أخبار العالمفي الواجهة

أوربا الحائرة

آزاد أحمد علي


ركب رؤساء أهم ثلاث دول أوربية وهم المستشار الألماني أولف شولتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إضافة إلى رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي القطار متجهين الى العاصمة الأوكرانية كييف، في حين وصل الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس إلى أوكرانيا ربما بالباص. وذلك في أواسط حزيران الماضي. دلالة الزيارة واضحة شكلاً ومضموناً، وتبدو متعددة الجوانب: إنها أجواء الحرب، لا استقبال ولا مراسم ولا سجاد أحمر في المطارات. خطوة أولى منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في أواخر شباط 2022، خطوة أوربية جماعية متأخرة نسبياً، إلا أنها خطوة جادة للتضامن السياسي الميداني مع أوكرانيا، ومحاولة لإنقاذها ولو جزئياً من بين أذرع النمر الروسي بوتين.
تقاطعت هذه الزيارة مع أجواء الاحتفال بميلاد بطرس الأكبر (ولد في 9 حزيران 1672، وهو قيصر روسيا الأعظم الذي جعل من روسيا قوة اوربية وازنة وأدخلها من بوابة الحرب على السويد إلى قلب السياسية العالمية عهدئذ…). في هذه المناخات ذات السمة الجيوتاريخية احتفلت روسيا على عدة مستويات بذكرى مولد القيصر بطرس الأكبر، تجاوزت الاحتفالات الحدود التاريخية والثقافية للحدث بحيث اعيد انتاجه سياسياً، حيث زار بوتين معرضا خُصص لانجازات بطرس الأكبر، أقيم في موسكو. لذلك من بين مجموع ما يوصف به بوتين في الغرب إضافة إلى مرضه بسرطان الدم، بانه يعيد تقمص شخصيات القياصرة وخاصة بطرس الأكبر الذي شيد بطرسبورغ عاصمة روسيا على حدود أوربا. مهما تكن هذه الحقائق والتحليلات، يبدو بوتين جاد في مسعاه وحتى حلة تقمصه أبطال من التاريخ الروسي، انه جاد وواضح في عملية إعادة انتاج القوة والنفوذ الروسي، بصيغ ثقافية ومعنوية أولا، قبل أن يترجمها سياسيا وعسكرياً على أرض أوكرانيا.
أوربا ليست موحدة تماماً في الموقف من روسيا، لكن أغلب نخبها وقادتها أدركوا اليوم وان بصيغ متفاوتة أنهم أمام جار قوي وجديد، جديد بمسعاه الانقلابي، اذ لم تعد روسيا حجرا ثقيلاً وباردا في توازن القوى العالمية، وانما صخرة ملتهبة تتدرج وقد تحرق وتهدم الكثير من بنيان النظام الأوربي فالعالمي.
ففي المؤتمر الصحفي المشترك والتضامني الذي عقد في كييف الخميس 16 حزيران الماضي، لم يبدو ولا واحد من الرؤساء المشاركين متفائلا أو حتى متوعداً حازماً في مواجهة هذا الحدث المفصلي. لدرجة أن عبر عن ذلك المناخ المحبط الرئيس الأوكراني ملخصاً المشهد: ليس هنالك زعيم أوربي قادر أن يوقف بوتين عند حده.
نعم أوربا تبدو وكأنها لم تقرأ المشهد المعقد بدقة، لذلك تبدو حائرة وخائفة، فأوربا على مفترق طرق صعبة. لقد تركتها بريطانيا وادارت ظهرها، حتى أغلقت الحدود في وجه المواطن الأوربي ولا يسمح له بالقمرور الا بالفيزا… وأمريكا طبخت (الطبخة – اللعبة)، ويسرها أن يظل الصراع أوربياً روسيا لحين استثماره لصالح خططها المستقبلية. كما أن اليورو قد انهار أمام الدولار.
أوربا والعالم أمام عهد جديد، وقد بدأت مرحلة خطرة بالنسبة للمجتمعات الأوربية التي ركنت للسلم والسكينة وحياة الرخاء لعهود طويلة. الساسة الأوربيين محتاورن اليوم، فثمة صعوبة في اختيار اتجاه ومسار الحركة؟ لأن كل الخيارات صعبة، العسكرة، أو الاستسلام للإرادة الأمريكية والانضواء التام تحت راية الحلف الأطلسي الذي وصفه ماكرون منذ عدة سنوات بأنها (ميتة سريرياً). الخيار الأصعب يكمن في السماح لروسيا البوتينية بدعم صامت من الصين للتمدد غرباً والتوغل داخل أوربا عن طريق تحقيق النصر عسكرياً. لقد انتفضت روسيا في وجه النظام العالمي واختارت التوقيت والمكان المناسبين. قالها بوتين بوضوح شديد قبل أيام: “ان زمن الهيمنة ونظام الأحادي القطب قد انتهى”. وان كانت ضريبة مواجهة الآلة الحربية الروسية باهظة أوربياً ففي المحصلة أوربا على أبواب الحرب والعسكرة. ما تبقى من القرارات والخيارات كلها صعبة، فالمواقف التاريخية صعبة الصياغة خاصة في ظل غياب أحزاب جماهيرية وقادة سياسيين كبار.
وبهذا الصدد ادلى المستشار الألماني الاشتراكي المصدوم بالجرأة الروسية بتصريحات خجولة: “جئت أنا وزملائي إلى كييف اليوم برسالة واضحة مفادها أن أوكرانيا تنتمي إلى الأسرة الأوروبية”. اذن الخطوة الأولى الوقائية من قبل بعض قادة أوربا هي احتضان أوكرانيا، وحمايتها دبلوماسيا بضمها الى الاتحاد الأوربي، هذا ما أكده ماكرون: “نحن الأربعة نؤيد منح اوكرانيا وضع دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي بشكل فوري” مضيفا أن “أوروبا بجانبكم، وستبقى بجانبكم طالما كان هذا ضروريا، حتى يتحقق النصر”.
وقد حفزهم زيلينسكي: “الغزو الروسي لأوكرانيا عدوان على أوروبا كلها” مضيفاً: “أنه كلما حصلت بلاده على أسلحة أكثر من الغرب صارت قادرة على الإسراع بتحرير أراضيها المحتلة.”
ان كانت اوربا مصدومة وحائرة فهذه مشكلة أولية، لكن المشكلة الأكبر والأعقد أن الرئيس الشاب زيلنيسيكي الذي مارس الكوميديا والدراما، يتحرك بأدوات غير سياسية، وغير معرفية وكأنه لم يفهم ولم يستوعب (الجيوبوليتيك التاريخي لعموم أوربا)، ويفترض أن جوهر الصراع ثنائي وعسكري ومن الممكن ردع أو هزيمة روسيا التي أعدت نفسها ربع قرن لهذا المنعطف والانقلاب التاريخي الكبير. فسواء كان بوتين مريضاً بالسرطان وعمره الجسدي قصير، أو مختلاً نفسياً ويتقمص شخصية بطرس الأكبر، فقد نفخ في روح القومية الروسية وزعزع النظام العالمي الرتيب، وقد لا يكتفي بهذا القدر.
أحد معضلات اوربا الراهنة تكمن في آليات اتخاذ القرار، فالقرار في الدول الأوربية ليست محصورة بيد الرئيس أو زعيم هذا الحزب أو ذاك. ان تفاقم الأزمة وتعدد مستوياتها، قد توحي، حتى للمفكرين والقادة المدنيين من أنصار السلام، أن التسلح والعسكرة والعودة الى المصالح الوطنية وحمياتها هي الخيار الذي لا بديل عنه وعندئذ يكون الطريق الى الحرب سالكة وان لن تتضح الاتجاهات تماماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى