دراسات و تحقيقات

بريطانيا .. الدولة الكبرى !

أحمد فاروق عباس

الإمبراطورية البريطانية ليست فقط واحدة من أقوى امبراطوريات التاريخ ولكن هى بالتأكيد من اذكاها ، يكفى أنها جعلت من جزيرة صغيرة منزوية فى أقصى شمال العالم الدولة ذات النفوذ الأكبر في الدنيا كلها ، والإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس ..
وبريطانيا دولة ليست ذات موارد ضخمة ، ولا موقع ممتاز ، ولا سبق فى الحضارة أو الغنى ..
فما الذى جعل من دولة هذه ظروفها أقوى دول العالم لثلاثة قرون تقريبا ؟!
هناك تفسيرات عديدة قدمت لذلك ، منها مثلا :
١ – أن بريطانيا هى التى عرفت الرأسمالية أولا قبل غيرها ، والرأسمالية ودافع الربح هو ما قادها إلى الثورة الصناعية ، وقد أعطت الرأسمالية لبريطانيا نزعة التوسع والخروج إلى المستعمرات لجلب المواد الخام ، واعطتها الثورة الصناعية فتح الأسواق الخارجية لتصريف منتجاتها ..
٢ – البحرية البريطانية : لم يكن لبريطانيا طوال تاريخها جيش قوى ، لكنها امتلكت أقوى بحرية في العالم كله ، والبحرية البريطانية – التى سيطرت على بحار ومحيطات العالم – هى ما فتحت أمام الرأسمالية البريطانية والثورة الصناعية التى تمخضت عنها أسواق العالم للتجارة ، وموارده للنهب ، واسواقه لتصريف منتجاتها ، وبدون البحرية البريطانية لم تكن بريطانيا لتصل إلى نصف ما وصلت إليه ..
ولكن كل تلك مظاهر للقوة وليست القوة ذاتها ، فيمكن جدا أن تستطيع البحرية البريطانية أن تنقل الرأسمالية البريطانية والثورة الصناعية الناشئة عنها الى أسواق العالم للتجارة والربح ، ولكن كيف لها أن تستطيع أن تحكم دولة بحجم الهند لمدة قرنين من الزمان ، أو كندا والولايات المتحدة – قبل استقلالها – واستراليا ومصر والسودان وجنوب أفريقيا ، وعشرات المستعمرات فى كل قارات العالم ؟!
إنه الدهاء البريطاني فى المقام الأول ..
أكثر من الرأسمالية البريطانية ، وأكثر من الثورة الصناعية ، وأكثر من البحرية البريطانية ..
والدهاء البريطانى هو ما جعلها مثلا تستخدم الأديان لمد سيطرتها على بقاع عديدة حول العالم ، وهو ما جعلها تستخدم نظريات سياسية مثل القومية للتلاعب بشعوب معينة ..
ومن ضمن الدهاء البريطاني كان استخدام الحركات السرية لمد النفوذ البريطاني حول العالم ، حتى بعد ضياع الإمبراطورية ..
ومن ضمن الحركات السرية الكبرى – وأهمها وأشهرها – التى استخدمتها بريطانيا كانت .. الماسونية .
والحديث عن الماسونية يأخذنا مباشرة إلى عالم الاسرار والغموض ، ومن هنا يبتعد كثير من الناس عن الإستماع ، لأن الحديث سوف يذهب الى مناطق ملتبسة يكثر فيها الخيال ، ومن هنا يوصم كل من يتحدث عن الماسونية أنه من الواقعين تحت تأثير نظرية المؤامرة ..
ليس هناك مؤامرة فى الموضوع ..
بل دول وطبقات حاكمة تستخدم أدواتها لبسط نفوذها وإدامته ، ومن ضمن تلك الأدوات نظريات سياسية كبرى ، وأديان عالمية اتباعها بمئات الملايين ، وأيضا حركات سرية مثل الماسونية ..
والآن ندخل إلى عالم الماسونية الانجليزية ..
النقطة الأساسية في الموضوع كله أن الإنجليز هم أول من أسس وأنشأ الماسونية في العالم ..
وتختلف الماسونية الانجليزية عنها في دول العالم الأخرى فى نقطة أساسية ، فهى لا تنشط أبدا ضد دولتها ، لكنها على العكس طورت نفسها لكى تكون مؤسسة تضع نفسها تحت تصرف الدولة حيثما يوجد احتياج لها ، كى تدعم الحركات الثورية في الدول الأجنبية ..
وتصف الماسونية الانجليزية نفسها – كما هى متوحدة في المحفل الكبير لإنجلترا – بأنها أقوى منظمة ماسونية في العالم ..
وفى انجلترا أكثر من اى مكان آخر ، كل من له مكانة فى المجتمع الانجليزى ، وكذلك كل من يتطلع وينشد الصعود فهو يتبع الماسونية ، فطبقة النبلاء الإنجليز وعلى قمتهم أفراد العائلة المالكة ، ثم الوزراء وأعضاء البرلمان ، ومدراء البنوك ورجال الصحافة والمحامون ورجال الدين ، كل أولئك فى انجلترا هم ماسونيون ..
ويقال دائما إن الماسونيين الإنجليز لا يمارسون السياسة ، وهو قول صحيح ، فلا يفعل الماسونيون الإنجليز ما يفعله إخوانهم الفرنسيين والاسبان والإيطاليين والبرتغاليين والمجريين ، لأن الحكومة هى التى تمارس السياسة ، والماسونيون الإنجليز فى كل العالم هم أعضاءها التنفيذيون ..
وهو مغزى العبارة الشهيرة ” عظمة بريطانية هى صنيعة الماسونيين ” ..
فكلهم يعملون من أجل السيادة البريطانية ، ولا يمكن تقدير مدى التأثير الذى يفعله مئات الألوف حول العالم من النشطين بشكل واسع ، مكونين سلسلة متصلة ببعضها بشكل قوى وفعال ..
وطبقا لمراقبين كثيرين ، فإن النمو الهائل لحركة الاستعمار البريطاني فى القرن التاسع عشر ترجع الى المعاونة النشيطة والمستمرة للماسونيين ، وكما يؤكد الإنجليز أنفسهم ، فقد شكلت الماسونية الانجليزية أساس السيادة العالمية الانجليزية ، أو الإمبريالية البريطانية بلغة السياسة ..
وحيثما تظهر القلاقل في إحدى الدول تنشط إنجلترا – طبقا لمصالحها – لتأجيج تلك الاضطرابات ، وتدعم الثوار والمنشقين بالمال بسخاء ، وهو ما لاحظه المستشار الألماني العتيد بسمارك بذكاء عندما قال ” أن تهديد الدول الأجنبية بالثورة هو مهنة إنجلترا اليوم ومن سنين عديدة ” ، وهو ما فعلته بريطانيا مرارا ، من الثورة الإيطالية إلى ثورات دول البلقان ، ودعم الثورات والاضطرابات في البرتغال والبرازيل والصين وإيران وغيرهم …
وللماسونيين دورهم في تلك الاضطرابات والثورات ، فهم بتنظيمهم المحكم والسرى والمنتشر حول العالم يستطيعون بسهولة نقل المال والتكليفات والخطط من وراء ظهر الحكومات ..
وبالنسبة للمال .. فالإنجليز بارعون في الإنفاق على الحركات السياسية فى الدول الأخرى ، والإنجليز تجار بطبعهم ، وهم محاسبون ممتازون ، ويعرفون انهم سيستردون ما انفقوه أضعافا مضاعفة ، ويوجد في الميزانية البريطانية دائما بند مصاريف ضخم جدا ، لم يحدث أبدا أن تقدم أحد أعضاء البرلمان الانجليزى بطلب للإستفسار عنه ، ويوضع هذا المبلغ الضخم تحت تصرف ” مكتب الدعاية لتحقيق أهداف سياسية ” ..
وطبقا للدكتور فريدريش فيختل وهو نائب برلمانى وسياسى نمساوى ، وهو مؤلف الكتاب المهم ” الماسونية العالمية .. بحث عن المنشأ والأهداف النهائية للحرب العالمية الأولى ” وهو ما أعتمد عليه بصورة أساسية في تلك الجزئية ، فإن من مهام ذلك المكتب دعم الحركات الثورية في الخارج ، وكذلك ترتيب وتنفيذ الاغتيالات السياسية ، مثل إغتيال الزعيم الاشتراكي الفرنسى فوريه ، والوزير الروسى الكونت فيته ، ومن ذلك المكتب انسابت الأموال اللازمة لمحاولات إغتيال ملك بلغاريا ، والسير روجر كيسمنت ..
وفى كل تلك الأعمال السرية في البلدان الأجنبية – صنع الاضطرابات والثورات مرورا بتنفيذ الاغتيالات السياسية – يكون للإخوة الماسون دورهم الكبير بحكم تنظيمهم السرى وروابطهم المحكمة ..
والماسونية باقية ببقاء الدولة ، فهى تدعم الهيمنة والنفوذ البريطانى حول العالم بشكل فاعل ..
ويلجأ الفرد الماسونى في سبيل تحقيق الأهداف إلى استخدام ” إخوانه ” حيث يدفعهم إلى المقدمة ، ويتركهم من هناك لتحقيق ما يطلب منهم ، وسياسة إنجلترا لجأت إلى ذلك منذ زمن طويل ، فغالبا لا تحقق السياسة الانجليزية أهدافها مباشرة بل بطريق غير مباشر وبواسطة أصدقاء أو إخوة !!
واستخدمت إنجلترا ذلك – واليوم تفعل أمريكا نفس الشئ – فى دفع دول معينة لاتخاذ إجراءات سياسية مقصودة ، وأحيانا توريطها في نزاعات أو حروب ، ويلعب الاخ الذى تم دفعه إلى أعلى المناصب فى دولة ما ما هو مطلوب منه بالضبط ..
وربما نظرة عما يحيط بنا حول العالم الآن كفيلة بفهم المطلوب ..
ويذكر الدكتور فريدريش فيختل فى كتابه – وقد صدر عام ١٩١٩ أى منذ أكثر من مائة عام – أن دفع دولة ما لاتخاذ إجراءات سياسية معينة قد لا تكون فى مصلحتها هى ، ولكن تحقق المصلحة البريطانية سياسة انجليزية ثابتة ..
فإذا قامت الحكومة الانجليزية بمطالبة دولة معينة بالتصرف بطريقة محددة سيكون ذلك مجهودا بلا طائل ، لأنها فى الغالب لن تستجيب ..
وهنا يأتى التصرف بطريقة غير مباشرة ، فيتم تفعيل دور الماسونيين ، وبالدرجة الأولى محافلهم الكبرى سواء في المستعمرات أو فى الخارج ..
وهناك ثلاثين محفلا إنجليزيا كبيرا في الهند وأستراليا وجنوب افريقيا وبقية المستعمرات الأخرى ، وكذلك فى الأرجنتين واليابان والصين ، كل أولئك – طبقا للسياسى والبرلمانى النمساوى القديم – أدوا أدوارهم بشكل تام ، وحققوا ما كان مستحيلا بالنسبة للحكومة الانجليزية تحقيقه ..
وفى أوائل القرن العشرين كان هناك ٦٧٧ محفلا إنجليزيا فى الخارج ، كانوا معاونين كبار للدولة والسياسة الانجليزية ، ويذكر الدكتور فيختل أنه بافتراض أن كل محفل يضم ١٠٠ شخص فقط فإن ذلك يعطينا جيشا مدنيا قوامه ٦٧٠٠٠ أخ ، من الرجال الأذكياء حسنى الاطلاع ، ومن المحتم انهم يمارسون نفوذا غير عادى ، لما عرف عن الماسونيين من النشاط الدائب والخفة فى الحركة ، وبالذات عندما يتلقون تعليمات من المركز الرئيسي وهو المحفل المتحد الكبير لعموم إنجلترا ..
ويأتى بعد ذلك نفوذ هؤلاء على ” الإخوان ” فى الدول الأخرى والجنسيات المختلفة ، وقد ضمت التنظيمات الماسونية الخاضعة لنفوذ الإنجليز رجال على أقصى درجة من الأهمية في بلادهم مثل الأخ أمير أفغانستان ، والاخ سلطان زنجبار ، ورجل الدولة اليابانى الأخ بيكومتى هاياسى ومئات آخرين لهم نفس الأهمية والنفوذ فى بلادهم !!
وقد انتمى كل هؤلاء لمحافل إنجليزية ، وأخرون تمتعوا بحق الاستضافة فى المحافل الماسونية الانجليزية كإخوان زائرين ..
ويذكر المؤلف ملاحظة أخيرة خاصة بزمن تأليف الكتاب – سنة ١٩١٩ أى بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة – والمتعلقة بكيف وجدت كل من ألمانيا والنمسا ( وهما عدوتين لإنجلترا فى تلك الحرب ) نفسيهما محاطتين بعالم من الأعداء رغم انفهما ، ومع أنهما لم تسعيا في ذلك مطلقا .. فيقول :
” لقد بذل المرء جهدا خارقا لكى يتبين من هو الذى تدين له ألمانيا والنمسا بالفضل في وضعهما في مواجهة عالم من الأعداء ، لقد وقع المرء فريسة لأسخف وأتفه وأغبى التفسيرات ، وتغاضى عن أقربها ، لأنهم قليلون أولئك الذين كونوا رأيا حاسما عن ماهية الماسونية وحجمها وأهميتها ، وحيث تحتم أن تخبو أصوات تلك القلة وسط صياح الكثيرين ، لكن هنا يمكن حقا حل ذلك اللغز ، وهو أن استحضار هذا العدد المهول من الأعداء يمكن تفسيره في نقطة واحدة فحسب .. الماسونية المطوقة للعالم ، والتى تخطو إنجلترا على قمتها منذ قرنين من الزمن ” ..
وهو ما تكرر بحذافيره في الحرب العالمية الثانية ، حيث تم دفع ألمانيا واليابان لحرب الاتحاد السوفيتي ، وكانت النتيجة تدمير الدول الثلاث فى حرب طاحنة ..
وهو عين ما يتم فعله الآن – فى اوأئل العقد الثالث من القرن ٢١ – حيث يتم صنع عالم من الأعداء حول روسيا والصين ، من دول مثل اليابان وكوريا وأستراليا والفليبين وألمانيا وباقى دول أوربا – غربها وشرقها – بدون أن يتبين المرء ما هى بالضبط مصلحة تلك الدول فى عداء الصين أو روسيا ؟!!
فى النهاية ..
الماسونية ليست نوع من الكهنوت ، ولا هى تفكير بمنطق نظرية المؤامرة ، ولكن هى وسيلة ضمن وسائل ، وأداة من أدوات تستخدمها الدول الكبرى وطبقاتها الحاكمة لبقاء نفوذها وسيطرتها العالمية .. التى تخبو رويدا رويدا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى