أمن وإستراتيجيةثقافة

جولة قصيرة في عالَم -الجراثيم الدولية-..! شبه أقصوصة من الفانتازيا الأدبية

جولة قصيرة في عالَم -الجراثيم الدولية-..! شبه أقصوصة من الفانتازيا الأدبية

محمد عبد الشفيع عيسى

قد تفكّرتُ في الواقع الراهن للعلاقات الدولية على المستويين العالمي والإقليمي، من زاوية “علاقات القوة”، معّرفة باعتبار القوة الشاملة، بأبعادها الاقتصادية – الاجتماعية، و السياسية – العسكرية، والثقافية – الإيديولوجية، فوجدتُ عجبا .

و فكرتُ أن أصوغ مقولة “غرائبية الطابع” حول الموضوع في قالب هجين، بالطريقة التى كان يسميها بعض معلمى اللغة العربية “الأسلوب العلميّ المتأدب”، لأَنْحُو بالصّوْغ بعيداً نسبياً عن طريقة الدرس الأكاديمى المحض لهذا الفرع من فروع علم “السياسية” أو “العلوم السياسية”، أيْ “العلاقات الدولية” .

ثم أنّى جنحت، في لحظة من لحظات “التداعى الذهنى الحر”، إلى تفضيل الطريقة الأدبية الخالصة، من قالب السرد، على النحو الذى اتبعه أحد أدباء ونقّاد الأدب العربي القدامى، هو أحمد ابن المقفّع، (من العصر العباسيّ الأول)، والذى دفع حياته ثمناً للرأى حول زمانه ومكانه، معبراً عن ذلك خلال كتابيْه “الأدب الكبير” و “الأدب الصغير” و مجموعة “كليلة ودمنة” وغيرها .. غير أنّى وجدت أن كِلا الأسلوب الأدبى لابن المقفع، و “الأسلوب العلمى المتأدب”، ربما يكونان غير وافيين بالغرض، و من ثمّ وجدتُني أرغب في العوْد إلى ما اعتدت عليه، من محاولة المعالجة العلمية فى حقل “العلاقات الدولية”. و قد نظرت في ذلك، فارتأيت أنّي كتبت من هذا الباب كثيراً، فما أروت كتابتي الغليل، ولم تصل إلا إلى القليل.

وهكذا عدت مرة أخرى إلى تفضيل محاولة “الطريقة العلمية المتأدبة”، حيث يمتزج العلم بغير العلم، أي بالأدب، رغم صعوبة الفصل بين ما يكون علماً وما يكون أدباً. هنا يتمازج الرأي مع الرؤية، وإن شئت فقل “الرؤيا” – و لِمَ لا؟ فما أقرب الواقع إلى شطحات الخيال أو إلى الأحلام في ساعات اليقظة و في المنام. وهل يشفى الغليل أكثر من التصوير غير الواقعى للواقع ، ومن تحليق “الأكاديميّ” في الفضاء الرؤياوىّ و “الفانتازيا”، إن رغب..؟

وهكذا أردت أن أُسمّي الأشياء بأسمائها المستعارة من المدركات الذاتية و “الشعورية” وربما اللاشعورية أيضا، دون مواربة أوْ وَجَل، و أن أخوض في الموضوعات التي يدرسها العلم ولكن في قالب تصويري أو حِكائي، لا تثريب عليه من قيود تفرضها المعايير المصطلح عليها في مناهج البحث .
و ما دام ذلك كذلك، فلم أجد غضاضة فى أن أنظر شذراً إلى كيان سياسي معين من بين تلك الكيانات الصغيرة الطافية هذه الأيام على سطح الإقليم الذى نعيش فيه، ولكنها ذات أثر ظاهر في اتجاهات عديدة، وأن أصِفَ ذلك الكيان الخاصّ بأنه “جرثومة”. وهذه “الجرثومة” تجمع بين الصفات المختلفة للجراثيم، بين أنها “فيروس” أو كائن حىّ مجهرىّ ، ولكنه ذو خطر بالغ على الجسم الذى يخترقه غصْبا ويعيش فيه؛ و بين أنها من قبيل “البكتيريا” التى تلتصق بالجلد أو الأمعاء أو غيرها وتُعْمِل فيها تشويهاً و تُحْدِث ألماً. و هذا الكيان الجرثومي ليس ذلك فقط، ولكنه أيضا بمثابة “خلية سرطانية” أو ما يشبهها، تعيش على دواخل الكائن الحى وتنتقل بين أجزائه لتدمرها ببطء إن لم تواجهها، على الضدّ منها، وبرغمها، قوة قاهرة. ثم أن هذا الكيان الدخيل على الجسم، والذي هو ميكروبيّ الطابع بوجه عام، و فتّاك الأثر على نحو خاص، يتلفّت يمْنةً ويسرةً، بحثاً عن موارد للقوة من خارجه، بوصفه كائناً طفيلياً خالصا، يأخذ ولا يعطى، أو هو يأخذ ماء الحياة من حوله، ويعطى بالسلب الكثير مما يدرسه “علم الأمراض” و “الميكروبيولوجيا” وغيرها .

و فوق كون هذا الكيان من طبيعة جرثومية ، فيروسية-بكتيرية معاً، وطفيلية بطبيعة الحال، فإن من يصاب به قد تلحق به أعراض تشبه ما يصيب المريض بما يسمى “الإيدز” أو “نقص المناعة المكتسب”، فيذبل ثم يذوي سريعاً أو بطيئاً حسب الحال، أو يظل قائما على قيد الحياة و إن كان عليلا . و تحتاج الجرثومة، كى تعيش فى (أمان) !، إلى “وسط جرثوميّ” و “حاضنة مُجرثَمة ، ملّوِّثة و ملوَّثة (بكسر حرف اللام و فتحه) مقزّزة .

فى هذا الوسط، تنتقل العدوى الجرثومية، لتصيب الأجزاء الضعيفة من الجسم، أطرافاً محيطية كانت، و ربما محورية أحيانا، ولكن تأثيرها يكون أقوى فى حالة “الهوامش الطرفية” شرقاً قريباً، أو غرباً قصيّا، لا فرق . ذاك برغم أن الشرق والغرب هذيّن، جمهورهما العريض نقىّ نقاء الثوب الأبيض، ومعافى من المرض، بحمد الله . ولكنّها (السمكة تفسد من رأسها) كما يقولون . ثم أن الجرثومة إذْ تنقل العدوى فإن السمات الجرثومية تنتقل، و إنْ فى صورة مختلفة، إلى كيانات غير مريضة أصلاً، فتصيبها بالحُمّى والسهر، وإذا بها في “الوسط الجرثومي” الواسع، تتحول إلى “نواقل للجراثم”. وينشط “ناقل الجراثيم” – المنقولة إليه أصلا من خارج – فإذا به وكأنه “جرثوم صغير” يتحرك فى كل اتجاه، معتمداً على مصدر قوته الوحيد، المعروف، وهو المال ، ذاهباً فى خُيلاء إلى حيث تبدو الحاجة إليه. و يظل “ناقل الجراثيم” متوهّما قدرته على النفاذ والنفوذ، دون امتلاك مقومات القوة الحقيقية في الأجل الطويل، من حيث افتقاد “الكتلة الحيوية” كأحد مقاييس قوة الدولة بما فيها حجم السكان الأصلاء، و تركيب قوة العمل الوطنية، عدا عنصر واحد طارئ. و هو يسرف في الخيال، وكأنه يملك القوة حقّا، مع محاولة اقتناء رموزها بين يديه، ولو في مجال “غزو الفضاء” و “المفاعلات النووية”..! بيْد أنه لا يملك حتى سمة المكر والدهاء، مثل ذلك “الثعلب” الذي قال فيه “أحمد شوقي” أمير الشعراء: (برز الثعلب يوماً….إلخ).
ولقد كان الأوْجب استخدام المال و”الشركات الكبيرة المتخصصة” و المنافذ الاستراتيجية” المجلوبة على هذا الجانب من البحر أو ذاك، من أجل محاصرة “الجرثومة” حتى ترعوِي فتردّ شطرا من حقوق أصحاب الحقوق. ولكن بدلا من ذلك، يُتْخِمون الجرثومة حتى تنتفخ أوداجها وتحاول الالتفاف بأذرعها المسمومة و بلسانها السامّ، على امتداد بعض السماوات المفتوحة و الأرض المحتلة وغير المحتلة و المضايق، بغية إيهام القريب و البعيد بأنها إنما وجدت لتبقى!، برغم المصير المحتوم.
تُقدَّم المساعدة إلى “الكيان” ليتمكن “المجرم-الجرثومة” من الإفلات من العقاب اللازم جزاءً وفاقاً لجرائمه المتصلة طوال عشرات السنين، امتدادا للجريمة الأصلية التي نشأ بموجبها (: جريمة العصر) والجرائم الفرعية التالية المتتالية، ربما مصداقا لقوْلة السيد المسيح في صيغة بلاغية للاستفهام الاستنكاري الذائع (من معه يُعطَى و يُزاد، ومن ليس معه يؤخذُ منه ؟ ). كما يتمكن بعض “نواقل الجراثيم” أيضا من الإفلات من (جرائم تبعية)، و يُعامَل و كأنه لم يأتِ بشيء يُلام عليه و يعاقَب من ثم على إثْرِه و لو رمزيا على الأقل.
و لو قد تمت معالجة الأمر كله بميزان العدل والعقل معا، لأصبحت الصدارة، بالقول والفعل، لمواجهة “عالَم الجراثيم”: من الجراثيم بذواتها، و نواقلها، و “المُهيْمِن العالمي على الجراثيم”، إن صح التعبير، وكذلك محاولة نقل “الجَرثَمَة” إلى حيث الاتجاه الغربي المغربي في لعبة من ألعاب المكيدة السياسية دون مسوّغ حقيقي. أمّا إذا تحول “اللعب” إلى جِدّ من الجِدّ فهنا يمكن أن يقع المحظور؛ وذاك أمرُ خطير حقا. و يكون الرابح الوحيد، أو الأكبر، في جميع الحالات، هي “الجرثومة الأصلية” بغير مُنازِع.
و ماذا نقول عن كل ذلك أكثر من ذلك و في فَمِنا ماء..؟ .. و ها هي إذن “الجرثومة-الكيان” تتحرك، و معها و من خلفها “ناقل الجراثيم” العنيد، وربما معهما “محاولة نقل الجرَثمة”،و غير ذلك هنا وهنالك، قريبا أو بعيدا في وقت قادم، خارج (التطبيع القديم) تحت رعاية، و بعناية، من “المُهَيْمِن العالمي على الجراثيم”.

و يقوم هذا “المهيمن العالمي على الجراثيم” بنوع من “تقسيم العمل” و “توزيع الأدوار” بين كثير، في قسمة وظيفية لا تُخطِؤها العين الفاحصة و لا العقل البصير. و ذلك كله إلى حين. و يرون هذا الحين بعيدا و نراه قريبا بحكم سُنَن “الضرورة التاريخية-الإنسانية”.
و إن غدا لِناظِرِه قريب..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى