ثقافة

بيّاضة وادي سوف..أمرَاء المحبّة والمقاومة القادرية رباط الصّبر وخيمة الخير

كانت بداية رحلتي السّوفية بزيارة مقبرة شُهدائها المنعمّين المبررّين في مدخلها، وكانت الجلسة الرّوحيّة في زاوية الهاشمي الشّريف القادرية التي تحكي قبّتها وجدرانها سيرة مؤسّسها الصّوفي المجاهد (ت 1923) وابنه عبدالعزيز المنفي بتونس (ت 1965)، ووجدنا شيخها (مقدّمها) وإمامها التّواتي وطلبة مسافرين يرابطون من أجل القرآن الكريم وعلومه ومنهم القادمون من تمنراست ونواحيها، فقد كان الطّوارق دوماً مخلصين للهاشمي الشّريف ومشايخ الوادي من تيجانيين وطيبيين ورحمانيين.
كانت الزيارة بتنسيق سابق مع الشيخ الحساني الحسن الخليفة العامة للقادرية بالرّويسات (ورقلة) وإدارة الجامعة وفريق المعرفة والمكلّف بالإعلام في الزاوية عمارة بن عبد الله ومدير الشؤون الدينية والأوقاف، زُرنا الزاوية وقدم شيخها القائم عليها طلبتها كما أهدى لنا كتابين للمرحوم الدكتور حسان الجيلالي وموضوعهما حياة الشريفين الهاشمي وابنه عبدالعزيز –رحمها الله-
وزرنا الضّريح وعشت لحظات استذكر فيها عُمْراً حافلاً عاشَه صاحِب القبْر في سبيل نشْر القِيم الرّوحية والدّفاع عن الوطن وإطعام المساكين وفضّ النّزاعات كما كان يُرسل الشّباب السّوفي المتطوع من أجل المقاومة في ليبيا (غدامس) التي تزعمها سليمان الباروني، وكيف شرّدته فرنسا منفياً إلى العاصمة وتوقرت وسكيكدة والأغواط، وكانت رحلة النّفي نفعاً لهذه البقاع فأسّس بها الزوايا –المدارس القرآنية وكسَب مريدين وأتباعاً.
إن الشّيخ زعيم هدّة (انتفاضة) 1918 في نسَب أسلافه جغرافياً ينتمي لكلّ البلاد الجزائرية، فجدّه الأول المذكور سيدي أحمد الكبير (دفين البليدة) وانتقل بعضهم نحو طولقة وبسكرة ووالده إبراهيم أسّس في نفطة التونسية الزاوية القادرية الأم وأوصى بنيه بنشر طريقته وبناء فروع زاويته بمدن الجزائر، فكان الابن الهاشمي مؤسساً لزاوية ظلت رمزاً للمعرفة والجهاد والإصلاح في البياضة –بيّضها الله بالعلم دوماً-.
قصة الشيّخ بإيزابيل أبراهاردت رمزية للعلاقات الإنسانية وتسامي الإسلام في القبول بالآخر، إنه الحبّ الذي ربطها بعشيقها سليمان هنّي الذي صار زوجها وبسلوك طريق القادرية وهي محبة فناء آخر، هذا يستدعي ذاك وبحبّ الشيخ الشّريف الذي رعاه وأقرضها المال في الشدّة ودافع عنها، وبحبّ رمال الوادي وأهلها وتمورها وقبابها، إيزابيل إبرهاردت خلاصة عشق ربّاني تتداخل فيه أنواعٌ من الحبّ الإنساني، هي نفَسٌ يحيا بأنفاسِ أهل سوف وشيوخها ورمالها في زمن كان فيه الغرب وفرنسا رمزاً للكراهيّة والضّغينة، إنّها السّلام القادم من هناك في العالم المادي ولكنّها في العالم الروحاني رسالة من الحقيقة الإنسانية في كون الحبّ هو الأصْل، والسّلم هو الفطرة، في هذه الأجواء من المحبّة سَوف نكون أمام لالّة زهور التي تتولّى الزّاوية والمشيخة -مثل لالّة زينب في الهامل (بوسعادة) وما أكثرهن لالات (سيدات التّصوف)- في زمن نفِي والدها وغياب أخويها في الزّيتونة من أجّل التّحصيل العلمي، وستكون الممدوحة والمتغزّل بها في قصائد شعرية جميلة من ابن عمّها ويعشن شاعرات هذا الحبّ المفعَم بمحبّة الرّتبة الصُّوفية التي نالتها ابنة الشّريف، ويجلسْن صويحباتها ومريداتها يردّدن قصائد المدح النّبوي والحبّ الذي يشبه كثبان رمال الوادي في جَمالِه وقوّته، إنّه مثل جُود النّخْل وحلاة تمْره.
لقد كتب عنه الشّيخ ابن باديس ورثاه وقال عنه:” كان رجلاً ذكياً واسِع الحيلة …وأدرك أنّ المستقبل للعلم”، وصدق في قوله فقد حبّس مالَه وأرزاقَه للطّلبة الذين يُكملون دراستهم في تونس وأوصَى أنّ المشيخَة لا يَرثُها إلّا العلماء واشترط حينها الشّهادة التّطوعيّة فكانت الوراثة لابنه عبدالعزيز رغم صِغر سنّه عن أخيه الأكبر عبدالرزاق، عبدالعزيز الذي سينظم لجمعية العلماء المسلمين ويجمع بين انتمائه الصوفي ومنهجه الاصلاحي .

بومدين بوزيد-مفكر جزائري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى