أخبار العالمإقتصادفي الواجهة

تطورات المخيفة للاقتصاد العالمي القادم

محمود يوسف بكير تطورات المخيفة للاقتصاد العالمي القادم

هناك تطورات اقتصادية وسياسية عالمية مقلقة يتعين علينا جميعا خاصة في عالمنا العربي أن نتنبه ونستعد لها، وسوف أحاول أن أعرض لأهمها في شكل نقاط سريعة وأن أوضح رأيي الشخصي في بعضها وهو رأي يحتمل الصواب والخطأ والنقاش بالطبع. وفي نهاية المقال سوف نربط بين ما هو حاصل في الغرب وما لدينا من مشاكل في عالمنا العربي وطريقتنا الفريدة في التعامل معها مع بعض التوصيات.
1- هناك تراجع واضح في العولمة الاقتصادية وسياسات التكامل والتعاون الدولي، وقد بدأ هذا التوجه في الظهور في عام ٢٠٢٠مع بدء وباء الكورونا في الانتشار عبر العالم وما تم من مبالغة في التعامل معه حيث لجأت الحكومات إلى اتباع سياسات حمائية وإغلاقات لا مبرر لمعظمها أدت إلى خراب بيوت الملايين معظمهم من الفقراء، أما الأغنياء فإن لديهم دائما المهارات والقدرات المالية والفنية التي تمكنهم من تحقيق أرباح في أي من الظروف السائدة سواء جيدة أم سيئة، وسياساتهم في هذا تتمركز حول معرفة ما يحتاجه الناس في أي وقت ويبدأون في انتاجه. وعلى سبيل المثال فإن أحد معارفي وهو من أصل هندي يمتلك مصنعا كبيرا لانتاج الصابون والمنظفات وما أن إندلعت أزمة الكورونا وبدأ إجبار الناس على استخدام مطهرات اليد sanitizers”” في كل مكان حتى حول صديقي أحد خطوط الإنتاج في مصنعه لانتاج هذه المطهرات بكميات ضخمة والتعاقد على التوريد مع مختلف الشركات العامة والخاصة، ومن ثم نجح في تحقيق أرباح كبيرة. ولذلك زادت ثروات أغنى أغنياء العالم طوال سنوات الإغلاق بمعدلات كبيرة بينما لم يزد الفقراء إلا فقرأ. كما تسببت سياسات الإغلاق العشوائية في اضطراب سلاسل الامدادات على مستوى العالم وهو ما إدى كما نتذكر جميعًا إلى نقص شديد في الكثير من السلع الحيوية. وهو ما حدا ببعض الحكومات إلى حظر تصدير الكثير من السلع بما فيها اللقاحات وبعض الاجهزة الطبية إلى الدول الأخرى. حدث هذا حتى على مستوى أوروبا. وبالنتيجة بدأت كل الحكومات في مراجعة علاقاتها التجارية مع الدول الأخرى والبدء في خطط جديدة لتلافي الاعتماد على الغير والسعي لتحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي وإعطاء الأولوية لاحتياجات شعوبها. وكل هذه السياسات مناقضة لتوجهات العولمة والتي تدعو إلى الحرية الاقتصادية والانفتاح والتعاون والتكامل.
2- ومن التطورات الهامة الأخرى ما تشهده الصين هذه الايام وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم من انخفاض كبير في معدلات النموالاقتصادي حيث انخفض من متوسط يزيد عن 10%سنويا طوال العقود الماضية إلى ما يقل عن 4% في العامين الأخيرين وبالتاكيد فإن هذا سوف ينعكس بالسلب على الاقتصاد العالمي ككل. ومن أسباب هذا الانخفاض سياسات الاغلاق الصارمة التي تتبعها الصين حتى الآن للقضاء بشكلٍ نهائي على فيروس كورونا حيث يتم إغلاق مدن كبيرة وأحيانا مقاطعات بالكامل لمجرد ظهور حالة واحدة، وهذا نوع من الجنون وهو يساهم بشكل كبير في استمرار اضطرابات سلاسل الامداد باعتبار أن الصين تمثل المصنع الرئيسي للعالم. ونتج عن هذا بدء توجه أمريكا وأوروبا إلى التخطيط لإعادة توطين الكثير من صناعاتها بعيدا عن الصين. ومما يزيد الأمر سؤا السياسة الجديدة التي بدأ الرئيس الصيني الحالي تشي في فرضها وتتمثل في زيادة دور اللجنة المركزية للحزب الشيوعى في إدارة الاقتصاد والسيطرة على البنوك المتخمة بالديون الرديئة والشركات الخاصة الكبيرة، وهذا النوع من التدخل عادةً ما يؤدي إلى تقلص نسبة مساهمة القطاع الخاص في النمو الاقتصادي وانخفاض الاستثمارات الأجنبية. وأود هنا أن أوضح ملحوظة هامة من خلال معرفتي القديمة وزيارتي للصين وهي أن الأخيرة نجحت بشكل باهر بعد تجربتها البائسة مع ماوتسي تونج من خلال الانفتاح على العالم وتبني نموذج رأسمالية الدولة وتطوير البنية التحتية بشكلٍ مذهل والاهتمام بالتعليم وإرسال الشباب الواعدين للدراسة في أمريكا وأوروبا وهوما ساعد الصين على النقل ونسخ الأفكار من الغرب ثم التطوير داخل الصين والتوجه لاستثمار التقنيات والمهارات الصينية في الخارج خاصة في الدول النامية. ومع التوجه الحالي للصين للسيطرة وزيادة نفوذها الدولي والسعي لإعادة ضم تايوان وهونج كونج إليها ضد رغبة شعوب هذه الدويلات، جاء رد فعل الغرب على هذا بالسعي لمحاربة المد الصيني بشكل حثيث وهو ما ينبئ بصراعات دولية كبيرة قادمة. وما أود أن أؤكد عليه هنا هو أن هذه المعطيات الجيوسياسية ستؤدي حتما إلى انخفاض النمو الاقتصادي في الصين وفي العالم لفترة قد تطول.
3- ثم جاءت حرب أوكرانيا لتزيد الأمور سؤا في وجه العولمة خاصة فيما يتعلق بتوفر بعض الحاصلات الزراعية الاستراتيجية ومن أهمها القمح وحبوب عباد الشمس التي يصنع منها زيت الطعام والتي زادت أسعارها بشدة بسبب ارتباك الصادرات الضخمة التي ترد من أوكرانيا. كما زادت أسعار البترول والغاز الطبيعي بسبب وقف جزء كبير من الصادرات الروسية إلى أوروبا ولجوء منظمة الأوبك إلى تخفيض انتاجها من النفط الخام من أجل زيادة الأسعار والاستفادة من الحرب لتحقيق أكبر قدر من الأرباح على حساب الدول المستوردة خاصة الفقيرة منها. ومن يتابع هذه الأيام الأرباح المعلنة لشركة أرامكو وشركات البترول العالمية الأخرى سوف يصاب بالذهول، وعلى سبيل المثال فقد وصلت أرباح شركة BP البريطانية في خلال ربع واحد إلى ١٠ بليون دولار يذهب معظمها إلى المساهمين والمديرين وجزء صغير يذهب لتطوير مصادر الطاقة المتجددة حتى يتهربوا من الضرائب العالية التي يهددهم بها الرئيس بايدن، إنها غريزة الطمع بلا حدود والتي ستدمر العالم. ومن العلامات الأخرى والهامة لتراجع العولمة أن التجمعات الدولية التي كانت قائمة على أساس التعاون الاقتصادي والتكامل تعيش حاليا حالة من الجمود ومنها على سبيل المثال تحالف BRICS والذي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا حيث لم نعد نسمع عن إي نشاط له وذلك لانشغال كل دولة بمشاكلها وهذا شيء طبيعي، ففي وقت الأزمات ننكفئ على أنفسنا ولا نفكر في الآخرين كثيرا، عملا بمبدأ إذا لم تكن لنفسك فلمن تكون! ولكن عندما تصل الأنانية إلى حد التربح من معاناة الآخرين فإننا نصبح مثل وحوش الغابة.
4- والآن يشهد العالم خاصة الغرب موجة تضخمية لم تحدث منذ أكثر من أربعين عاما ومما زاد من حدتها تأخر إو تلكؤ البنوك المركزية في التعامل معها خاصة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي قام مؤخرا برفع سعر الفائدة أربع مراتٍ متتالية وذلك للحد من السيولة ومن الطلب على الإئتمان، وكان لهذه السياسة النقدية الأميركية أثر سلبي على العالم كله نتيجة لارتفاع سعر الدولار وما تبعه من ارتفاع أسعار كل السلع المقومة به وزيادة قيمة ديون العالم الثالث الموقعة بالدولار, وهكذا تم تصدير التضخم الغربي إلى الدول الفقيرة وإلى حد ما الدول الأوروبية التي تضغط على أمريكا الآن للتوقف عن زيادة أسعار الفائدة.
5- وبالإضافة الى ما سبق من تحديات، هناك تحديات مستقبلية أخطر مثل التغير المناخي ومشكلة ارتفاع نسبة المسنين وقلة الانجاب في الشمال ونحن هنا نتحدث عن أمريكا وأوروبا والصين واليابان وهي المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي في العالم. ويقابلها ارتفاع نسبة الشباب وزيادة نسبة المواليد في الجنوب وهي مشاكل وجودية وهيكلية تتطلب زيادة الانفاق العام بشكلٍ ضخم عبر العالم لرعاية المسنين في الغرب وزيادة الإنتاجية بأي شكل اعتمادا على التكنولوجيا في ظل انخفاض نسبة الشباب. وهنا في الغرب فإنهم يخططون لكل شيءٍ عكس الحال لدينا كعرب حيث لا يوجد تخطيط طويل الأمد وموارد مخصصة لاستيعاب ورعاية الملايين القادمة من صغار السن. وحتى الآن ليس لدينا سوى الصراعات المعقدة التي لا تنتهي والاستبداد المتأصل والفساد وسؤ إدارة المرارد المحددة والهشة وأصبح التخطيط للمستقبل نوع من الرفاهية وليس ضرورة حيث هناك ما هو أهم وهو الحفاظ على أمن أنظمة الحكم.
6- ومع التأثيرات الخطيرة للتغير المناخي على الحاصلات الزراعية وما قد يجلبه من أوبئة جديدة وقلة المياه العزبة والتي لا تزيد عن 5% من مجموع المياه الضخمة التي تملأ البحار والمحيطات، هذا بالإضافة إلى الزيادة السكانية لدينا والتي تعتبر الأعلى في العالم. ومن ثم فإن التحدي القادم والذي ينبغي أن نتنبه ونخطط له بلا تأخير ونخصص له كل ما يمكن من موارد هو تحدي الأمن الغذائي والمائي. وللأسف فإننا لم نسمع عن إي بلد عربي يخطط لمجابهة هذا التحدي بجدية وبشكل علمي، وربما أكون مخطئًا في هذا بحكم الغربة وأتمنى فعلا أن أكون مخطا في هذا الشأن.
ويلاحظ مما سبق أن مشاكل الشمال المختلفة تؤثر علينا دائما، أما مشاكلنا فإنها لا تؤثر عليهم بنفس القدر بسبب تبعيتنا الاقتصادية لهم، بمعنى أنه كتب علينا أن ننتبه لمشاكلنا ومشاكلهم في نفس الوقت.
وعندما ندقق فيما سبق سنجد أن أهم مشكلة اقتصادية تواجه الغرب حاليا هي التضخم والخوف من أن يتحول إلى كساد بسب الارتفاعات المتتالية في أسعار الفائدة وهي السياسة النقدية المفضلة للبنوك المركزية لاحتواء التضخم وحماية الفقراء ومدخرات الطبقة المتوسطة منه. ولكننا هنا نقول ونؤكد إننا في العالم العربي نعاني من التضخم بشكل دائم وقديم والسبب هو لجوء الحكومات لدينا لسياسات التمويل بالعجز بلا قيود لتحقيق التوازن الحسابي في ميزانيتها من خلال طبع نقود جديدة دون غطاء انتاجي وهو ما يجعل التضخم مشكلة هيكلية اعتدنا عليها. والحقيقة أن لدينا أيضا مشاكل أخطر من التضخم مثل الفقر المدقع والبطالة واللامساواة الرهيبة في كل شيء بين الفقراء والاغنياء والتي تمتد لتشمل ليس فقط الدخول والثروات، ولكن أيضا التعليم والخدمات الصحية والإسكان والوظائف….الخ. واللامساواة الفجة لدينا والمبالغ فيها تكون مصحوبة عادة بالفساد وسؤ إدارة الموار المالية والطبيعية المحدودة لدينا، وهذه المشكلة الخطيرة تنذر بتبعات خطيرة وهي تشبه البركان الذي يمكن أن يندلع في وقت.
7- وفي رأينا فإن أكبر درس يمكن أن تتعلمه حكوماتنا مما سبق هو ألا تعتمد في تلبية الاحتياجات الحيوية لشعوبها على طرف أو مصدر واحد مهما كانت متانة ما نحب أن نسميه كعرب بالعلاقات التاريخية القديمة لأنه ثبت ولمرات عديدة أن لا أحد يتذكر هذه العلاقات التاريخية عندما تتعارض مع المصالح الحالية وفي وقت الأزمات. وما هو أفضل بكثير لدولنا من نغمة العلاقات التاريخية هو ما يلي:

  • أن تسعى الشعوب ومنظمات المجتمع المدني بشكل سلمي للخروج من مستنقع الاستبداد الذي هو أم المشاكل لدينا وفي ظله لن نحقق أي تقدم لمجتمعاتنا.
  • تعزيز وتوسيع القاعدة الإنتاجية للدولة لخلق وظائف جديدة للشباب العاطل ولتحقيق قدر معقول من الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي والمائي ولن يتحقق هذا دون إنشاء بنك عربي للتنمية تسهم فيه الدول العربية البترولية بالنصيب الأكبر من التمويل المدعوم لمساعدة الدول العربية الفقيرة على البدء في حل مشاكلها، وهذا البنك سوف يكون مخصص للدول العربية فقط وطريقة عمله سوف تختلف عن البنك الإسلامي للتنمية الحالي. وهذا أفضل استثمار يمكن أن تقوم به الدول العربية البترولية لأنها ستسترد أموالها من خلال بنك التنمية العربي الذي نقترحه وبعائد مناسب ويمكن أن تستفيد من المشروعات الجديدة وتستثمر بها إن أرادت وهذا يعزز من أمنها القومي.
  • الادخار وبناء احتياطيات نقدية حقيقية ومتنوعة ومستدامة بدلا من الاعتماد على القروض والمنح من الخارج وذلك استعدادا لما هو آت من أيام صعبة.
  • كما أنه آن الأوان أن يكف العرب عن البذخ الذي يصل إلى حد السفه والانفاق على المشاريع المظهرية المكلفة والأسلحة غير الضرورية والتنافس على ضرب الأرقام القياسية في بناء أعلى مبنى في العالم وأسرع قطار لا لشيء سوى الذهاب بسرعة للقاء الأصدقاء في المقهى، وهؤلاء من أسميهم “بالمستعجلين بلا قضية” والتنافس على بناء أكبر مسجد وأكبر كنيسة…الخ لأنني أخشى أن ينتهي هذا التنافس بحصولنا على جائزة أكبر خابور في العالم، والخابور في العامية المصرية هو الخازوق.
    ولعلي أختم مقالي بالتعليق على ما ورد في التوصيات الختامية التي صدرت عن اجتماع الجامعة العربية أمس في الجزائر والذي فرحت بما ذكر فيه عن ضرورة الاهتمام بالأمن الغذائي والمائي في العالم العربي وهي المشكلة التي ذكرتها في هذا المقال قبل أن أقرأ البيان الختامي. ولكن فرحتي تحولت إلى خيبة أمل كبيرة عندما لم أجد أي آليات أو برامج عمل أو آجال أو ميزانيات تم الاتفاق عليها بين الأعضاء لتحقيق الأمن الغذائي والمائي المنشود! وحتى عندما تعرض البيان للمشكلة الفلسطينية أوصى بتشكيل لجنة لحل المشكلة دون أي تفصيلات عن هذه اللجنة الغامضة وما سوف يتاح لها من إمكانيات لمساعدة الفلسطينيين للحصول على حقوقهم! والحقيقية أنني رجعت إلى آخر بيان صدر عن الجامعة بخصوص القضية الفلسطينة منذ ثلاث سنوات فلم أجد أي شيءٍ جديد في البيان الأخير سوى الشعارات التي لا تزال مرفوعة منذ نصف قرن.

‏‏‏محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى