ثقافة

درع آشيل

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

ص ٥٠
أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٤ – فلسفة التفاصيل

لقد كان البحث ووصف التفاصيل الدقيقة للأشياء والظواهر تكاد تكون طبيعة خاصة بالفكر اليوناني منذ القدم، على الأقل منذ هوميروس Ὅμηρος – Hómēros في القرن الثامن قبل الميلاد، والذي كرس في الإلياذه صفحات عديدة لوصف درع آشيل، الذي صنعه له خصيصا الحداد الأعرج وإله النار هيفايستوس. حيث وصف هوميروس التفاصيل الدقيقة للنقوش التي يحتويها درع البطل اليوناني والتي تتكون من مجموعة من الزخارف في سلسلة من خمس دوائر ذات مركز واحد. في الدائرة الأولى نجد النقوش التي تمثل الأرض والسماء والبحر والشمس والقمر والأبراج، ثم مشهد يمثل مدينتان جميلتان، وأخر يصور حفلة زفاف وشباب يرقص، ثم مشهد مجموعة من المعارك الحربية وعملية حصار لإحدى المدن، ثم صور ونقوش أخرى تمثل الحياة العادية من حقول وفلاحين يحصدون محاصيلهم، وأسود تهاجم قطيع من العجول أو الخرفان .. إلخ. وهذا ما أعطى فيما بعد، في الأدب، مفهوم الـ “إيكفراسيس” ekphrasis – ἐκφράζειν وهو وصف دقيق ومفصل، معناه باليونانية القديمة “التوضيح حتى النهاية أو إلى أقصى حد ممكن”. كان المفهوم في بداياته مرادفًا لمعنى الوصف التفصيلي للأشياء ثم تطور هذا المعنى ليقتصر على وصف “الأعمال الفنية”، يفسر هذا الانكماش الدلالي من خلال استخدامه المتكرر في الأدب اليوناني اللاتيني، ويشكل تقريبًا نوعًا أدبيا في حد ذاته.
وهذا التدقيق والبحث عن التفاصيل أدى بطبيعة الحال إلى دراسة كل موضوع أو ظاهرة أو فكرة من جميع جوانبها، ودراسة جميع الإحتمالات الممكنة، وأدى في نهاية الأمر إلى إعادة النظر في التفسيرات والرؤى الميثولوحية القديمة للطبيعة ونشوء العالم والبحث بالتالي عن تفسيرات جديدة. فالإعتقاد القديم بأن الأرض قرص مستدير يحمله ثور بين قرنيه لم تعد كافية بل أصبحت مضحكة، وتفسير فيضانات الأنهار بغضب الآلهة لم يعد مقنعا. وبواسطة التجربة وتسجيل الأحداث الطبيعية وربطها بعضها ببعض أكتشفوا أن فيضان النيل له علاقة بالقمر ورياح الصحراء وغزارة الأمطار أكثر من علاقته بمزاج الآلهة. تدريجيا بدأ العقل يأخذ مكانه الطبيعي في تحليل الظواهر وإيجاد الأسباب والعلل وتكوين علاقات جديدة بين الأشياء.
لقد كان ظهور الفلسفة إعلانا عن إحداث قطيعة في التفكير عند الإغريق، حيث تم الإنتقال من الخطاب الشفوي الأسطوري إلى الخطاب الفلسفي المكتوب الذي يعتمد على الاستدلال العقلي وإنتاج الأفكار والمفاهيم العقلية المجردة. ويعتبر طاليس وأنكسمانس وأنكسماندر أقطاب المدرسة الأيونية التي ظهرت في مدينة ميليته في القرن السادس ق.م. وقد كانوا علماء يهتمون أساسا بالرياضيات والعلوم الطبيعية ولهذا يسمون بالفلاسفة الطبيعيين أو الكوسمولوجيين نظرا لاهتمامهم بالطبيعة وظواهرها المتعددة وأصل الكون. وقد شكلت أبحاثهم قطيعة مع الفكر الأسطوري الذي كان سائدا من قبل في بلاد اليونان، مما يجعلهم يمثلون الإرهاصات الأولى للفكر الفلسفي في الحضارة الإغريقية. أقطاب هذه المدرسة الأيونية، طاليس وأناكسيماندر لم يتبقى لنا من إنتاجهم الفلسفي والعلمي أي أثر، وكل ما نعرفه عنهم يرجع إلى أرسطو، والذي كان يبحث عن الإجابة عن سؤال ربما لم يطرحوه أساسا ولم يكن من إهتماماتهم في ذلك الوقت عن أصل الواقع وماهيته ” ماهي المادة التي صنعت منها الأشياء ؟ ” لقد كانت إهتماماتهم متركزة على الكون وأصله ،والبحث عن المبدأ الأول، حيث طاليس يرجعه إلى الماء، بينما أناكسيماندر يقول بأن أصل الأشياء والكون هو اللامتناهي، بينما أناكسيمن يرى أن كل شيء مصدره الهواء. غير أن الإعتقاد بأن أصل الكون هو هذا البخار اللامتناهي الناتج عن تبخر مياه البحر بفعل حرارة الشمس لا يعني أن هؤلاء كانوا يبحثون مشكلة المادة وأصلها. كانت البحوث الأولى تتعلق أساسا بالعلوم الطبيعية مثل الظواهر الفلكية والجوية، الكسوف والخسوف، الزلازل والريح والمطر والعواصف والأعاصير. وأهتموا أيضا بالعلوم الجغرافية ورسموا خرائط للأرض. أناكسيماندر كان يراقب تكون السحب السوداء الثقيلة في السماء المحملة بالأمطار والعواصف والبرق والرعد، كان يعتقد أن الريح تسكن جوف هذه السحب ومسجونة في أعماقها، غير أن قوة الريح العاتية كانت قادرة على تفجير هذا السجن السحابي وتمزيقه وما البرق والرعد سوى نتائج هدا الإنفجار. والكل يرجع إلى ظاهرة تبخر مياه البحر وتحولها إلى بخار ورياح وسحب.

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى