أخبارأمن وإستراتيجيةفي الواجهة

معالم الطريق نحو الأمن الوطني والإقليمي

معالم الطريق نحو الأمن الوطني والإقليمي

صبحة بغورة
الحديث السياسي مؤخرا عن الأمن في دول منطقة الشرق الأوسط تحديدا أصبح يتجاوز مجرد مسألة
الأمن الوطني الذي يتعلق حسب المفهوم العسكري بقضايا الدفاع عن حدود الدولة أو الإستنفار لمقاومة
تهديدات خارجية حاملة أهداف استعمارية أوتخفي وراءها نوايا توسعية بدعوى تعديل الحدود من خلال
المطالبة بحقوق ترابية تاريخية ، أو أن يتعلق الأمر بالانتصار لقضايا خاصة بكيانات تتمسك بحقها
التاريخي في العيش داخل مناطق جغرافية محددة ، كل ذلك أو بعضه تحول إلى قضية دفاع عن الوجود
السياسي للدولة وعن أصالة شعبها الدالة على هويته وحضارته وثقافته المميزة مصدر إبداعه ورقيه
الحضاري بكل ما تحمله هذه الأبعاد من دلالات وخصوصيات هي في حد ذاتها مقومات أساسية لكل أمة .
إننا أمام مدخل آخر من مداخل فرض السيطرة الذي بات لا يهدد الأمن الوطني لدولة بعينها فحسب بقدر
ما اتسع وأصبح يهدد بشكل جدي وخطير الأمن الإقليمي لمناطق تشمل دولا بكاملها خاصة إذا كانت
تجمعها جملة من الخصائص المشتركة تميزها عن غيرها من الأمم مثل دول منطقة الشرق الأوسط ،
نحن أمام الحديث عن محاولات جديدة لفرض مظاهر مستحدثة من “الهيمنة الناعمة ” التي بالرغم من
تعدد مجالاتها وتنوع أساليبها إلا أنها تتقاسم هدفا واحدا وهو سلب إرادة الآخر سلبا تدريجيا وبكل طواعية
منه للتمكن من احتوائه داخليا ، الأمر أقرب إلى غزو غير معلن بمحاولات التقرب المغلفة بالمؤامرات
المحبكة لإلغاء الشخصية من خلال المناورات المتعددة المجالات لتسويف مقومات هذه الشخصية تمهيدا
لإضعاف قوى الأمة الداخلية الحية ومحاولة سلب سيادتها على مقدراتها لضمان ارتباطها المطلق عقائديا
وثقافيا ومن ثمة تبعيتها تجاريا واقتصاديا ، ثم ولائها سياسيا ، ومن هنا تبرز أهمية التعرض لمفهوم الأمن
الإقليمي من منطلق ارتباطه باعتبارات جوهرية في حياة الأمم وهي تحديد المصير والحق في الوجود.
يعتبر الغزو الثقافي من أبرز مظاهر الغزو غير المعلن وأخطرها الذي يسهل تمريره وإخفاء طبيعته
المؤامراتية لأنه يستهدف من خلال أعمال أدبية تبدو خالصة ودراسات تاريخية في ظاهرها حيادية
وتحليلات سياسية تدعي النزاهة المساس بالثالوثين المحيطين بحياة أي أمة ، الثالوث الأول ، مركزي
وهو الذاكرة الجماعية ، الرمز التاريخي ،والوطن ، بمعنى محاولة تسويف ماضي الأمة وطمس تراثها
وأمجادها وتغييبه عن وعي النشء كمفتاح سحري لتقبل محاولات التشكيك لاحقا في صدق وإخلاص
الشخصيات الوطنية وتشويه مواقفها التاريخية فتفقد هذه الشخصيات مفعول رمزيتها ويخفت تألقها
الشعبي فلا تذكر حتى تنسى ، ولا يبقى للوطن من ينتصر له بعدما يكون قد فقد المقومات الكفيلة بجعله
البوتقة الجامعة لأبنائه تحت مظلة الهوية والأصالة ، أما الثالوث الثاني فهو لامادي ، وهمي ، يتعلق
غالبا بما جرى اعتبارها من المحرمات أو المحظورات وهي الدين ،السياسة ، والجنس ، حيث الحديث
عن هذه المسائل يجري من وراء الأقنعة وفي زوايا ضيقة ومعتمة ، فبعدما تم احتكار الدين بين أيدي قلة

متطرفة متأثرة بالتفكير المطلق وتدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وبعدما أصبحت استراتيجيتها
الإيديولوجية الإعلامية تعج بالتضليل وتزييف الحقائق وبالعنف الرمزي وترفض من يخالفها وتقصي من
يعارضها وتقوم بالتصفية الجسدية لكل من يقف ضد نشر أفكارها ، فقد بقيت الممارسة السياسية الفعلية
بيد قلة نافذة تتمسك بالعلمانية وتسيطر على مراكز اتخاذ القرار ، تؤمن بالتفكير النسبي كسبيل لتحقيق
التوازنات الضرورية لضمان بقائها في السلطة ، ثم أبانت تطورات الأوضاع السياسية أن بقاء أحدهما
أصبح رهين زوال الآخر ، فنشب الصراع المسلح وعانت الشعوب من ويلات النزاع الدامي الذي
وضعت تطوراته المتسارعة أمن واستقرار البلاد على المحك ، وعرض انتشاره الخطير سيادة الدول
للزوال ، وبقدر ديمومة المواجهة بين الفريقين بقدر ما ارتسمت ملامح نموذج الدولة الفاشلة ذات
الهشاشة السياسية والتدهور الاقتصادي ، والتفكك الاجتماعي. والتردي الأخلاقي حيث تهتز القيم و
المبادئ حتى يصبح الشك هو المسيطر في كل مجالات الحياة فتتعاظم فرص إضعاف الدولة وتزيد
احتمالات تفككها وتتعدد سيناريوهات تقسيمها ، إنها حالات واقعية نعيش مفرداتها في العديد من دولنا
العربية ونتألم لها .
ونحاول من خلال الأفكار التالية أن نجتهد في تلمس معالم الطريق الذي يقودنا نحو تحقيق الأمن
الإقليمي في دولنا النامية :

  • لا سبيل للخروج من دوامة إضعاف سلطة قيادة الدول على شعوبها وحرمانها من استغلال مقدراتها
    سوى بجهد سياسي ــ أمني مشترك يترجم رؤية استراتيجية شاملة تضع مصلحة الشعوب هدفا أساسيا
    لها ، ولا تثير المنافسة السلبية الساخنة بينها تلك المنافسة التي وإن لم تكن واضحة في ظاهر الأمر إلا
    أنها كانت لفترة غير قصيرة مجالا واسعا لترصد الأخطاء والعثرات والتشهير بها ،ولطالما مثلت ثغرة
    في جدار دفاعاتنا لإشاعة الكره والبغضاء من أجل تحقيق هدف التفرقة.
  • مسؤولية القيادات السياسية ثابتة ومؤكدة عن مستوى أداء أجهزة الدولة السياسية والدستورية
    والعسكرية وعن نتائج الجهود المبذولة من أجل إقامة دعائم العمل الوطني ، وكل ضعف أو تراجع و
    تقصير سواء عن قصد أو بغير قصد هو في نهاية الأمر مسؤولية هذه القيادة وهي المسؤولة عن ما
    يترتب على فشلها من تبعات وهي التي يجب أن تتحمل نتائجه ، ومجرد غض النظر عن هذا الاعتبار
    الهام يمكن أن يكون مدعاة غير مقبولة أن المسؤول عن الفشل يحسن صنعا.
  • يؤدي الربط الوثيق بين تحقيق التنمية الاقتصادية بمفهوم التطوير الإداري والثقافي والاجتماعي ،
    وبمفهوم الجودة الشاملة إلى تحقيق هدفي الانسجام العام لأنشطة الدولة ، وانعكاس اثر جهودها بشكل
    مباشر وملموس على الحياة اليومية ، ذلك أن من أثر هذا الربط الإجادة الكلية في توفير المتطلبات من
    خلال المشاركة والتمكين التي قد تضمن بدرجة كبيرة تحسين المواصفات الفنية للمنتجات وتخفيض
    التكلفة وزيادة الانتاجية ، وهذا في حد ذاته من بواعث الفخر الوطني والاعتزاز الشعبي ، وتعزيز روح
    الانتماء والولاء .
  • قد تكون من أبرز الرواسب التي شكلتها المآسي الوطنية التي عرفتها المنطقة العربية خاصة ومازالت
    تحدث فعلها في بعض بلداننا العربية صعوبة عودة الوئام الوطني بين الفرقاء المتنازعين الذين ينتمون
    للبلد الواحد بعدما عانوا ويلات المواجهات المسلحة ، أي وجود صعوبة في إعادة اللحمة الشعبية إلى

سابق عهدها ،إنها مسألة تتعلق بفتنة هددت بتفكك الوحدة الوطنية ، وأصبحت عملية رأب صدعها
العميق تتطلب توفر القدرة على تحمل عبء ومسؤولية بعث مشاعر الثقة وروح التسامح والاستعداد
النفسي لفكرة المصالحة ، ونبذ التحفظ المقيت المحبط لآمال أمة عندما تتطلع بكل الشغف للأمن
والاستقرار ، قد لا تكون الكلمات وحدها كافية لمثل هذا المسعى النبيل وإنما بالمزيد من العمل التضامني
الوطني والتصور التشاركي الجاد .
من المعروف أنه لا حديث عن السياسة بعيدا عن الجغرافيا ، وأن المنطقة العربية على وجه التحديد
بخصائصها الثابتة و المتميزة من حيث التاريخ والموقع وعديد القواسم المشتركة يمكنها أن تتمتع بجاذبية
سياسية عندما تمثل مجموعة متماسكة من دول مسالمة ذات قوة ردع تحمل رسالة أنها تعمل على
موازنة القوى إقليميا ودوليا ، ويمكنها أيضا أن تؤكد على لسان قياداتها السياسية والعسكرية أنها تتجاوز
بنبل مقاصدها وسائل صناعة الخوف من تسريب الإشاعات ، وتعمد خلق أجواء الشك والتوتر ووضع
الشأن العام تحت الضغط ، ونسج مؤامرات إثارة الفزاعة الأمنية ، واختلاق الأزمات الاقتصادية ، ونشر
الفتنة الطائفية والنعرات العنصرية ، وإحاطة المواطنين بالمشاكل الاجتماعية والتعقيدات الحياتية
والبيروقراطية المعقدة ، وأنها بهذا أرادت أن تقفز بإرادتها الحرة على مراحل الغيبوبة السياسية ومظاهر
السبات الإعلامي.
إن أهمية الإدراك العميق بأن الثقافة السياسية والقوة العسكرية هما جناحا الأمة التي تحمي النفوس من
التلوث ومن الرهاب الاجتماعي والترهيب السياسي إنما هما في حقيقة الأمر أيضا من أهم مقومات
النجاح في تحقيق الأمن الوطني وهما من عوامل التميز الحضاري التي تتيح إمكانية حدوث الوقفة
الحاسمة أمام التاريخ لتجديد العزم ،حينها يمكن أن نلمس حكمة التطور السلمي عبر المراحل وفضائل
الحوار والمشاورة.
هناك حاجة ملحة إلى اتباع نهج الواقعية السياسية في التعامل مع متغيرات الواقع الأمني وتقلبات ميزان
القوة العسكرية سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي ، ولعل من أهم ما يمكن أن تشمله هذه الدعوة
دراسة وبحث الجدوى السياسية من السياسات العسكرية المطبقة إن كانت مثلا محدودة التأثير أو منعدمة
الوجود ، أو موجهة للمواقف ، والوقوف على مقدار الأثر الذي تحدثه في كل حالة وعلى مدى مناسبته
للظروف المحيطة المعاشة من حيث حجم مساهمتها في تحقيق المصالح أو حجم الأضرار التي تحدثها
أو ستحدثها في حالة الاستمرار في تطبيقها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى