أحوال عربيةالعالم

بين لوس انجلس وغزة

هيثم بن محمد شطورو

و إن كان من كارثة وجدناها ما وراء كارثة الحرائق في الولايات المتحدة الأمريكية، فهي رد فعل بعض من يدرجون أنفسهم في خانة المثـقـفين و المثـقـفين العلمانيين، من هجوم لفضي على من اعتبر كارثة لوس انجلس انتقاما إلاهيا لأهل غزة لما لحقهم من دمار وتجويع وتـقـتيل وهدم بيوت واختصارا ومثلما وصفته محكمة الجنايات الدولية من حرب إبادة.
من المعلوم أن منطق الحكم بالتكفير هو اختصاص إسلاموي، ونلوم في ذلك عدم انفتاحه على النقاش والتوجه إلى السب والشتم والتكفير، وهو منهج يغلق العقل عن الانفتاح في الجدال والتحليل المنطقي والعقلاني للأمور. اليوم وجدنا نفس هذا النهج اللإقصائي عند بعض العلمانيين او المدرجين أنفسهم في هذه الخانة وهم يستـنكرون منطق التكفير وإذ بهم ينهجون نفس الطريق الإقصائي للتـفكير والتحليل، ونعت كل من قال أو فكر ما بينه وما بين نفسه أن الكارثة عقاب إلاهي.. عقل حقير. عقول غبية. جهلوت..وغيرها من التوصيفات.. بل أكثر من ذلك فانك تجد انغلاقا في التفكير في مواجهة أي تحليل، وهم بذلك يستـنون لأنفسهم نفس منهج التـفكير الأعمى القائم على الغضب وليس التـفكير. وحين نتحدث عن الغضب فإننا نتحدث عن غريزة الحرب. إذن هو اشهار السيوف وليس اشهار العقول..
انها كارثة طبيعية . يمكننا أن نقف هنا لو كنت في جزيرة من الجزر أو في مكان لا يمثل أي معطى سياسي. هذه الكارثة في الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الكارثة نيران أحالت مدينة لوس انجلس إلى دمار شامل. المدينة الأمريكية في مشهد جحيمي مروع جدا. انها الصورة التي رأيناها في غزة. نفس المشهد الجحيمي يقابل نقيضين على نفس المستوى .غزة المدمرة بفعل القنابل الأمريكية ولوس انجلس الأمريكية تتعرض لنفس الدمار و الحرائق والنيران التي عجزت أمامها أقوى دولة في العالم وأكثر دولة مجرمة في حق العرب المسلمين. الله أقوى من أمريكا وغيرها. الله انتـقم لغزة وفي بضع أيام يعصف بها نارا ولهيبا. الخير الأسمى يردع الشر. الحق الفلسطيني في الحياة و الحق في أرضهم والحق في قلوبهم بإيمانهم القوي برب العزة يحرق أمريكا.
نعود لنفكر بموضوعية. هناك إقرار بأن الكارثة سابقة في شراستها وقوتها وامتدادها. لماذا ؟ إلى غاية الآن لا إجابة. و لكن أكيد أن الإجابة تحوم حول معيار الدرجة وليس عن الظاهرة فهي معلومة. أيا كانت الإجابة العلمية فهي لن تجيب عن سؤال: لماذا كان الإعصار بهذه الشدة على الولايات المتحدة الأمريكية وفي هذا الوقت الذي لازالت فيه غزة تتعرض للتدمير بفعل السلاح الأمريكي؟ هل يتوجب على العقل أن لا يطرح مثل هذا السؤال أم أن هذا السؤال يطرح نفسه آليا؟
إذا كنت ملتـزما بالتـفكير العلمي فيجب عليك أن تحجب هذا السؤال الذي يطرحه العقل. وهنا فمن البين أن العقل يفكر خارج كل التصنيفات ولكن التـفكير أو طريقة التـفكير التي يحددها الإنسان لنفسه بإرادته هي التي تحدد عمل التـفكير بحيث يطرح كثيرا مما يفرضه العقل في عمله الحر من كل تصنيفات في النهاية. مثل الملتزم بالتـفكير الديني فيقول لك هذا حرام وكفى وهو بذلك يغلق العقل أو يطرح منه ما يفرضه من تفكير حر من كل طريقة محددة يفرضها الإنسان على نفسه. و بالتالي فإن من يفكر وفق ما طرحه العقل في سؤالنا عن الإعصار الذي أصاب أمريكا مستـنسخا نفس المشهد بما أحدثت قنابلها في غزة هو في الحقيقة ليس من يفكر بغير ما يطرحه العقل، والإجابة التي تقول أن الله أقوى وأجل وهو القادر القهار وهو المنتـقم للحق الذي وقف عنده الفلسطيني المقاوم مؤمنا صابرا معجزا العجز باثا الرعب في قلوب أعدائه، هي من بنات العقل الإنساني سوى أنه فكر بطريقة ميتافيزيقية أحلت الله مباشرة في الصراع. أين الغرابة في ذلك. كل البشر لهم تـفكير ميتـافيزيقي يظهر بشكل أو بآخر.. هل من يفكر خارج دائرة العلم هو جاهل؟ ثم ان العلم قاصر عن البحث الميتافيزيقي فهل يتوجب على العقل أن يحصر نفسه في نفس الدائرة القائمة على الإدراك الحسي؟ ثم اذا كان العقل في ذاته أصلا معطى غير فيزيقي فكيف تريد تحديده في الفيزيقي لتوسم نفسك في خانة العالمين المثـقـفين المتـنورين الحداثيين الغربيـين الجميلين الرائعين الإنسانيين؟؟ وهذا الكلام طبعا لا يعرف أزمة الفكر الغربي اليوم ولا يعرف تنوعه وميتافيزيقاه.. بل أكثر من ذلك فهناك من العلماء من ذهب من خلال بحوثه العلمية إلى العبور الى ناحية التـفكير الميتافيزيقي. فهذا عالم الأعصاب “بنفليد” يقول: ” إنه أقرب إلى المنطق أن نقول إن العقل ربما كان جوهرا متميزا ومختلفا عن الجسم. طوال حياتي العلمية سعيت جاهدا كغيري من العلماء إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل، لكن يا له من أمر مثير إذن أن نكتـشـف أن العالم يستطيع بدوره أن يؤمن بحق بوجود الروح”. فالإرادة البشرية والعقل البشري حقيقتان غير ماديتان.
ويقول السير “تشارلز شرنغتون” الذي يُعتبر مؤسس فسيولوجيا الأعصاب الحديثة :” هكذا ظهر فرق جذري بين الحياة والعقل فالحياة هي مسألة كيمياء وفيزياء، أما العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء.. أي أن وحدة التجربة الواعية يتيحها العقل الواعي نفسه لا آلية الأعصاب”. و يقول الفيلسوف الفرنسي برغسون: ” الدماغ لا يحدد الفكر و أن الفكر مستقل عن الدماغ في جزء كبير على الأقل”..
إذن فالعقل البشري في ذاته هو معطى ميتافيزيقي محشور جزء منه في الحسي أو بالأحرى وتحديدا أكثر منطقيا فالحسي وفق آليته يأخذ قدرا معينا من الميتافيزيقي يفكر به بمحدودية. وهذا يحيلنا إلى بقية الملكات. فالعين ليست هي التي أنتجت الإبصار وإنما هي الآلة الحسية التي نبصر بها وفق حدودها أما الإبصار في ذاته فهو أشمل فالملكة هي أعم وذات أصل ميتافيزيقي، ويقول ربك في قرآنه أن الإنسان حين يموت يكون بصره حديدا أي قويا حين يتخلص من المحدودية التي تفرضها الآلة الفيزيقية. وهكذا فوجودنا الأرضي برمته محدودا نتيجة محدودية الآلة البدنية الفيزيقية..
فهل يكون التفكير العقلي الحر من الفيزيقي غير معقول أو ينم عن حقارة العقل؟ إذا كان الأمر كذلك والعقل بذاته ليس معطى فيزيقي، فالعقل حقارة بذاته. حقارة تجاه الادراك الحسي والانفلات منه. الادراك الحسي الذي هو عنوان الحداثة والعلم وبالتالي الحضارة والإنسانية المهذبة، وهذا طبعا أمر محال لأن الحداثة هي أصلا تنعت نفسها بالعقلانية التي حاولت حصرها في المنطق الوضعي برغم أن العقلانية أشمل من ذلك بكثير..
و الحق يُقال، أن القول بالانتقام الرباني من أمريكا يبقى منطقيا في دائرة الممكن وليس التأكيد إذا فكرنا بموضوعية، فالتأويل الميتافيزيقي هو بشري ومن الممكن أن يكون صحيحا في بعض جوانبه ولكن لا يمكن الإقرار بصحته، فنقول أن الأمر ممكن ولكني كعلماني لا أؤمن بذلك. العلمانية كشكل مذهبي سياسي في التفكير هنا ولكنها لا تعني العقلانية أو احتكار العقل .. وإذا كنا في محراب العقلانية في التفكير فإن المنطق السليم يفرض احترام العقول واحترام جراحات الناس واحترام الأمل الإنساني في إحقاق الخير والأمل في الله الخير العادل، وحين تخاطب مسلما أو عربيا مسلما فالتفكير الميتافيويقي مستوطن فيه بشبه امتلاء فليس ذلك من مأتى الغرابة في شيء. أما الله القادر على كل شيء والمتسبب في كل شيء فهي راسخة في التفكير الإسلامي سواء قرآنيا أو في الثقافة الإسلامية التي انبنت عليه، بما في ذلك الفلسفة الإسلامية ورمز العقلانية الإسلامية التي أيقظت العقل الأوربي من سباته الدغمائي، ابن رشد يقول: ” ينبغي أن نعلم أن من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله في مسبباتها أنه قد أبطل الحكمة و أبطل العلم”.. فكيف تنكر أيها العلماني العقلانوي من يفكر في كون الله وراء المظاهر الطبيعية برمتها وتصفه بالحقير، وفي نفس الوقت تفخر بابن رشد كرمز للعقلانية الإسلامية؟؟
والحق يٌقال أن الحقير هو من لا يحترم الذات الإنسانية ولا يحاول أن يتـفهمها. الحقير من يجعل نفسه وصيا على الناس في تفكيرهم وإيمانهم ومشاعرهم، وبالتالي يجعل من نفسه أرفع من الناس وهميا بنرجسية مغرورة هي الحقارة ذاتها…و أخيرا فالعقلانية تفترض النقاش و الجدل وليس الحكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى