جدلية حرية العبيد
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
“ينقسم جميع الناس في كل زمان و الى يومنا هذا الى أسياد و عبيد , لأن الذي لا يملك الثلثين من يومه لنفسه هو عبد سواء اكان رجل دولة او تاجرا او موظفا او عالما .” نيتشة
في حالات التعب والإرهاق بعد يوم طويل من العمل، أو في حالات الإحباط القصوى المتكررة يكتشف الإنسان مسارب وطرق جديدة، وعوالم وجزر بعيدة لم تطأها قدميه من قبل، طرق مضاءة رغم كثافة الضباب – مثل حالات تدخين الحشيش أو إبتلاع زجاجة من الويسكي- يخيل للإنسان أنه يرى بوضوح كاف الباب مفتوحا أمامه لعالم جديد من الأفكار والحلول لمشاكل الكون بأسره، ويرى بوضوح انقشاع الضباب والوهم، يرى حقيقة الناس والشعوب والتاريخ وغائية الوجود. في هذه الحالات المتميزة من الوعي الشقي يكتشف الإنسان المسطول عبثية الوجود وبساطة البشر وإمكانية الحلول وعرضية التاريخ والأحداث، ولكنه في نفس الوقت يرى الجانب المظلم للقمر. فمثلا يكتشف بمعجزة أن الناس، أو أغلبهم على الأقل هم مجرد خليط من المنافقين والدجالين والمتسلقين أصحاب المصالح والمنافع ذوي المخالب والأنياب الحادة، كل منهم لا يتورع أو يتردد لحظة واحدة في إغتيال جاره ونهش جثته بلذة ونهم وشهوة لا تمتلكها حتى الحيوانات المفترسة والجائعة. ويغمض عينيه ليبعد الكابوس المروع ولكنه يفاجأ بمسرب آخر يقوده مباشرة إلى حضيرة العبيد، حيث القطيع بكامله منبطح على الأرض يصلي ويتضرع ويأكل التراب متمنيا أن تدوم عبوديته للخالق وخليفته على الأرض أبد الدهر، ويرى الأغنياء أصحاب القطيع وهم يتفاوضون فيما بينهم ويقتسمون الرؤوس المنحية ويركبون على ظهور عبيدهم ويحلبون كل قطرة من عرقهم ودمائهم. ويرى العبيد يصفقون لأسيادهم وينحنون أمامهم ويلحسون أياديهم ومؤخراتهم السمينة بتبجيل ووله العشاق. وبعد لحظات طويلة يستيقظ العقل المتعب من غيبوبته، ويضحك بينه وبين نفسه لسداجته الطفولية، ويقنع نفسه بأن القصة قديمة ومعروفة من الجميع، تلقاها عندما كان صغيرا تحت إسم خرافة “الإستلاب” ودسها في جرابه السري مثلها مثل بقية الخرافات. ولكنه ما ان اقتنع بهذه الحيلة البسيطة حتى وجد نفسه يسقط ثانية في كابوس من نوع آخر. فكيف يمكن للذات الواعية والتي تكونت كموضوع سالب ومستلب -مثل عبد- يتلقى كينونته من موضوع آخر “فاعل” هذه المرة، يكونه ويقيده ويفرض عليه رؤيته للعالم ويعتبره مجرد رقم في الإحصائيات العامة، كيف يمكن لهذه الذات المتشيئة في نظر “الآخر” تجاوز الموقف الذي أنتجها وتحويل العلاقة القائمة بينها وبين هذه الذات المسيطرة إلى علاقة ديالكتيكية بين ذاتين فاعلتين دون أن “تشيء” الآخر بدوره وتستلب كينونته؟ كيف يمكن حل الصراع بين المقهور والمتسلط دون لعبة تغيير الأدوار، وإنما بواسطة تفجير الظروف الموضوعية التي أنتجت هذه العلاقة ونسف الموقف بأكمله وبناء موقف جديد، يكون فيه الخروج من التناقض والصراع لا يقتصر على تبادل المواقع واستبدال الأسماء وإنما بتجاوز المعادلة بكاملها؟هنا يبدو له الطريق مسدودا ولافتة ممنوع المرور تغمز له بعينها بسخرية مهينة. جدلية الحاكم والمحكوم فيما يسمى بـ “المجتمعات العربية الإسلامية” تتطابق إلى حد كبير، كغيرها من المجتمعات العديدة، مع جدلية السيد والعبد التي قام “هيجل” بتحليلها في كتاباته المتعلقة بالفلسفة السياسية. الحاكم والمحكوم، الراعي والرعية، المسؤول والمواطن في هذه المجتمعات الغائبة والمغيبة لا ينطلقان من مواقع متساوية أو متوازية أو متعادلة في بداية الصراع. الحاكم يمتلك القوة والسلطة والمال وإرادة حديدية للإستمرار والدوام والبقاء ويمتلك أيضا حججا للإقناع والحوار والمساومة والمراوغة من شرعية دينية سماوية أو وراثية أو تاريخية أو مالية وعسكرية. بينما المحكوم لا يمتلك غير سلاسله ورغبته البسيطة في العيش وقدرته على إنتاج ثروة سيده وتنميتها. المحكوم لا يستطيع إلا أن يجر سلاسله ويذهب للمصنع كل فجر ويرضى بوضعه كفرد من الرعية وكخروف من خرفان القطيع يقوده الراعي وكلابه إلى المجزرة. ولكن في حقيقة الأمر الصورة ليست سوداء إلى هذا الحد، إنها بالأحرى رمادية، رمادية غامقة، فالمحكوم كإنسان واع يتمتع بالحرية في رفض أو قبول أي موقف، لا بد أنه يمتلك فرصة الإختيار بين الرضى والقبول والخضوع للسلطة وطاعة أولياء المال والأمور وبين الرفض القاطع لوضعه والثورة والعصيان لسيده وتقبل القمع والسجن والتعذيب أو الموت ثمنا لعصيانه. وفي كلا الحالتين ليس هناك أي أمل حقيقي ولا أي أفق لتجربة تحررية حقيقية، رغم إمكانية ممارسة الإختيار. ذلك أنه في الحالة الأولى، حيث يختار المحكوم “الحياة” العادية البسيطة كمواطن يخضع ويتقبل القوانين الظالمة والقهر والهوان من أجل سلامته وسلامة أطفاله وعائلته، فإنه يختار بحريتة نوعا من الموت والتشيء والعقم والجفاف، يختار أن يبقى حيا ولو ملوثا بالذل والهوان. وفي الحالة الثانية حيث يختار الثورة والحرية ويرفض العبودية والإستسلام، فإنه ينال السجن والتعذيب والنفي والموت. وتتحول حريته الأساسية التي لم يساوم عليها إلى “حرية رمزية” يتغنى بها الشعراء وخطباء الصحف والمنابر. ويظل التساؤل معلقا، كيف يمكن للمواطن أن يوفق بين توقه للحرية والحياة الكريمة والتحرر من قيود العبودية وسلاسلها وبين حياته كمواطن مستلب ومضطهد دون أن يدفن حيا أو يسقط في قبر الحرية التجريدية؟ كيف يمكنه أن يرفض الموت من أجل الحرية ويرفض في نفس الوقت الموت والجفاف في حياته اليومية كعبد صاغر يلحس مؤخرة الحاكم؟ هذا هو الموقف الأول الذي عاشه المجتمع الليبي والتونسي والمصري وغيرها من المجتمعات خلال نصف قرن من الزمن، حتى تغيرت الظروف الموضوعية لهذا الموقف وانتفض الشعب بكامله في لحظة تاريخية أنتجتها تراكمات سنوات طويلة من النضال والمقاومة للعنف والإستغلال السلطوي في صور متعددة ومتنوعة، وحيث وقف المواطن الأعزل في مواجهة الرصاص قائلا للحاكم بأمر الله ” لا تستطيع أن تقتلنا، لأننا ميتون أصلا منذ زمن بعيد”. وانتصر الشعب في الأيام الأولى واحتفل بانتصار ثورته وهرب الطغاة وانقلب الموقف وتغيرت الأدوار، وتنفس الشعب عميقا نسيم الحرية، لفترة قصيرة، فترة شديدة القصر. ذلك أن الثورة كانت مجرد كذبة أو إشاعة صحفية صدقها البسطاء وانطلت على عقولهم التواقة للتغيير والمرهقة بسنوات طويلة من الإحباط والغيبوبة. وقد حدث التغيير فعلا، مجرد تغيير ميكانيكي لسلطة مكان سلطة أخرى، ولم تجر أي محاولة ولو بدائية أو صورية لحل التناقض الجذري والأصلي بين الحاكم والمحكوم وبين السيد والعبد وبين الغني والفقير. وبدأ الأسياد الجدد بدورهم في مطاردة أزلام النظام السابق بنفس الطرق والأساليب القديمة، بنفس الشراسة والنهم في امتصاص عرق الفقراء، بنفس الوسائل القديمة من الكذب والخداع والتمويه والمراوغة. وهكذا تعاود الآلة الجهنمية عملها الرتيب في القهر والقتل وحرق العقول ومحاصرة الفكر والإقصاء والسجن والتعذيب والتفجير والإغتيال، تعاود آلة العنف عملها الرتيب بدلا من إلغاء هذه الآلة من الوجود وتكسير ميكانيكيتها القاتلة وتجاوز ثنائية السيد والعبد والحاكم والمحكوم. العبودية في أساسها نفي للحياة، نفي للإنسان كذات فعالة واعية، والمطالبة بهذه الحياة والنضال من أجلها يتطلب نفيا ثانيا لهذا النفي الأولي، غير أن الثورة الحقيقية تتطلب أكثر من هذا النفي المزدوج، إنها تجاوز لجدلية السيد والعبد والغني والفقير وصيرورة خلاقة مستمرة لحلم الإنسان في بناء عالم شفاف يخلو من العنف والدم والقهر والإستغلال، عالم يخلو من السلطة والعسكر والأسياد والأنبياء والآلهة .. عالم إنساني بكل بساطتة وعبثيته.