دراسات و تحقيقاتفي الواجهةقانون وعلوم سياسيةقانون وعلوم سياسية و إدارية

حقيقة القضاء في الولايات المتحدة الأمريكية

سعيد مضيه القضاء الأميركي تحت سطوة الاحتكارات

قضية المحامي الأميركي، ستيفن دونزيغر، هي حكاية من الزمن الأميركي الراهن. رأى فيها الكاتب البريطاني كريغ موراي ، المناضل من أجل حقوق الإنسان “مرآة نرى من خلالها انفسنا ، سجناء الشركات الاحتكارية التي تملي علينا شروط حياتنا وعملنا وما نتقاسمه من معارف”. فقد ظفر المحامي دونزيغر بحريته بعد سجن واحتجاز عقابا له على اعتراض مسلك احتكارات النفط الكبرى . وكان صحفي التقصي ، كريس هيدجز قد فضح نواطؤ القضاء الأميركي مع الشرطة والصحافة للكيد لهذا المحامي الذي استصدر حكما قضائيا بتجريم شركة شيفرون النفطية الأميركية بتلويث البيئة في الأكوادور، ودفع غرامة مقدارها تسعة بلايين دولار تعويضا لسكان المنطقة. وجد الاحتكار يمقدوره معاقبة المحامي وسحقه ماديا ومعنويا . اعد الاحتكار بالتعاون مع القضاء والشرطة الشهود المزورين ودفعت الصحافة لترويج الزيوف ضد المحامي.
توقف الصحفي هيدجز عند حملة المنظمات الحقوقية تضامنا مع المحامي الذي كان ينتظر المثول امام المحكمة الفيدرالية الأميركية بتهمة تحقير المحكمة، لأنه ر فض تسليم وثائقه المحفوظة في هاتفه المتنقل وفي أجهزة اللاب توب.
يعقب الكاتب الصحفي البريطاني كريغ موراي، الذي عمل سفيرا لبريطانيا في أوزباكستان، حتى فصله رئيس الوزراء البريطاني بلير بسبب انحيازه لقضية إنسانية ؛ ثم عمل محاضرا بجامعة دندي خلال الفترة 2007-2010 ، كتب مقالة في الرابع من أيار بصدد القضية، سرد مراحلها منذ البداية. نقل عن كورال واينتر، من حركة الخضر للحفاظ على البيئة، أن احتكار تيكساكو عمل ما بين عامي 1962 و1992في استخراج النفط من منطقة غابات الأمازون بالأكوادور ، حيث تسبب في إغراق منطقة شاسعة في الإكوادور بسبعين مليار ليتر من “المياه العادمة” ولوث بالنفط ومواد كيماوية أخرى غابات الأمازون، مضافا لذلك 650 ألف برميل من النفط الخام. وبذلك تم تلويث مساحة من الأرض تقدر بثمانمائة ألف هيكتار.”إنها إحدى أسوأ الكوارث البيئية في التاريخ ، أخطر بثلاثين ضعفا مما سكبته شركة أكسون عام 1989 في ألاسكا و85 ضعفا لما سكبته بريتيش بتروليوم في خليج المكسيك عام 2010. وقبل أن يغادر الأكوادور، وبدل تنظيف المساحة الملوثة ، أخفى تحت طبقة من التراب ألف بقعا ملوثة بالمياه العادمة في منطقتي سوكومبيوس و أوريلانا عبر الغابات الماطرة”.
في العام 2000 تسلم احتكار شيفرون استخراج النفط في المنطقة. يدعي احتكار شيفرون أن تيكساكو لم يحصل سوى على 490 مليون دولارا من الأرباح خلال ثلاثين عاما من نشاطه ؛ أما الحقيقة فتقول أن أرباح الاحتكار النفطي الأميركي بلغت تلاثين مليار دولار.
وعلى كل حال، ففي منتصف تسعينات القرن الماضي خضعت الأكوادور لسيطرة الولايات المتحدة ؛ أقنعت حكومتها عام 1995 بالتوقيع على اتفاق مثير للسخرية مع تيكساكو يدعي ان الاحتكار ترك المنطقة نظيفة وبذلك ، بكلفة لا تزيد على أربعين مليون دولار، تم إعفاؤه من كل التزام حقوقي. لنقارن هذا المبلغ بمبلغ 61.6 مليار دولار دفعه بريتيش بتروليوم تعويضات عما الحقه من تلوث يقدر بنسبة واحد بالمائة من التلوث الذي سببه احتكار تيكساكو.
وفي العام 1998وقع رئيس جمهورية الأكوادور الفاسد، جميل ماهود، عميل الولايات المتحدة ، على تسوية نهائية تعفي تيكساكو من كل تبعات التلوث الاقتصادي. وصادقت محكمة التسويات الدولية في لاهاي على التسوية . كيف أمكن إنجاز هذه التسوية من قبل احتكاري تيكساكو وشيفرون؟ الجواب في كتاب” بؤس القانون الدولي ، تأليف جون نيرانيللي، ومارغوت سولومون وإم. سورناراجاه( أكسفورد يونيفيرسيتي بريس2018)، أوصي بمطالعته، أرسل لي نسخة منه احد المساعدين يقبع داخل السجن.
قال فريق لوبي يعمل لصالح شيفرون عام 2008 ” لا نستطيع السماح لبلد صغير بالالتفاف حول شركات كبيرة مثل شيفرون’”.
في ذلك الزمن كانت شيفرون رابع أضخم احتكار نفطي بالولايات المتحدة تستخرج النفط من حوالي مائة بلد ، وإجمالي دخله ضعف الدخل الوطني للأكوادور. وعندما شرعت تيكساكو العمل في الأكوادور عام 1964 كان البلد غير مستقر وشديد الفقر؛ قال أحد المحامين العاملين مع أوكسفام أن “احتكار تيكساكو حكم البلاد طوال عشرين عاما ؛ وضع في الجيب سفارة الولايات المتحدة، وسيطر الاحتكار على القوة العسكرية ؛ وسياسيا ما من طريقة لتقديم تيكساكو للمحاسبة في الأكوادور ؛ في ذلك الحين كانت الأكوادورتحتاج الى خبرة وتكنولوجيا من تيكساكو كي تستخرج نفطها .
قدرت القضية المرفوعة الى المحكمة أن تيكساكو لوثت النظام المائي بالاكوادور ب18 مليار غالون من المواد السامة ، إضافة الى 17مليار غالون من النفط الخام ، وتركت 916 بقعة من المواد السامة مليئة بالحماة السوداء يمكن رؤيتها بوضوح في أنحاء المنطقة.

اثناء نشاط تيكساكو لم يكن بالبلاد قانون لحماية البيئة ؛ تظهر البينات أن تيكساكو لم توظف تقاني حافظة للبيئة أثناء عملياتها بالأكوادور. ويقول سفير الأكوادور الأسبق بواشنطون، نيكولاي سيلي، “عندما رحلت تيكساكو عن الأكوادور نقلت معها الأرباح الجزيلة ، مخلّفة وراءها دمارا بالبيئة لا سابق له، ولم تعوض المتضررين في مناطق عملها.”
تذكرني حالة الأكوادور بما تمتع به احتكار شل من حصانة أثناء عمله في نيجيريا وما ألحقه من تلوث في دلتا النيجر . كنت شاهدا على إنهاء عمل الاحتكار وانا أعمل سكرتيرا ثانيا بالمفوضية البريطانية العليا في لاغوس ما بين 1986 و1990 .جرى إتلاف المصادر الزراعية والمائية، وبذلك واجهت التدمير البيئي في المقام الأول.
في العام 1993 وصل المحامي من نيويورك، ستيفين دونزيغر، الى الأكوادور وشاهد المجموعات البشرية التي تعيش في منطقة استخراج النفط بأقدام عارية وأيد مغطاة دوما بحمئات نفطية ومواد ملوثة أخرى ، زراعتهم مدمرة ويكابدون نسبة وفيات عالية وولادات مشوهة. شرع بحملة ضد تيكساكو ممثلا لثلاثين ألف مواطن . كانت تيكساكو واثقة من سيطرتها على البلاد، وطلبت من محكمة أميركية البت في القضية؛ إلا أن محكمة نيويورك ردت الطلب عام 2002، وأقرت أن تيكساكو (الآن شيفرون) ليس مسئولا من ناحية حقوقية؛ من ثم نقلت القضية الى الأكوادور ، الأمر الذي أبهج شيفرون. اما ما لم تتاهب له شيفرون فهو تراخي قبضة الفساد على الأكوادور بوصول اليساري رافائيل كوريا الى رئاسة الجمهورية ، حيث تفككت الحصانة التي كانت لشيفرون. في العام 2011كسب المحامي دونزيغر القضية. فقد حكمت المحكمة بتغريم شيفرون مبلغ 18 مليار دور تعويضا لسكان المنطقة عما لحق بهم من دمار للبيئة، خفضت فيما بعد الى 9.5 مليارات من قبل مجكمة استئناف؛ لكن الاحتكار لم يدفع بنسا واحدا.
رد شيفرون بإجرائين: أولاهما استانف لدى محاكم التسويات الدولة المختصة التي صادقت على تسوية 1998 وهذا يضعنا امام مقدرة الاحتكارات الضخمة على رشوة او ابتزاز المسئولين بالدول الفقيرة للتوقيع على أحكام قضائية تصدرها محاكم دولية قوامها قضاة من الغرب يتبعون الاحتكارات من حيث الإيديولوجيا المحافظة . تمارس دول الغرب الامبريالية ضغوطا على حكومات البلدان النامية كي تذعن لقرارات محاكمها كشرط لتقديم المساعدات. القضاة اليمينيون في المحاكم الدولية، المتحكمون في نظام التسويات في لاهاي ، منحوا العفو لشيفرون نظرا للرشوة المقدمة عام 1998.
والإجراء الثاني الذي أقدمت عليه شيفرون محاولة تدمير ستيفن دونزيغر شخصيا . في العام 2011 رفعت قضية في محكمة نيويورك بموجب قانون إفساد المنظمات، ادعت أن دونزيغر قدم رشوات للقضاة وللشهود والادعاء العام وأرهب الشهود ذوي الخبرة.
بات دونزيغور يواجه القضاة الفاسدين في بلدين.، الأكوادور والولايات المتحدة ، وأشدهم فسادا القاضي الفيدرالي الأميركي ، لويس كابلان.
من المهم ان نلاحظ أن الشكوى ضد دونزيغر رفعت للقاضي كابلان قضية مدنية وليست جنائية. فقد سعت شيفرون لمنع دونزيغر من الاستئناف لدى محاكم بدرجات أعلى. في البداية طلبت شيفرون من المحكمة الحكم على دونزيغر بدفع تعويض قدره ستون مليون دولار للاحتكار؛ ثم أسقط الطلب لأنه يعطي الحق لدونزيغر طلب محلفين. أصدر كابلان حكما بتجميد قرار محكمة الأكوادور بمسوغ استناده الى الإكراه والرشى وشهود الزور.
فمن هو كابلان؟ بين عامي 1970 و1994 كان محاميا لشركات سجائرمنها فيليب موريس ، وهذا يكفي للطعن في ذمته. كما عمل قاضيا بمحكمة فيدرالية تولت النظر في اعتقال وتعذيب سجناء غوانتانامو. والمعروف ان القضاة الفيدراليين يعينهم رؤساء الولايات المتحدة، يختارونهم من بين محامي الشركات الكبرى ، ممن يتقنون التعرف على ثغرات بالقوانين الأميركية ينفذون منها لتبرئة موكليهم. فهم بمؤهلاتهم أقرب للرأسمال منهم الى خصومه. ومن بينهم يختار الرئيس الأميركي أعضاء المحكمة العليا، ويصادق الكونغرس على التعيين؛ وبذلك فالقضاء الأميركي خاضع للسلطتين التنفيذية والتشريعية. والبينة الوحيدة التي استند اليها كابلان قدمها القاضي البيرتو غويرا، أدعى أنه تلقى رشوة للشهادة ضد شيفرون؛ لم يقدم غيرها، ولم يكن غويرا مقنعا في شهادته. ولدى إصدار الحكم لصالح شيفرون قال كابلان :إن غويرا مخادع في كثير من الحالات، غير أن هذا لا يعني بالضرورة رفض شهادته كليا؛ فالبينة تفيد أن غويرا قال الحقيقة فيما تعلق بالرشوة . فيما بعد أفاد غويرا امام محكمة التسويات الدولية أنه فبرك الحكاية بكاملها. الحقيقة أنه لم يفبرك الحكاية وحسب ، بل تلقى رشوة بمبلغ ضخم من شيفرون مقابل شهادته.
وفي العام 2016 أقرت محكمة استئناف الحكم بمسوغ أن غويرا أدلى بشهادته ولم يغيرها امام محكمة اميركية. لا أصدق أن قاض متعقل يجد في الشهادة ذاتها مبررا كافيا لتجميد حكم المحكمة الأكوادورية، وذلك بالنظر لثقل الشهادات المضادة ومبلغ الضرر البيئي الواقع على الطبيعة.

تدمير دونزيغر
شرع كابلان مهمة تدمير دونزيغربطلب من شيفرون، وبقضية مدنية على غير المعتاد، حيث أصدر قرارا يأمر دونزيغر بتحويل جميع تسجيلات هاتفه المحمول ومخابراته واتصالاته وأجهزة اللابتوب الى شيفرون كي تحقق في إجراءاته بصدد قضية الأكوادور. رفض دونزيغر القرار، وقدمه كابلان الى محكمة عيّنها بنفسه للنظر في أمر أزدرائه للمحكمة. في ذلك الحين تقاعد كوريا بعد انتهاء فترة رئاسته وخلفه لينين مورينو الذي ارتد عن توجهه اليساري وتعاون مع وكالة المخابرات المركزية.
تماثل مذهل مع قضية جوليان أسانج. حال زوال الحصانة عن أسانج وانتزاعه بالقوة من سفارة الأكوادور وأودع في سجن مشدد الحراسة في لندن ، تمت مصادرة أوراقه ونقلت الى الأكوادور ، حيث حولت الى المخابرات المركزية، وبضمنها آلاف الوثائق المتعلقة بدفاع أسانج ضد تسفيره الى الولايات المتحدة كي يحاكم هناك بتهمة التجسس. حولت تهمة “ازدراء” المحكمة المسندة لدونزيغر الى الادعاء العام في منطقة نيويورك الجنوبية ، ورفض القضية. بعد ذلك عمد كابلان الى إجراء ليس بمقدور آأحد أن يقدم سابقة له؛عام 2020 عين شركة خاصة بصفة المدعي العام، تدفع محكمته اجرتها، مهمتها الادعاء ضد دونزيغر. ولكابلان علاقة بالشركة الحقوقية سيوارد أند كيسل ، التي عملت لصالح شيفرون في امور عدة قبل أقل من عامين . كانت الشركة الحقوقية خلال المرافعة بالقضية على اتصال بمحامي شيفرون.
نظرا لكل هذه التصرفات وصفت قضية دونزيغر بأنها أول قضية في تاريخ الولايات المتحدة يتولى الادعاء العام شركة خاصة ، مما أثار الاهتمام الجدي بالقضية. عين كابلان القاضية لوريتا بريسكا للنظر في قضية جرمية بدل تركها للنظام القضائي. حكمت القاضية في 21 أكتوبر 2021على دونزيغر بالعقوبة القصوى لتلك التهمة ، السجن لمدة ستة أشهر، قضى منها داخل السجن 45 يوما واخرج من السجن الى الإقامة الجبرية في البيت بسبب كورونا. امضى دونزيغر بالاعتقال 993 يوما.
وكتب جيك جونسون من هيئة تحرير كومون دريمز (احلام مشتركة) مقالة نشرها في مجلة الهيئة، ونقلها موقع كونسورتيوم نيوزـ جاء فيها:
اجتذبت قضية دونزيغر اهتماما عالميا ، إذ اعتبرت المفوضة السامية لحقوق الإنسان اعتقاله المديد
انتهاكا للقانون الدولي.
استعرض جونسون قضية دونزيغر في جميع مراحلها حتى صدور الحكم بسجنه ستة أشهر ، ثم قال:
في مقابلة اجريت مع دونزيغر في العام المضي قال: الادعاءالعام في قضية تحقير المحكمة يرتبط بعلاقات مالية مع شيفرون ، وقاضي الاتهام له استثمارات في شيفرون ، وهم يحرمونني من محلفين.
وحيث أن دونزيغر أمضى أكثر من عامين رهن الاحتجاز قبل أ ن يمثل امام محكمة فإن عقوبته تعتبر الأطول ” من أي جنحة في السجل القضائي” .
طالبت منظمات حقوق الإنسان ومنظمات الدفاع عن البيئة رئيس الولايات المتحدة، جو بايدن، إصدار عفوعن دونزيغر وإدانة اضطهاده باعتبار ذلك ” انتقاما منه نظرا لدفاعه عن حقوق سكان الأكوادور الأصليين، ضحايا إغراق احتكار شيفرون النفطي.”
اكد دونزيغر في تسجيل فيديو أرسل الى تويتر يوم الأحد ( 24 إبريل 2022) أن شيفرون ما تزال ترفع ضده قضية مدنية.
وصرح جولوي من منظمة امنيستي انترناشيونال في اليوم التالي ، الأثنين، ان دونزيغر، وقد تحرر اخيرا من الحجز، “فإن نهاية عقوبته لا تعني نهاية الاضطهاد الذي لحق به”.
ومضى جولوي الى القول ، “ان على حكومة الولايات المتحدة ان تطبق بالكامل قرار اللجنة العاملة التابعة للأمم المتحدة بصدد الاعتقال التعسفي ، بما في ذلك إجراء تحقيق مستقل غير متحيز في الظروف التي ادت الى احتجاز ستيفن دونزيغر، وذلك لكي تمنع حدوث مثيل لتلك مرة ثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى