رأي

رسالة ضائعٍ لأقرانه

رشيد مصباح (فوزي)

**

من بين الأشياء التي لم أنتبه إليها حين كنتُ في سن المراهقة، اهتمامي بالآخرين المبالغ فيه، لدرجة إنّني فرّطتُ في نفسي، وحقّها عليّ كبير. بسبب الحالة النفسية وبعض العوامل الأخرى؛ التنشئة داخل الأسرة واحدة من بينها. فكل واحد منّا هو نتاج لتلك البذور التي زُرعت في وعيه الباطني، وبما أنّني نشأتُ في محيط متشبّع بالعاطفة، أكثر منه بالعقل والأفكار السّليمة، فكان لذلك أثره الكبير على علاقتي بالآخرين؛ وأقصد هنا الأقران بالطبع، وكذلك بعض الأقارب، فالأقرب منهم.

بقيتُ على تلك الحالة، أتعامل مع المحيط الذي أنا فيه بوجدانية ساذجة، وعاطفية زائدة عن اللّزوم. ولم أستفد ابدا من تجاربي مع الآخرين، لأنّني لم أستعمل عقلي، إلاّ مرغما. وقلّما كنتُ جادّا في حياتي. وهو ما يترجم فشلي في كثير من الأمور، سيّما فيما يتعلّق بحياتي الماديّة؛ المقياس الذي يحكم من خلاله المجتمع على مدى نجاح الفرد من عدمه. ( والمجتمع هنا: هو مجتمعنا “الكريم المحترم” الذي يقدّس المظهر على حساب الجوهر).

التنشئة، داخل الأسرة وخارجها؛ بمعنى المحيط الذي ينشأ فيه الطفل ثم يكبر فيغدو شابا جادّا طموحا صاحب همّة وإرادة، أو فاشلا تافها لا إرادة ولا مستقبل له على الإطلاق، فهي-التنشئة- قد تكون المتسبّب الرئيسي في كل هذا. ومع غياب التكافل الإجتماعي، فإن سلوك النشئ يأخذ شكل القوالب التي تمّ زرعها في عقل الطفل الباطن.

هذه هي الحقيقة التي لم أستطع لحد الآن تجاهلها، ومع مراجعتي لكل التّفاصيل، بعيدا عن نظرة الآخرين. أقول بعيدا عن نظرتهم: بغض النّظر عن كون سلوكياتي كانت محل استحسانهم وتعجبهم، أو استهجان من طرف بعض منهم. فنظرتهم لي لم تعد من ضمن حساباتي، لأنّني وبكلّ بساطة وتواضع صرتُ انتقائيّا، ولم أعد ذلك السّاذج الذي كانوا يتفكّهون بأقاصيصه، ويستلذّون بمعاناته ويلمّحون إليه، ويتغامزون عليه ويشيرون إليه بأطراف الأصابع؛

وإنّني لعلى يقين وقد غدوتُ شيخا بعد يبس عودي، أحكّم عقلي ولا أريد أن أظلم أحدا، ولم أعد عاطفيا كما كنتُ، ولا غضّا كما هو الشّأن من قبل.

ولكلّ من يهمّه أمري؛

——————-

قد تكون هذه رسالتي الأخيرة، وأعتقد جازما أن هناك من الأقران وحتّى من بعض الأقارب، من يتابع كلامي ليس من الفراغ، ولكن من باب الفضول خاصّة، فلا وجود لفراغ في لغة المنطق و الصّواب. وليسمح لي هؤلاء الأقارب والأقران، أن أقول لهم: إنّني قد غيّرتُ من نظرتي للحياة وللآخرين، ولم تعد لي رغبة ولا بمقدوري التذلّل لهم لكسب ودّهم، كما هوة الشّأن من قبل؛ إذ إنّ الودّ لا يأتي بالتكلّف.

إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلّا تَكَلُّفاً

فَدَعهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا

فَفي الناسِ أَبدالٌ وَفي التَركِ راحَةٌ

وَفي القَلبِ صَبرٌ لِلحَبيبِ وَلَو جَفا

فَما كُلُّ مَن تَهواهُ يَهواكَ قَلبُهُ

وَلا كُلُّ مَن صافَيتَهُ لَكَ قَد صَفا

إِذا لَم يَكُن صَفوُ الوِدادِ طَبيعَةً

فَلا خَيرَ في وِدٍّ يَجيءُ تَكَلُّفا

وَلا خَيرَ في خِلٍّ يَخونُ خَليلَهُ

وَيَلقاهُ مِن بَعدِ المَوَدَّةِ بِالجَفا

وَيُنكِرُ عَيشاً قَد تَقادَمَ عَهدُهُ

وَيُظهِرُ سِرّاً كانَ بِالأَمسِ قَد خَفا

سَلامٌ عَلى الدُنيا إِذا لَم يَكُن بِها

صَديقٌ صَدوقٌ صادِقُ الوَعدِ مُنصِفا

(الإمام الشافعي)
ضائعٌ بين أقرانه

الجزء الثّاني

(23)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى