حكاية الدجاج التي لا يعرفها أحد
منير المجيد
الدجاج هو أكثر الحيوانات التي تتعرّض إلى التقتيل وسفك الدماء. أعداؤها كثر، فعلاوة عنّا، نحن البشر، تقتلها الثعالب والذئاب والأفاعي وما تبقى من صنف المُفترسين.
نحن نفخر أنّنا صرنا نقتلها برحمة في المسالخ العملاقة حين تمريرها في حوض فيه ماء مُكهرب فيُغمى عليها. تخضع رقابها بعدئذٍ إلى السكاكين الآلية. أذكر أن بعض دول الخليج رفضت طريقة الذبح هذه التي بدأ الأخذ بها في التسعينات، لأن الشريعة تُشيرُ إلى أن الحيوان يجب أن يكون في وعيه الكامل قبل تنفيذ الإعدام، لكنهم تراجعوا عنه بعد ذلك لسبب ما. الثعالب والذئاب تفتك بقنّ الدجاج، عن بكرة دجاجهِ، لتنقل واحدة أو إثنتين إلى جرائها.
في قدور بك القامشلي كنّا نربّي الدجاج دائماً، مثل بقيّة أهلها. كلمة نربّي غير دقيقة، لأن هذه المخلوقات كانت تعتني بشؤونها كما تشاء. يوقظها الديك بصياحه الذي لم يكن مدوزناً دائمآً فيشبه السعال أحياناً، ثم تقفز من رفوف الإسطبل الصغير وتختفي في جمهرة دجاج الجيران، وتقتات على الزبالة التي كانت تملأ شوارع الحيّ وأسراب الذباب وغائط الأطفال الذي كان يتكّوم على الأرصفة، وكتمّمة لعلفها كنّا ننثر بعض فتات الخبز وفضلات الطعام لتتناولها قبل خلودها إلى نعاس ونوم الدواجن. لم يخل يوم من صراع الديكة، تأكيداً لنظريّة أن الذكور فقط هم الحربجيون، ولا فرق بين الحيوان والإنسان. قُبيل الغروب كانت تعود إلى رفوفها برفّة مُتعثّرة يقودها الديك، الجنرال الآمر الناهي صاحب النياشين الريشية الملوّنة. صحيح أنها تنتمي إلى فصائل الطيور، لكنها لا تطير أكثر من بضعة أمتار.
كنّا نجمع بيوضها ونحضّر منها العجّة، ونأكل لحومها مرّتين في السنة، في عيدي الفطر والأضحى. في سنوات طفولتي كانت تأمرني والدتي بإصطياد إحداهن وتعطيني سكيناً فأذهب إلى دارة صوفي عمر. كان صوفي عمر يبسمل ويجزّ عنقها فتنتفض وترتعش برهة قبل أن تموت. بعد تقليبها في ماء ساخن ونتف ريشها وغسلها ونزع أحشائها كانت تُغلى على نار متوسطة لساعة أو أكثر لتنتشر رائحة لذيذة شهيّة في أرجاء بيتنا وبيوت الجيران المُلاصقة. ريش صدرها كان يُستعمل كحشوة للمخدّات.
في سنوات بلوغي الجنسي كنتُ رجل الساعة فتخلّيتُ عن خدمات صوفي عمر وصرتُ أقطع أعناقها بنفسي.
حين انتقلت إلى دمشق في مطلع السبعينات فوجئت بأرتال منها تتقلّب بهدوء تخترقها أسياخ كبيرة في فترينات بعض المحال. لم أستسغ الإسم: فروج مشوي. حيائي الإجتماعي ربطها بالفرج. صرّحتُ مراراً لأصدقائي إن كانوا مُصرّين على التسمية هذه، فلما لا يضعون الشدّة على الراء.
يُضرب بها المثل في الغباء والجبن، وأنا لستُ مُقتنعاً تماماً. أرى أن الحصان، مثلاً، أجبن منها وهو يفوقها وزناً بمائتي مرّة. يجب أن تتمسّك بعزم برسن الحصان إن اعترضت سحلية صغيرة الطريق أمامه. حينها يرتعب المسكين ويشخر، بينما تنقضّ الدجاجة على السحلية وتلتهمها.
مسألة غبائها لم تقنعني أيضاً بعد أن شاهدت في أحد الفيديوهات حبّها وتعلّقها، خاصّة بالأطفال. فيديو الدجاجة التي تهرع إلى حضن طفل ربّاها من قبل مؤثّر وحنون ينمّ، ربّما، عن ذكاء لم نكتشفه بعد.
بعد استعمال الدجاج كبزنس رائج، وتربيته في إسطبلات طويلة فيها عشرات الآلاف من الطيور محشوة في أقفاص، مليئة برائحة كيتون ثنائي الميثيل النفّاذة الخانقة المليئة بأمراض وأوبئة الطيور، انخفضت أسعاره وصار طعاماً رخيصاً للفقراء ومحتوىً في علب طعام القطط والكلاب.
مشاهد الدجاج الذي يتناقر وأحياناً يقتل الآخرين ملأت شاشات التلفزة في العالم، وأيضاً تلك التي أُفرط في إطعامها بالعلف المليء بالهرمونات من أجل تسريع نموها، بحيث أنّها لم تعد قادرة على السير بسبب ثقل جسدها مُقارنة بضعف ساقيها، آلمت الناس ودفعت بالملايين عن الكفّ عن شرائها في مجمّدات السوبرماركتات، مما دفع بعض الأذكياء إلى تشييد إسطبلات تسير وفق متطلبات الإنتاج المُستدام والعضوي.
في السنوات الأخيرة شُيّدت اسطبلات اخرى لها منافذ على غابات، للدجاج حريّة التجوال والعبث والنبش فيها وأسموها بـ «الدجاج الحرّ». الحريّة حتى للدجاج ليست مسائلة سياسية، بل لحوم شهيّة تُذكّر، قليلاً، بدجاجات قنّنا القامشلاوي.
أمّا الذي يُذكّرني بقوة بطعم لحومها في العيدين السنويين، فإنّه تأكّد لي بعد زياراتي الموسمية إلى اليابان. لحم دجاج اليابان له ذات طعم أيّام الطفولة والمراهقة. عندهم مطاعم لا تُقدّم إلّا لحم الدجاج بمائة شكل وطريقة، بعضها نيء، تناولته مدفوعاً بعنادي الكردي دون أن أُقتل. هؤلاء اليابانيون اللعناء.
في أصل الإسم العربي تأويلات عديدة، كما في معظم الأمور. قال ابن سيده: سُمّيت الدجاجة بهذا الاسم لإقبالها وإدبارها. يقال: دجّ القوم يدجّون دجيجاً، إذا مشوا مشياً رويداً في تقارب خطو، وقيل هو أن يقبلوا ويدبروا. وقال الأصمعي: الدَّجاجة بالفتح الواحدة من الدجاج وبالكسر الكُبَّة من الغزل.
وكنية الدجاجة: أم الوليد وأم قوب، وأم حفصة وأم جعفر وأم إحدى وعشرين وأم نافع، وصوتها يقال له: قرقرة.
قرقرة؟ هذه غير معتمدة، فنحن، معشر الذكور، نقول نقّت الدجاجة، ونشبّهها بنقّ النساء حين يعترضن ويشكين.
الدجاج هو الحيوان الداجن، وقد يكون في طليعتها. في التعريف نقرأ: ما ألِف البيُوتَ وأقامَ بها مع النَّاس من الحيوانِ والطَّير (للذكر والأنثى) شاةٌ، طائرٌ، كلبٌ داجِن أليف. كَانَتِ الْعَضْبَاءُ نَاقَةَ الْرَّسُولِ دَاجِنًا لاَ تُمْنَعُ مِنْ حَوْضٍ وَلاَ نَبْتٍ.
في العهد القديم اتجاه واضح لجعل الأهمية للحوم الحمراء على لحوم الدجاج.
في إنجيل متّى (٢٣:٣٧) فقرة تتضمن تشبيه رعاية يسوع المسيح لأهل القدس بدجاجة ترعى الحفاظ على نسلها. ممّا دفع البابا نيكولاس الأول في القرن التاسع إلى إصدار مرسوم يقضي بوضع هيئة الديك على سطح كل كنيسة للتذكير بتشبيه يسوع. هذا يُفسّر وجود الأشكال المعدنية للديكة الدوّارة لعكس ظروف المناخ والرياح على الكنائس إلى يومنا هذا. وما إستخدام شعار الديك في فرنسا، ليس كتعويذة إطلاقاً، إلّا بارتباطه بعصر النهضة، لأن الكنيسة الكاثوليكية اعتبرته رمزاً دينياً وعلامة على الفجر بُعيد الظلام.
نعرف أن الديك، ذكرها، شرس مقداد مثل كل الذكور، خاصّة حين تربيته وتعليمه فنون المصارعة مع بني جنسه. ولهذا دورات ومُسابقات ورهونات في آسيا والأمريكيتين، رغم منعه من قبل السلطات، وتُعتبر أقدم «رياضة» في العالم.
في بيرغاموم شيّد اليونانيون الأقدمون مُدرّجاً لصراعها كي يتعلّم الجنود البسالة والشجاعة منها.
تقول الأسطورة أن القائد اليوناني الأثيني «ثيميستوكليس»، بينما كان يزحف بجيشه لمجابهة القوّات الفارسية الغازية في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، أستوقفه على جانب الطريق ديكان مُتصارعان، فقال مُخاطباً جنوده: أنظروا، هذان لا يتصارعان من أجل آلهة، أو من أجل مآثر أسلافهما، أو للمجد أو لحرّيتهما ولسلامة صغارهما، لكن فقط لأجل أن أحدهما لن يفسح المجال للآخر.
الديك كان على مرّ التاريخ رمزاً للرجولة والفحولة. الزرادشتية اعتبرت النسل الروح الحميدة التي تُبشّر عن نقطة التحوّل الكوني بين الظلام والنور عند الفجر.
الرومان أخذوا الدجاج معهم في حروبهم وراقبوا سلوكها قبل المعارك، إن كانت شهيّتها جيدة في الطعام فإن ذلك كان بمثابة نصر آتٍ. «شيسرون» ذكر أن ثلّة منها امتنعت عن تناول الطعام قُبيل معركة بحرية عام ٢٤٩ قبل الميلاد، فقام المُستشار الغاضب برميها في مياه البحر. التاريخ يقول أن الجيش هُزم يومذاك.
أما بيضها الذي يحضر قويّاً ثابتاً في الكثير من المأكولات والحلويات، فإنه حاز على قدسية دينية وطقوسية أيضاً. علّقه المصريون القدماء، على سبيل المثال، في معابدهم لضمان فيضان وافر للنيل.
يبدو أن تدجينه يعود إلى نحو ٥٤٠٠ سنة قبل الميلاد. وذلك يظهر في أحفوريات مُكتشفة في شمال شرق الصين، بالرغم من أن العلماء لا يربطون وجود الدجاج بتلك المناطق الباردة، بل يعتقدون أن أولى السلالات البريّة (غالوس غالوس) كان طيراً غابياً (من الغابات) في مناطق في الهند وحتّى الفليبين، ووفقاً لنظرية تشارلز داورين التي أُكّدت مؤخراً بالحمض النووي، وهو شبيه سلالات الدجاج الحالي.
في كوكبنا هناك 23,4 مليار دجاجة (إحصائية عام ٢٠١٨)، ربعها بيّاض يبيض ٧٦,٧ مليون طناً مترياً سنوياً.
بعض السلالات تبيض وتنصرف تاركة إياها، واخرى حاضنة. إلّا أن الصناعة شملت أيضاً إنتاج الدجاج بوضع البيض في حاضنات خاصّة، وهناك أيضاً خطوط إنتاج لأمّهات الدجاج لإستنباط سلالات جديدة منها تبلغ المئات الآن حسب طلبات السوق الإستهلاكية. فترى بعضها وافر الصدر صغير الفخذين، أو العكس.