزيارة . انا مَن دعوت نفسي للقيام بها ، وانا مَن انفق على هذه الزيارة : وهي نفقات ليست ضخمة ، لانني لم أقم بالزيارة من خارج امريكا بل من داخلها . ولم تكن المسافة التي قطعتها واسعة جداً ، ولا مرهقة : انها خضراء معشبة ، وذات شجر مشذب يصطف على جانبي الطريق ، كما لو كان مُوَكّل بالتعبير عن احترام المتنقلين ببن المدن وبين الولايات ، وهم ينهبون المسافات بسياراتهم الخاطفة على الطريق السريع ( highway ) . ومع انني توقفتُ ثلاث مرات في الطريق ، لتعبئة السيارة ولتناول الغداء ، وللاستراحة وشرب القهوة : الا ان المسافة التي قطعتها بين ولاية لويزيانا حيث اسكن كمواطن أمريكي ، وبين مدينة هيوستن في ولاية تكساس : لم تستغرق اكثر من خمس ساعات .

فرحتي عظيمة بزيارة وكالة الفضاء الامريكية ، فلأول مرة في حياتي : ازور مكاناً يرهص بالمستقبل : يدور شغله كله حول ما هو آتٍ . ولذا يتسم المكان بالحركية وليس بالثبات ، الثبات او بتعبير الفقهاء والنحاة : الأصالة ، هي معطىً اولي عاشت عليه حضارات ، كان محور تفكيرها يدور حول الشرح والتأويل لنصوص مقدسة سابقة . اما مفاهيم منظومة ” ناسا ” الفكرية ، فانها غير مشغولة لا بالنص القديم ، ولا بتأويله ، بل هي مشغولة بعملية الكشف ، والكشف بحد ذاته يحمل دلالته المستقبلية . انها مفاهيم ” ناسا ” لا تنطوي على هموم لغوية تتعلق بالتفسير الأصح والتأويل الأكمل لنصوص الماضي الدينية بل تنطوي على هموم الكشف ورفع الغطاء عن وجود سابق ايضاً ، ولكن التأويل لم يستطع الكشف عنه . انها تستخدم التلسكوب للنظر في اعماق الكون المجهولة ، لتزويدنا بمعلومات حساسة وذات مس ليس بعقولنا فقط بل وبوجداننا وضمائرنا . والكشف عن اعماق الكون المجهولة هو برنامجها المستقبلي : مستخدمة : البنية العملاقة لتلسكوب جيمس ويب ، الذي تلتقط مراياه الصور بمساعدة الأشعة تحت الحمراء التي لم يعرفها الماضي السابق على القرن العشرين ، ومن هنا يمكن لنا ان نلمس تغيراً عميقاً في معنى الماضي الدي يصبح : ماضي الكيفية التي خرج بها الكون الاول بما فيه من كواكب ومجرات …

لقد تمردتُ بطريقتي الخاصة كما هي عادتي ، على عاداتنا العراقية الموروثة في الهرب الى الماضي . في كل حياتي لم استنجد بالماضي ابداً اذا واجهتني تحديات جديدة بل امنح للعقل فرصة عظيمة للتفكير والتقيد بما يتوصل اليه من حلول ، حتى لو كانت صعبة ومرهقة . منهج نظامنا التعليمي يشجع على جعل الشباب يمدون عقولهم وأبصارهم الى الماضي : ليغرفوا منه حلولاً جاهزة لمشاكلهم ، فمثلاً يلجأ الموهوبون من شبابنا في الشعر وفي السرد لدراسة ذائقة جمالية عمرها اكثر من 1000 عام ، يتعلمون منها الاحساس بالجمال ، وهم يعيشون ويمارسون مهناً : شركاؤهم فيها لا يتحسسون جمال الكون من خلال : قفا نبك ، او : لخولة اطلال ببرقة ثهمد ، بل من خلال وعي آخر حديث وعصري : انها جمالية صناعة مجتمعات : ويتضمن مفهوم الصناعة بذاته : القطيعة لا الاتصال بمفاهيم الماضي الزراعي ، والانحياز للمفاهيم الحديثة ومنها : مفهوم الحقوق . لكل عصر ذوقه الجمالي : وذائقة عصرنا الجمالية يجسدها الكفاح المعرفي من اجل الكشف عن الحقوق : حقوق الملايين المهضومة الآن ، كما كان الامر في عهد صدام حسين ، من قبل شخص شخص واحد ايضاً : يشبه نوري المالكي او يشبه مقتدى الصدر او العامري او الخزعلي او الحكيم ، يعيش : ” بكد ألوف تعلك الكَرَبا”

عمل ” ناسا ” يتمحور حول صناعة ادوات الطيران ، والطيران لم يكن في الماضي علماً : لا عند ايكاروس اليوناني ، ولا عند عباس بن فرناس القرطبي المسلم : فعلامة العلم والمخترعات العلمية هو تطورها بعيداً عن الجسد في الوقت الذي تلبي للجسد رغباته المكبوتة وأحلامه المقموعة ، عن طريق تضخيم وتكبير حواسه : كما كبّرت السيارة خطو الانسان وجعلته يقطع المسافات الطوال بسويعات . ولم ينفصل علم ايكاروس ولا علم ابن فرناس عن جسديهما .

تعتمد آليات الصناعة مفهوم : التحويل ، تحويل المواد الخام الى سلع وبضائع تسد حاجة الانسان اليها : الذي لا تسد حاجته الى اللباس ، ولا يستر عريه الصوف لوحده ابداً : ان لم يتحوّل الى نسيج من القماش . وقد فشل العالمان القديمان في إنجاز مهمة تحويل الريش الى اجنحة ، ويعود السبب في ذلك الى محاكاتهما للطير في الطبيعة ، مع ان العلم يدور حول اكتشاف المجهول من القوانين ومن المواد وتفاعلاتها .
وعينا العلمي اليوم لا يختلف عن وعي ابن فرناس القرطبي وايكاروس اليوناني : فنحن كعرب وكمسلمين نراوح في وعي خاص حول الجسد البشري ، ونحاول ان ننجز عبقريتنا في الحياة من خلال الجسد ، فنحن نقيس شرفنا وأخلاقنا بما وضعناه للجسد من معايير ، وما زالت قوتنا ونحن نخوض المعارك تعتمد – في عصر التكنولوجيا العسكرية والقنابل النووية – على قوة عضلات اجسادنا ، فزعمائنا وجنرالاتنا ما زالوا يلوحون لنا بهذه النكتة التاريخية الصارخة ، نكتة : ( ها خوتي حيهم ها .. ها ها ) وهكذا اتسعت الفجوة العظيمة وتتسع باستمرار بيننا وبين تلك الشعوب التي لم يعد الجسد مدار وعيهم الأخلاقي والمعنوي وحتى العلمي كما هي الحال في ربوعنا التي يتكاثر عدد مدنها المقدسة ، وتقل خصوبة تربتها ويغزوها : التصحر والجزاء …

سيتكلل جهد وكالة الفضاء الامريكية هذه ( ووكالات اخرى يابانية وروسية وصينية وأوروبية وكندية ) برفع الغطاء عن التحديات الكثيرة التي تعمل على فك ألغازها : ( الانفجار الكبير ، الثقوب السوداء ، محاولة السفر عبر الزمان الذي حققه بشكل كبير وليس جزئياً مكرسكوب جيمس ويب ، اكتشاف ما تنطوي عليه بعض الكواكب من إمكانيات حياة ) ولهذا اشعر بعمق بانني ذهبتُ لزيارة مكان مستقبلي لا ماضوي ، علمي وليس خرافي ، يقوم منطقه على ترابط السبب والنتيجة ، وليس على ” الدعاء ” لتحقيق المعجزات التي لم تتحقق يوماً . لقد ارهص هذا المكان بالآتي من المنجزات العلمية : التي يمكن للدراسات المستقبلية استشراف أهدافها …

اذا اردت القيام بزيارة فرع ” ناسا” في مدينة هيوستن الامريكية ، فستجد في استقبالك مكان يفصح عن نفسه وعن الدور الذي يقوم به ، بمجرد اطلاعك على الادوات التي استخدمها طيارو ” ناسا ” في سفرهم المتكرر الى فضاء العالم الخارجي . وستفهم من خلال ذلك ما تم انجازه من كشوفات في الفضاء الذي يتمدد ويتمدد باستمرار …
و” ناسا ” متعددة الاهتمامات : فإلى جانب دراسة بنية الكواكب ، واستكشاف ما تضمه من مواد وعناصر مهمة وصالحة للاستهلاك الارضي ، تسعى ناسا الى البحث عن الاماكن الشبيهة بالأرض والتي يمكن للانسان العيش فيها : ومن هنا تبدأ مهمتها الاستراتيجية الاخرى المسكوت عنها : نقل المجموعات البشرية المستعدة للعيش في الكواكب الصالحة للسكن في مرحلة لاحقة …

العروج الى السماء فكرة قديمة ، قِدَم شوق الانسان لاستكشاف الطبيعة وما وراءها ، وقد لعبت الاديان دوراً مهماً في الجواب على هذه الرغبة الجامحة : بقيام أنبيائها بالعروج الى السماء : وما عادوا به من وصف لعالم الربوبية والملائكة ولأنواع العقاب ، مؤكدين في ذلك على وجود عرش الرب ، وعلى وجود الملائكة والشياطين ، وعلى وجود سبع سماوات طباقاً …

والحقيقة ان علم الفلك ذو انجازات مهمة على مستوى تحرير العقول البشرية من جمودها الذي طال ، خاصة بعد اكتشافات كوبرنيكس وجاليلو الفلكية في القرن السادس والسابع عشر لمركزية الشمس ، ولكروية الارض ، ودورانها حول الشمس . ومع مرور الزمن اصبحت دائرة الناس التي تتابع منجزات علم الفلك تتوسع باستمرار . وقد احدث بناء تلسكوب ” هابل ” منعطفاً تاريخياً مهماً في مسيرة هذا العلم ؛ تعمقت بعد استقرار التلسكوب العملاق : جيمس ويب في الفضاء على بعد 1,5 مليون ونصف كيلومتر من الارض ، ومباشرته بارسال صور : عن كواكب ومجرات كانت قد تكونت قبل مليارات السنين الضوئية ، وصفها المختصون بالمذهلة . وعلم الفلك واحداً من العلوم الذي دخلت مصطلحاته ومفاهيمه العلمية في لغة التداول اليومي للناس من مختلف الثقافات والجنسيات بفهم وبوعي اكثر وضوحاً من السابق ، وشاعت على ألسنتهم تعبيرات علمية من مثل : الأشعة فوق البنفسجية ، والاشعة تحت الحمراء ، وسنة ضوئية ، والانفجار العظيم ، الطول الموجي وغيرها …

هيوستن – لويزيانا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى